إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

أنت محبوب (6): أنت مكسور

1٬196

النص الكتابي: أيوب 30: 16- 31

بالرغم من أنك ابنٌ محبوب ومُختار ومُبارك إلا إنك إنسانٌ مكسور. ليس أنت فقط بل جميع الناس الذين نعرفهم مباشرة أو عن طريق غير مباشر هم أناسٌ مكسورين. هذه الحالة مرئية وواضحة جداً، ملموسة ومحددة جداً، يكفي حوارٍ صادق مع نفسك ستكتشف كم أنت مُحبط، غير راضي عن عملك، ظروفك المادية، عائلتك، اختياراتك في الحياة. يزداد وعينا يومًا بعد يوم كون حياتنا مكسورة. نعلم جميعاً أنّ لا أحد منا سوف ينجو من الموت، الذي هو المظهر الأكثر جذريةً من مظاهر حالتنا كأناس مكسورين.

إنّ قادة وأنبياء إسرائيل، الذين كانوا بلا شك مُختارين ومُباركين، عاشوا جميعاً حياةً مكسورة. نحن أيضاً، حتّى وإن كنّا أبناء وبنات الله الأحباء، لا يُمكن لأحدٍ منا أن يهرُب من مسألة “كوننا مكسورين”.

القول بأنّ “كوننا مكسورين” يكشف شيئاً ما عمن نكون. معاناتنا وآلامنا ليست مجرد مداخلات متقطِّعة مُضَجِّرة في حياتنا؛ بل بالأحرى هي أمور تمسّنا في تفرُدنا وفي أعماق فرديتنا. كيفية كوني مكسور تُخبرنا عن أمرٍ ما فريد في كل واحد منّا.

كونك مكسور تُخبرني عن أمر تتفرد به أنت وحدك دون الآخرين. هذا هو الدافع الذي يجعلني أشعر بأنّني متميز جداً عندما تُشركني بمُطلق حريتك في شيء ما من آلامِك الدفينة، ويجعلني أُعرِبُ عن ثقتي فيك عندما أكشف لك بدوري عن بعضٍ من مواطن ضعفي.

مسألة “كوننا مكسورين” نعيشها ونختبرها دائماً كمسألة شخصية تماماً، حميمة وفريدة. إنّني مقتنع بعُمق بأنّ كل كائن بشري يتألم بنهجٍ يختلف اختلافاً تاماً عما يتألم به الآخر. بلا شك نستطيع عمل مقارنات، نستطيع الحديث عن درجات الشدة المختلفة في آلامنا، ولكن التحليل النهائي هو أنّ آلامنا شخصية جداً إلى حد أنّ مقارنتها بآلام الأخرين لا يؤدي تقريباً إلى أية تعزية أو راحة وتخفيف. في الواقع، إنّني أكون أكثر امتناناً تجاه مَنْ يُقرر أنّني فريد في ألمي، بدلاً من الذي يُحاول أن يُخبرني بأنّ هناك كثيرين آخرين لديهم ألم مماثل أو أثقل وطأة من ألمي.

آلامنا شخصية جداً

حاول أصدقاء أيوب في أن يفسر كل منهم سبب آلام أيوب، مدافعين عن الله، مُلقين اللوم على أيوب ذاته بأنه السبب في تلك الألام التي مَر بها.

  • كان رأي الصديق الأول: إن هناك سببٌ ما لألام أيوب، لأبد أنه ارتكب خطيئةٌ ما، ذنبٌ ما، جريمة ما عاقبه الله عليها. فالاختيارات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة. في حياة كل منّا ألم بصورة أو بأخرى، وعندما نشارك الآخرين بما نشعر به، يكون صعبٌ علينا جدًا أن يتهمنا البعض بأن ما نتألم به نتيجة طبيعية لما صنعته أيدينا. زد على هذا أيوب كان بارً في عين الرب، مُستقيمًا، لم يرتكب معصيةٌ. الله الذي يعاقب البشر على أخطائهم لا يوجد. الله بهذه الصورة غير موجود! إذا كان الله يستمتع بمعاناتي فلا يكون إلهًا مُحبًا!
  • أحيانًا نتصور إن الألم هو حكمة إلهية يُجرب الله من خلالها الإنسان ليعده لحياة سعيدة في المستقل. يُصحح الله طريق الإنسان واختياراته لأنه يُخطط له شيء أفضل في المستقبل. فكيف للإنسان أن يرفض تصحيح الله له وتعديل خططه، هكذا فكر صديق أيوب الثاني. نفسر ألام الآخرين بهذه الطريقة، وأحيانًا ألامنا الشخصية لكي نتحمل ثقلها، زارعين الرجاء في قلوبنا بغدٍ أفضل. عندما نعزي الآخرين بهذه الطريقة، متوهمين إننا نقرأ المستقبل الذي سيكون واعدًا، لا نعلم إننا نزيد الآخرين معاناة على ما يشعرون به من ألم، فالإنسان يشعر بألم الآن وإنه مكسور لا طاقة له باحتمال المزيد.
  • هناك رأي ثالث، عبر عنه صديق أيوب الثالث، بأن على أيوب تحمل وتقبل ما يمر به من معاناة قاسية ويستسلم لما يحدث له. هناك دائمًا صليب يجب أن نتحمله، والإنسان ضعيف مولود لأجل أن يعاني ويتحمل. هناك من يظن إن للوصول إلى القداسة يجب أن يتحمل آلام قاسية. هل يتصرف الله بعشوائية فيختار حياة رغدة، هادئة دون تجارب قاسية، في حين يُصيك أنت بمحن وتجارب كثيرة. للبعض رسالة مهمة في الحياة، وآخرين لا قيمة لحياتهم من الأساس.

