تاريخ الحياة المكرسة (22): القرن العشرون
الحياة النسكية في القرن العشرين
- الثورة الفرنسية وأثرها على الحياة المكرسة
كان للقيام الثورة الفرنسية أثرًا مباشرًا في اِخماد إزدهار الحياة المكرسة في أوريا، فقد مَّنَعت الثورة النذور الرهبانية التي عدت مُعَارضة لحقوق الإنسان في التمتع بالحياة. وأجبرت الراغبين في مواصلة الحياة الرهبانية بأن يعيشوا مختبئن هربًا من الإعتقال، الأمر كان له أثرٌ مباشرٌ في إنخفاضٍ شديدٍ في أعداد المكرسين والمكرسات في المحيط الأوروبي. الإحصائيات المتوفرة لأعداد المكرسين عشية اندلاع الثورة تتجاوز مئتي ألف مكرس في عام 1775، بقى منهم ما يقل عن سبعون ألف فقط بحلول العام 1850.
تعرضت الحياة المكرسة إلى هزة عنيفة مع اندلاع الثورة، فقد نُهبت أملاك الأديرة والثروات الفنية الموجودة بها ودمرت أديرة أخرى وحولت البقية الباقية لاستخدامات أخرى وإنهارت جمعيات ومنظمات رهبانية عديدة.
إلا أن العناية الإلهية ساعدت في أن تكون الثورة الفرنسية وأثرها السلبية تلك، نقطة إنطلاقة لتطور أخر في الحياة المكرسة ذاتها. خرجت الحياة الرهبانية من المحنة سريعًا، وعاد الكثيرين إلى روحانيةالرهبانيات القديمة، وظهرت أنماط جديدة، وخرج الكثير من الجمعيات الدينية الصغيرة، التي تكونت، بطريقة سرية، في عهد الثورة إلى النور مستندة على تيارات الروحانيات الأصيلة، كالأغناطية والدومنيكانية والفرنسيسكانية. ساهمت تلك الجمعيات في إعادة الممارسات الدينية، التى تزعزعت في عهد الثورة، وعملت على بث روح التقوى والإيمان في نفوس الشباب المنتمين لمدارس الدولة، وسعت إلى إمدادها بمدرسين ومدرسات التعليم الإبتدائى، رغبة في تغير الفكر المناهض للكنيسة بصورة عامة، وللحياة الرهبانية بصورة خاصة، مما كان له عظيم الأثر في نفوس الأجيال الجديدة. تمكنت المنظمات الرهبانية بحلول العام 1833، من إنشاء مدارس خاصة بها، هدفت بالدرجة الأولى للتكوين الروحي والأخلاقي للشباب، وكان لهذا عظيم الأثر في إعادة البناء الدينى في فرنسا خاصة وأوربًا عامة بعد زوال الثورة.
أهم مميزات تلك الجمعيات الرهبانية الجديدة هي القراءة الجيدة لعلامات الأزمنة واحتياجات الكنيسة والمجتمع الذي تعيش فيه. فكثر عدد المنظمات المهتمة بالحقل التربوي للنشئ والشباب، كذا التكوين الجيد للعاملين بالحقل التعليمي مما ساهم في تجاوز كبوة الثورة الفرنسية وأثارها على الحياة المكرسة. وعلى رأس تلك الجمعيات ما أسسه يوحنا بوسكو وجماعة الساليزيان في العام 1859.
حدث تطورًا أخر هام مواكِبًا للحركة التعليمية وأزدهارها على يد الجمعيات الرهبانية الجديدة، وهو تنامي الحركة الإرسالية للعالم الجديد. ظهرت جمعيات هدفها الرئيسي هو الرسالة في بلادٍ جديدة، مثل المرسلين الكومبنيات، بقيادة القديس دانيال كمبوني، في العام 1867، والأباء البيض (مرسلون أفريقيا) في ذات العام، والمرسلون الفرنسيسكان لوالدة الله في العام 1877.
بلغ عدد الجمعيات والمنظمات الرهبانية النسائية أكثر 750 جمعية مصدقة من الكرسي الرسولى وإستمرت تلك الظاهرة في النمو المطرد في القرن العشرين والذي شهد تأسيس 650 جمعية أخرى نالت الاعتراف البابوي حتى العام 1990. وتشابهت تلك الجمعيات في الاهتمام بمجالات التعليم والتربية والصحة ورعاية الأيتام والفتيات والفقراء، بالإضافة إلى العمل الرسولى المعتاد كالتعليم المسيحى. تدين المجتمعات الحديثة في بلدان العالم كله لتلك الجمعيات بمظاهر الحاضرة الحديثة في مجالات التعليم والثقافة والصحة، وعبرت عن تفاني المكرسين في خدمة الآخرين ونشر فرح الإنجيل في ربوع الأرض كلها.