إذا خاطبنا شخص ما بهذه الطريقة يعنى ستطفئ لديه الرجاء. ستطفئ لديه معنى الحياة. فالمكان الذي تذهب إليه الناس، الكنيسة، لتمتلئ بالرجاء توصيها بالاستسلام. لن تأتي الناس إلى الكنائس مرة أخرى، وستكون الكنيسة بدورها فاشلة في رسالتها مع الناس عندما توصى الناس في وسط آلامها بالاستسلام بالأمر الواقع.

أنت محبوبٌ، مُختارٌ، مُباركٌ مكسورٌ

يرفع أيوب صراخه مخاطبًا الله قائلا: “طَرَحني اللهُ في الوحلِ، فمِثلُ التُّرابِ أنا والرَّمادِ. إليكَ أصرُخ فلا تُجيبُ. وأمامَكَ أقِفُ فلا تَنتَبِهُ. عدوُا قاسيًا صِرتَ معي وبقوَّةِ يدِكَ حمَلتَ عليَ” (أيوب 30: 19- 21). صرخ أيوب طالبًا من الله أن يَرد على اتهاماته: لَيتَ القديرَ يَسمَعُني! لَيتَ خصمي يَردُّ على دَعوايَ، فأحمِلَ ردَّهُ على كتِفي وأعصِبَهُ تاجا لرَأسي (أيوب 1: 35- 36).

فتحدث المفاجأة ويستجيب الله لصراخ أيوب ويرد على اتهاماته له. فيتكلم من العاصفة متحدثًا مع أيوب. ويقدم إجابة تبدو غريبة، يبدو فيها الله كفنان يرسم لوحة. فيرى أيوب الله في كل شيء حوله. يكشف الله نفسه لأيوب، فتتملك السعادة أيوب، سعادة غامرة، هو وجه لوجه أمام الله. لم يكشف الله عن سبب ألم أيوب، ولكن كشف نفسه له فقط فيهتف من السعادة: “سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ (وسط آلامي التي لا أعرف لها سببًا) رأتْكَ عَيني”. تغمر السعادة أيوب، ومنذ هذه اللحظة تبدأ حياة أيوب الجديدة نحو حياة الملء الكامل والرضى.

الألم هي فرصة ثمينة للإنسان أن يتلاقى مع الله في عمق كيانه، متى ظل أمينًا لله بالرغم من خبرة الإنكسار الصعبة التي يعاني منها. لقد راهن الله على أمانة أيوب، كما يتضح من الإصحاحين الأول والثاني، هكذا يراهن على كل إنسان أن يظل أمينًا بالرغم من الألم.

كوننا مكسورين” هي خبرة شخصية حقاً، لا تُماثل خبرة أي شخص آخر. إنّها خبرة فريدة مثلما هي خبرة “كوننا مختارين” و”كوننا مُباركين”. طريقة كوننا مكسورين هي التعبير عن تَفَرُّدنا، بقدر ما هي طريقة كوننا مختارين وكوننا مُباركين. نَعَمْ، مثل أولئك الأبناء المحبوبين، حتّي وإن بدا ذلك مُخيفاً، نحن مدعوين للتمسك بالمسألة الفريدة، مسألة “كوننا مكسورين”، بالضبط كوجوب تمسكنا بحالتنا الفريدة، حالة “كوننا مختارين”، وحالة “كوننا مُباركين” الفريدة أيضاً.