- الهيكل الداخلي للجمعيات والمنظمات الرهبانية
بالرغم من أعمال المحبة التي ميزت جمعيات ومنظمات الحياة الرهبانية إلا أن هيكلها التنظيمي الداخلى لم يأتى بجديد، فنمط الحياة لعدد كبير من تلك الجمعيات مستوحى من روحانية الرهبانيات الكبرى مثل الفرنسيسكان واليسوعيين والدومنيكان. هناك تكرارًا لأنماطٍ سابقة مع إجراء بعض التغيرات الغير جذرية مثل؛ تغير شكل الثوب الرهباني؛ نظام الحياة اليومية داخل الأديرة؛ روحانية وأشكال التعبد. اِهتمت الجمعيات والمنظمات النسانية، على وجه الخصوص، بتفاصيل البرنامج اليومي، فغرقنَّ في الجزئيات واِبتعدنَّ عن الأصول، فلم يعد يحتل الصمت ذات الأهمية التى كان يحتلها في الإنماط السابقة؛ كذلك روح البساطة والزهد واِنغمسنَّ في واجبات كثير وغرقنَّ في تفاصيل الحياة الإعتيادية.
- القرن العشرون
يصل بنا المطاف أخير إلى القرن العشرون، والذي شاهد بزوغ فجر الروحانية الفرنسية التي قادت قاطرة الحياة المكرسة في ذلك الوقت، بالعودة إلى الحياة التأملية وبيّان فعاليتها في عصر ازدهار التكنولوجيا الذي ميز هذا القرن. لخص إيـﭯ كونغار هذا الأمر بقوله: “إن النار التي أرسلتها يد الله لتشتعل في بداية عصر الذرة تسمّى تريزا ليزيو وشارل دو فوكو”. كان لتكالب الأنماط الجديدة على مجالات الخدمة والرسالة والاهتمام بحقول التعليم والصحة وفقدان أهمية التأمل والصمت، سببًا في العودة إلى الحياة التأملية بقيادة هاتين القامتين.
-
- القديسة تريزا دي ليزيو
إن القديسة تريزا دي ليزيو هي مصباح الروحانية الكرميلية الثالث بعد القديس تريزا الأﭬـيلية والقديس يوحنا الصليبي. فعلى الرغم من أنها عاشت في القرن التاسع عشر (1873- 1897) فإن تأثيرها في القرن العشرين دائم وملحوظ. ولدت تريز في الثاني من يناير 1873 في ألنسون، مدينة في قطاع النورماندي في فرنسا. وهي الابنة الصغرى للويس وزيلي مارتن، زوجين ووالدين مثاليين، اعلان البابا فرنسيس قداستهما في 18 أكتوبر 2015. أنجبا تسعة أولاد؛ مات منهم 4 في صغرهم. وبقيت خمسة أخوات، صرن جميعهن راهبات. عاشت القديس تريزا، في هذا العالم 24 سنة فقط، في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت حياتها بسيطة جدًا وخفية، ولكن بعد موتها وبعد نشر كتاباتها، أضحت من أشهر القديسات وأحبّهنّ، لدرجة أن البابا يوحنا بولس الثاني، في عام 1997، أراد أن يعطيها لقب ملفانة الكنيسة، إلى جانب كونها شفيعة الرسالات، كما أرادها بيوس الحادي عشر في عام 1939.
لم تنل القديسة تريزا من النعمة أيّ مواهب فائقة، ولا اختبرت سموًّا رفيعًا في الاتحاد الصوفي، بل قدمت نموذجًا رائعًا “للنفوس البسيطة” وامكانية الوصول إلى القداسة من خلال الوفاء للواجبات اليومية التي تفرضها حالة الشخص الحياتية، وأهمية الحب لأنه قوة محفِّزة، وتنمية ثقةٍ بنوية بالآب السماوي. لذلك أعن البابا بيوس الحادي عشر أن نموذج روحانية تريزا هو “تعبير عن التعليم الأساس للإنجيل”. وتقول القديسة تريزا نفسها: “لم أعطِ الإله الصالح شيئًا غير الحب، وسوف يرد لي بالحب”.