المعاناة الأشد هي القلب المَكسور

ينبغي أن أُجَرِّب الآن أن اقترب أكثر قليلاً من خبرتنا هذه. إنّها، كما سبق وقلت، خبرة شخصية تماماً، ففي المجتمع الذي نعيش فيه أنت وأنا، مسألة “كوننا مكسورين” هي خبرة دفينة بصفة عامة – إنّها كَسرِ القلب.

على الرغم من أنّ كثيرين يعانون من الإعاقة العقلية أو الجسدية، وعلى الرغم من أنّ هناك الكثير من الفقر وكثير من الناس بلا مأوى ويعانون من عدم تمكُنهم من تلبية احتياجاتهم الأساسية، المعاناة التي أُدركها أكثر من يوم إلى آخر، هي معاناة القلب المكسور. إنّني أرى المزيد والمزيد من المعاناة الهائلة التي تسببها العلاقات المقطوعة بين الأزواج والزوجات، والآباء والأبناء والأصدقاء والزملاء.

في عالمنا اليوم  المعاناة التي تبدو الأكثر إيلاماً، هي شعور المرء بكونه مرفوض، مُتَجاهَل، مُحتقر ومتروك وحده. فالاعاقات الجسدية أخف وطأة من الشعور بأننا عديمي الفائدة، غير مُستحقين، يُساء فهمنا وغير محبوبين. أكبر مصدر للمعاناة للعديد من الرجال والنساء ذوي الإعاقات الشديدة ليس عدم القدرة على الكلام، والسير أو تناول الطعام بمفردهم، لكن عدم القدرة على أن تكون لهم قيمة خاصة بالنسبة لشخص آخر. نحن البشر يُمكننا ان نُعاني من حالات حرمان هائلة نتحملّها بقوة كبيرة، لكن عندما نُشعر بأنّه لم يَعُد لدينا شيئاً لنقدمه للآخرين، نتخلى سريعاً عن تمسكنا بالحياة. إنّنا نعرف بالغريزة أنّ بهجة الحياة تعتمد على كيفية تعايشنا معاً وأنّ آلام الوجود تتأنى بسبب الطرق العديدة التي لا ننجح فيها في تعايشنا معاً بنحو صحيح.

من الواضح أنّ مسألة “كوننا مكسورين” كثيراً ما نختبرها أكثر إيلاماً في مجال النشاط الجنسي. إنّ صراعاتي وتلك التي لأصدقائي تُبيّن أنّ النشاط الجنسي هو في صميم ما نُفكر فيه ونشعر به في ذواتنا. حياتنا الجنسية تكشف لنا رغبتنا الهائلة في التواصل والمشاركة. رغبات أجسادنا – رغبتنا في الملامسة، والمعانقة والشعور بالطمأنينة – تنتمي إلى أعمق رغبات القلب، وهي دلائل ملموسة على سعينا للتواصل والاتحاد. بهذه الرغبة في الشراكة نعاني الكثير من الألم والضيق. نتوق إلى أقل بادرة من الاهتمام وعناق يبعث على الاطمئنان ونشعر بهشاشة وضعنا وحياتنا.

كيف يُمكننا التعامل مع هذه الهشاشة؟ أرغب في اقتراح سبيلين: السبيل الأول التعامل مع ألمك الشخصي والفريد، أمّا الثاني في أن تضع خبرة الألم في نطاق البركة والفرصة المناسبة ليكشف الله عن ذاته لك. إني مقتنع بأنّ هذين السبيلين يسيران في الاتجاه الصحيح نحو التصالح مع هشاشتنا وتفهمها.

مواجهة الألم عوضًا على تجنبه

ردّة الفعل الأولى تجاه هشاشتنا هي إذاً التعامل معها مباشرة وقبول الألم الشخصي الفريد كفرادة خاصة بي وحدي وجزء أصيل من كياني.

قد يبدو ذلك مسألة غير طبيعية بالمرة. ردّة فعلنا الأولى، الأكثر عفوية تجاه المعاناة هي تجنبها، إبقاءها بعيداً، تجاهلها، الالتفاف حولها أو إنكارها. المعاناة، سواء البدنية، الذهنية أو العاطفية، نختبرها بصفة شبه دائمة كتدَخُّل غير مرغوب فيه في حياتنا، أمر ما ينبغي ألا يحدث لنا. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نرى شيئاً إيجابياً في المعاناة؛ بل يجب إبعادها بأي ثمن.