إن القديسة تريزا الطفل يسوع هي قبل كل شيء رسولة المحبة، وشاهدة على الشعار اللاهوتي الذي يقول إن العمل لا يجعلنا قديسين بل المحبة. وبسبب حبها الطفولي للأب السماوي وثقتها به، صارت قادرة على ممارسة الاستسلام الكامل للمشيئة الإلهية، واعتناق دعوتها بكل قلبها في ان تكون نفسها ذبيحة. فمن خلال تفاديها كل حظوةٍ فائقة، وممارستها للمهام اليومية بإخلاص كامل، منحت الرجاء والتشجيع لكل “النفوس البسيطة” التي تسعى إلى اتباع المسيح من خلال القيام بأعمالها الاعتيادية بطريقةٍ فائقة للعادة.
تعبر تريزا في الأسطُر الأخيرة من “قصّة نفس” عن منهج روحانيتها بهذه الكلمات: “حالما أُلقي نظرة على الإنجيل المقدّس، أتنفّس فورًا عطور حياة يسوع وأعرف إلى أيّ ناحية أجري… ليس إلى المقام الأوّل، بل إلى الأخير أنطلق… نعم، إنّي أشعر بهذا: حتّى ولو كانت على ضميري كلّ الخطايا التي يُمكن ارتكابها، أذهب، بقلب تفتّته الندامة، لأُلقيَ بنفسي في أحضان يسوع، لأنّني أعرف كم يحبّ الابن الضال الذي يعود إليه” (Ms C, 36v-37r). “الثقة والمحبّة” هما جوهر روحانية الطفولة الروحيةإنّها ثقة كثقة طفل يُلقي بِنفسه بين يدَي الله، لا ينفصل عن الجهد القويّ والجذريّ للمحبّة الحقيقيّة، التي تتمثّل بالعطاء الكامل للذات، إلى الأبد، كما تقول القدّيسة وهي تتأمّل مريم: “المحبّة هي عطاء كلّ شيء، وعطاء الذات” (لماذا أحبّكِ، يا مريم، P 54/22). هكذا تُشير تريزا إلى أنّ الحياة المسيحيّة تتمثّل في عيش نعمة المعموديّة بالملء في بذل كامل للذات لِمحبّة الآب، كي نعيش مثل المسيح، في نار الروح القدس، محبّتَه نفسها لِكلّ الآخرين.
-
- شارل دو فوكو
ولِدَ شارل دو فوكو في العام 1858 بستراسبورغ، في عائلة ارستقراطيّة فرنسية ثرية. فقد والديه وهو بعد في السادسة من عمره. فتعهّد جدّه في تربيته تربية مسيحيّة. ولكنه ابتعد عن الايمان في مرحلة مراهقته تدريجيا حتى فقده تماما. ولما تخرج ضابطا، استسلم لحياة ماجنة، لا أثر فيها البتة لأي شعور ايماني، فلم يلق سوى الفراغ. قدم استقالته رغبة في القيام برحلة استكشافية علمية الى المغرب العربي بين العامين 1883 و1884، ونال على اكتشافه وسامًا من الحكومة الفرنسية.
في العام 1886 اهتدى من الإلحاد، وفكر في اعتناق الحياة الرهبانية. حج إلى الأراضي المقدسة وقصد إلى بيت لحم ليحتفل بميلاد الرب حيث وقع أسير “التواضع غير المحدود”، ثم الناصرة التي فيها فهم شارل ما هي دعوته، كما يُعبر هو بكلماته: “دعوتي… تخيلتها وتصورتها إذ كنت أتجول في أزقة الناصرة، تلك التي وطئتها قدما ربنا الحِرَفي الفقير”. عاد إلى فرنسا فدخل دير الترابيست. وبعد ستة أشهر، انتقل إلى دير الترابيست في سوريا حيث أبرز نذوره في العام 1892.
عجزت الحياة الترابيستية في تحقيق حلم شارل دو فوكو والتمثل الكامل بحياة يسوع الناصري. فعزم على تأسيس رهبنةٍ خاصة به لا يكون فيها تمييز بين الرهبان والإخوة العلمانيين ولا ترنيم للفرض الإلهي، ويعيش فيها الرهبان من عمل أيديهم. فترك الترابيست وذهب إلى فلسطين، وانخرط في خدمة دير الراهبات الكلاريّس بزيّ عامل بسيط، لا بزيّ رهباني، فكان يمضي معظم نهاره وليله في الصلاة العقلية. ومكث هناك أكثر من أربعة أعوام في عزلة تامة وتأمل عميق. متذوقا هذا الفقر وهذه الضّعة التي عاشها يسوع في الناصرة. إلا إنه توصل إلى يسوع لم يعش في عزلة، بل شارك فلاحي قرية من قرى الجليل وعمالها حياتهم الوضيعة، وارتبط بهم بصلة القربى والصدافة، حاملا حب الله إلى قلب الإنسانية في صراعها اليومي. وِلِدت دعوة شارل دو فوكو أن يعيش “حياة يسوع الخفية” فعاد إلى فرنسا حيث سُيم كاهنًا. ثم رجع إلى شمال أفريقيا وهو عازم على هداية العرب بحياةٍ خفية قوامها الصلاة الدائمة وأفعال التوبة.