قبول الألم الشخصي الفريد كجزء أصيل من كياني قد يبدو من النظرة الأولي تلذذاً بتعذيب الذات. مع ذلك، خبرتي الشخصية عن المعاناة علمتني أنّ أول خطوة صوب السلامة ليست خطوة الابتعاد عن الألم، بل خطوة نحو الألم. فعندما تكون مسألة “كوننا مكسورين” مُعتبرة بمثابة جزء لصيق من كياننا، وبالمثل أيضاً مسألة “كوننا مختارين” ومسألة “كوننا مُباركين”، لا بُد وأن تكون لدينا الشجاعة على ترويض خوفنا من الألم والتآلف معه.

يجب علينا أن نجد الشجاعة لتبني حالة “كوننا مكسورين”، لجعل عدونا الأكثر رعباً صديقاً وندعوه كرفيق حميم. إنّني مقتنع بأن الشفاء غالباً ما يكون صعباً لأننا لا نرغب في التعرف على الألم. على الرغم من ذلك، هذا الأمر ينطبق على كل نوع من أنواع المعاناة، خاصة المعاناة التي تأتي من القلب المكسور. الكرب والمعاناة التي تنجم عن الرفض، والانفصال، والهجر، ومن الجِراح والتلاعب بالعواطف، لن تؤدي إلا إلى شللنا وتعجيزنا عندما لا نستطيع مواجهتها ونواصل الهروب منها. أثناء معاناتنا، عندما نكون بحاجة إلى توجيه، يجب أن يكون قبل كل شيء توجيهاً يقودنا الى الاقتراب أكثر صوب آلامنا ويجعلنا نتفهم أنّه ينبغي ألّا نتجنبها، بل يمكننا تعزيزها وتفضيلها.

نعم، إنّ تجربتي الشخصية مع المحنة علمتني أنّ مواجهتها ومعايشتها هي السبيل نحو الشفاء. فكل المشكلات والصعوبات في الحياة هي أوقات ثمينة للغاية، المهم أن تفهمها. هي أوقات اللقاء بالله المتألم، يشرح الله وقتها لماذا تتألم وكيفية أن تتغلب على الألم. عندما تدخل إلى أعماق ذاتك. فالشخص ينمو متى تألم، متى تغلب على المشكلات التي يصادفها في حياته. إذا كان في حياتكم أشياء لا تحتمل: طفل معاق، مريض بمرض خطير، احباط أو فشل من أي نوع. هذه الأشياء ثمينة للغاية. في أوقات المعاناة والمشكلات يصبح البعض غير محتمل، لا يطاق لأنه لم يعرف فائدة هذه الأوقات.

كان لقاءات آبرام مع الله هي ذروة صرخات قلبه المكسور وتنم على قبوله لمعاناته الشخصية. فرغم وعد الله له بأن سيكون له نسل، تأني الله في تنفيذ وعده له لسنوات طويلة. لم يتجنب ألامه بل واجهها بإيمان. أعطاه الرب الثروة أولا ولم يشفي قلبه المكسور بعدم وجود نسل له، إلا بعد أكثر من عشرين عامًا. في خلال هذه السنوات الطويلة لم تكن معاناة آبرام، بعدم وجود نسل له، عقبة أمام الفرح والسلام.

الحقيقة العميقة هي أنّ معاناتنا البشرية لا ينبغي أن تكون عقبة تعوق الفرح والسلام الذي نتوق إليه بشدة، بل أن تُصبح بدلاً من ذلك وسيلة للوصول إليهما من خلالها. إنّ السر الكبير في الحياة الروحية، حياة أبناء وبنات الله الأحباء، هو أنّ كل واقع نعيشه، سواء كان سعادة أو تعاسة، فرح أو ألم، صحة أو مرض، يُمكن أن يكون جزءً من مسار الرحلة تجاه التحقُّق التام لإنسانيتنا. ليس من الصعب القول: “كُلّ ما هو طيب وجميل يؤدي إلى مجد أبناء الله”، لكن الصعب جداً هو القول: “ألم تكُن تعرف أنّه ينبغي علينا جميعاً أن نتألم لكي ندخل في مجدنا ؟ “. مع ذلك، القلق الحقيقي يعني الرغبة الصالحة في مساعدة بعضنا البعض كي نجعل مسألة “كوننا مكسورين” خطوة نحو الفرح.

بركة كوننا مكسورين

ردّة الفعل الثانية تجاه مسألة “كوننا مكسورين” هي وضعها في نطاق البركة. بالنسبة لي وضع مسألة “كوننا مكسورين” في نطاق البركة هو الشرط المُسبق للتصالح معها. في الواقع، إذا كان من المخيف جداً التعامل معها فذلك لأننا نعيشها في نطاق اللعنة. أن نعيش مسألة “كوننا مكسورين” في نطاق اللعنة يعني أنّ خبرة الألم بالنسبة لنا هي بمثابة تأكيد على مشاعرنا السلبية تجاه ذواتنا. الأمر كأنّك تقول: “لقد شككت دائماً في أنّه لا فائدة منّي، وفي كوني غير جدير، والآن أنا متأكد بسبب ما يحدث لي”.

هناك دائماً شيء فينا يحاول تفسير ما يحدث في حياتنا، فإن كنا قد خضعنا بالفعل لإغراء رفض أنفسنا، حينئذ كل شكل من أشكال البلايا يميل إلى العمل على تفاقم ذلك. حينما نفقد أحد أفراد أسرتنا أو أحد الأصدقاء لكون الموت اختطفه، حينما نكون بلا عمل، حينما نخضع لاختبار، حينما نجتاز محنة انفصال أو طلاق، حينما تنشُب حرب، عندما يُدمر زلزال منزلنا أو يصيبه بأضرار، تثور التساؤلات العفوية: “لماذا؟ “، “لماذا يحدث ذلك لي أنا؟ “، “لماذا الآن؟ “، “لماذا هنا بالذات؟ “. من الصعب جداً أن نعيش بدون إجابة على هذه التساؤلات حول السبب، فنحن نميل بسهولة إلى الربط بين الأحداث الخارجة عن نطاق تحكمنا، عن نطاق تقييمنا، بوعي أو بغير وعي. عندما نجعل أنفسنا ملعونين أو نسمح للآخرين بذلك، ذلك يدفعنا حقاً تجاه تفسير كل المواقف التي نمرّ بها بواقع “كوننا مكسورين”، كتعبير أو تأكيد على هذه اللعنة. نقول لذواتنا بلا وعي: “أترى؟، لقد ظننت دائماً أنّك صالح… والآن تعرف حالك بيقين. ها هي أحداث الحياة تبينه لك”.

إن الدعوة الروحية العظيمة لأبناء الله الأحباء تكمن في إبعاد مسألة “كونهم مكسورين” عن ظلال اللعنة ووضعها تحت نور البركة. الأمر ليس سهلاً كما قد يبدو، فقوات الظلمة المحيطة بنا قوية وعالمنا يسهل عليه التلاعب بمن يرفضون ذواتهم أكثر من الذين يقبلونها. لكن عندما نبقى مُصغين بانتباه للصوت الذي يدعونا أبناء أحباء، الحياة مع مسألة “كوننا مكسورين” تُصبح ممكنة، لا كتأكيد على خوفنا من أن نكون غير جديرين، بل كفرصة للتطَّهُر وتعميق البركة الحالّة علينا. الألم الجسدي، الذهني أو العاطفي الذي نعيشه في نطاق البركة نختبره بطريقة مختلفة تماماً عن الألم الجسدي، الذهني أو العاطفي الذي نعيشه في نطاق اللعنة. حتّى أصغر الأعباء، إذ ننظر إليه على أنه علامة على عدم استحقاقنا، يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب العميق، بل وإلى الانتحار. بيد أنّ الأعباء الثقيلة والكبيرة تصبح خفيفة ويسهل حملها عندما نعيشها في ظل البركة. ما كان يبدو لا يُطاق يصبح تحدياً. ما كان يبدو كأنّه سبب للاكتئاب يصبح مصدراً للتطهير. ما كان يبدو كأنه عقاب، يصبح تهذيباً لطيفاً. ما كان يبدو كأنه رفضاً، يصبح وسيلة أعمق للتواصل والشركة.

هكذا تصبح المهمة الكبيرة هي السماح للبركة بالتواصل مع مسألة “كوننا مكسورين”. وعندئذ تدريجياً سيُنظر إليها على أنها فرصة نحو القبول الكامل لذواتنا كأبناء إحباء. وهذا ما يفسر كيف يُمكن أن نختبر الفرح الحقيقي في خِضَمّ المعاناة الشديدة. إنّه فرح كوننا تعلّمنا، تطهرنا وتهَذّبنا. بالضبط مثلما يكابد المصارعين معاناة شديدة في حلبة المصارعة وفي الوقت نفسه يتذوقون فرح معرفتهم بأنّهم في سبيلهم للاقتراب من هدفهم، هكذا أيضاً يختبر الأبناء الأحباء المعاناة كسبيل للوصول إلى تلك الشركة الأعمق التي يتوقون إليها. في هذه الحالة، الفرح والألم لا يعودا نقيضين فيما بعد، بل يصبحان شكلان لنفس الرغبة في النمو صوب ملء الأبناء الأحباء.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.