وارتدى شارل الزيّ العربي، وعاش في كوخٍ صغير، شبيهة بأكواخ سكان القرية، متجولاً بحريّةٍ في القرية كأحد أفرادها، مُشاركًا لحياتهم اليومية وفي أعمالهم. كان الطوارق يتكلمون لغة يجهلها الأوروبيون، فانكبّ شارل على وضع معاجم وقواعد لها، منصهرًا تمامًا في ظروف حياتهم ورغبة في مساعدتهم. وبالرغم مما قدمه للطوارق، إلا إنه كان وحيدًا، ومر روحيًا بليل مظلم من الألم والترك من الجميع، فلم يحصل على أيّ إهتداء منذ أن قدم إلى هذه الديار، ولا على تلاميذ يقتفون خطاه، بالعيش حياةٍ بسيطةٍ وسط الفقراء، لا سيما وسط أولئك الذين يجهلون يسوع. في العام 1916 اُغتيل شارل وحيدًا دون أن تثمر حياته، ضحية صامته، كما يحدث لجمهور الفقراء في كل الأزمان.
أثمرت حياة شارل دو فوكو الخفية ثمرًا وفيرًا في القرن العشرين. ففي العام 1933 تأسست بحسب روحانيته رهبنتان: إخوة يسوع الصغار، وأخوات قلب يسوع الأقدس الصغيرات، وانتشرتا في العالم كله. وفي العام 1939 تأسس أخوات يسوع الصغيرات، ومارست رسالتها بين غير المسيحيين والجموع المهملة. وأخيرًا، تبعت أخويات عديدة روح الأخ شارل.
عملت هذه الأخويات على الحضور الخفى والبسيط في بلدان الرسالات، ممارسين فيها السجود الدائم للقربان الأقدس، فبحملهم المذبح وبيت القربان إلى وسط الشعوب الغير مؤمنة يقدسون هذه الشعوب دون كلمات، كما قدس يسوع بصمتٍ العالم طوال ثلاثين سنة في الناصرة. ظهر بهذا نمطٌ جديدٌ من الحياة التأملية: الحياة التأملية المُعاشة في العالم، التي تستعمل الصمت وسيلةً للتأثير، والحضور طريقة التواصل، والفقر شهادةً على الحب الأخوي للفقير والمحتاج من بين الإخوة والأخوات الذين نعيش في وسطهم. إنها ليست رسالة خدمةٍ اجتماعية، بل رسالة مشاركة الفقراء آلامهم والشهادة لتعليم الإنجيل. ذهب أتباع شارل دو فوكو إلى “صحراء” الأحياء الفقيرة ليحملوا “حضور يسوع” من خلال مثال الفضيلة والصلاة التأملية.
عكست جمعية أخوة يسوع الصغار(1933) وجمعية صغيرات يسوع (1935) الشكل الأول للمؤسسات العلمانية. فالرغم من كونها منظمات رهبانية، إلا إنها تندرج عادة ضمن الموسسات العلمانية، وذلك لإنّها تهدف إلى التغلغل في حياة العالم وأن تصبح خميرة الحكمة الإلهية فيه. رغبوا عن طريق عملهم في وسط القرى والمدن والإحياء الفقيراء إلى ترسيخ القيم الجديدة النابعة من ملكوت المسيح عاملين بهذا على تجديد العالم من الداخل بنعمة التطويبات. وتجمع روحانية أخوة يسوع الصغار مابين التأمل والتعبد الخاص للقربان المقدس والعمل الشاق في المناطق النائية والفقيرة وفضلوا العمل في المناطق الغير مسيحية أوفي المناطق الأكثر فقرًا ولجاؤا إلى الوعظ الغير مباشر عن طريق تقديم نموذج حياتهم البسيط والذي يعكس حياة يسوع العامل في الناصرة وسط شعبه.