إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

إيقاظ العالم

0 1٬294

ما هو الشيء الضروري لإيقاظ إنسان نائم؟ الشيء الضروري هو صدمة قوية. ولكن حين يكون إنسانٌ غارقٌا في النوم العميق، لا تكفي صدمة واحدة لإيقاظه؛ إذ لا بدَّ من فترة طويلة من الصدمات المتتالية. هناك ضرورة لوجود أحد لإيقاع هذه الصدمات. إذا شاء أحدٌ أن يستيقظ، يجب أن يستعين بآخر يتولَّى هزَّه مدة طويلة. ولكن بمَن يقدر أن يستعين إذا كان الجميع نيامًا؟ سيستعين بأحدهم ليوقظه، لكن هذا سيغفو هو الآخر.

هناك أيضًا إمكانية الاستيقاظ بوسائل ميكانيكية. فالإنسان يمكن له أن يستيقظ على صوت ساعة منبِّهة. لكن المصيبة هي أن المرء سرعان ما يتعود صوت أي ساعة منبِّهة، بل يتحسن نومه بوجودها. الحل في تبديل الساعات المنبِّهة تبديلاً مستمرًّا؛ حتى لا يعتاد على صوتها الإنسان ويعود إلى النوم.

لذلك، حتى يستيقظ الإنسان النائم، لا بدَّ من بذل جملة من الجهود المتضافرة. لا بدَّ من وجود أحد لكي يوقظ النائم، هذا المتيقظ دومًا لا ينام؛ ولا بدَّ من التزوُّد بساعات منبِّهة، كما لا بدَّ أيضًا من اختراع ساعات منبِّهة جديدة على الدوام حتى لا تعتاد عليها إذن النائم.

الرسالة الرعائية للبابا فرنسيس بمناسبة سنة  الحياة المُكرسة أعلن فيها إنه ينتظر من المكرسين أن “يوقظوا العالم”. فالمكرسون يتبعون الرب بطريقة خاصّة، بطريقة نبويّة. للمكرسين أولوية أساسية، أن يكونوا أنبياء يشهدوا كيف عاش يسوع المسيح على الأرض. هم الذاكرة الحية ليسوع المسيح، حياته، أفكاره، أسلوب معيشته، تعاملاته، محاربته للشر والظلم، اهتمامه بالفقراء.

كيف للمكرسين أن يوقظوا العالم ما لم يستيقظوا هم أنفسم أولا. كم مرة نقرأ، على سبيل المثال، في الأناجيل: “استفيقوا”، “اسهروا”، “لا تناموا”. حتى تلاميذ المسيح كانوا نائمين بينما معلِّمهم يصلِّي في بستان جَتْسَمانِية للمرة الأخيرة. لقد كان يسوع متيقظًا طوال فترة خدمته العلنية. كان يجول يصنع خيرًا.

على المكرسين أن يبقوا متيقظين لإتمام العمل الذي لأجله أختارهم الله له. أن يكونوا الذاكرة الحية ليسوع المسيح. كيف يستيقظ المكرسين على مثال معلمهم؟ العالم في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، ليسوع المسيح. العالم في حاجة لمجهود كبير من المكرسين، عمل عليهم أن يتموه ويصلوا به إلى الكمال، مثلما فعل يسوع. مجهود كبير إلى أن تسود المحبة بدل من الكراهية، السلام بدل من طبول الحرب التي تدق اليوم في كل أنحاء العالم، إلى المغفرة بدل من روح الانتقام، إلى العدل بدل من الظلم الاجتماعي السائد اليوم واستغلال الفقراء.

هناك مبادئ عامة لإيقاظ الذات، سنكتفي في عرضنا هذا على ثلاثة فقط:

  • مبدأ الثقة بالذات:

لكي يعمل المكرس على إيقاظ العالم عليه أن يثق بإيمان راسخ إن الله قد اختاره لهذه المهمة بالذات. هذا التوجه الذهني هو الذي سيقود كافة تصرفاته وأفعاله والتي ستساهم في إيقاظ العالم. فالتوجه الذهني الإيجابي يبني الإنسان، فنحن مسؤولن بشكل شخصي عن نظرتنا إلى الحياة. فما تزرعه تحصد، إن توجهاتنا الذهنية وتصرفاتنا تجاه الحياة تُحدد ما يحدث لنا.

ما الفارق بين العقبة والفرصة؟ إنه توجهنا الذهني تجاههما. ففي كل فرصة تجد صعوبة، وفي كل صعوبة تكمن فرصة. عند مواجهة موقف صعب، يحقق الشخص صاحب التوجه الذهني الإيجابي أقصى استفادة في الوقت الذي يعاني فيه من أسوأ عواقب الموقف. الرجال الأشداء يظهرون في أوقات المحن والصعوبات وليس أوقات الاسترخاء. كما أن الطائرات الورقية تحلق في السماء عاليًا في عكس اتجاه الريح وليس معه. عندما تهب عليك رياح الصعوبات، اجعلها تمثل لك ما تمثله الريح للطائرة الورقية، اجعلها قوة معاكسة تؤدي لارتفاعك أكثر.

فالذي يؤمن بأن الله اختاره ليكون مسيحًا آخر، وويملك هذا التوجه الذهني الإيجابي يستطيع أن يعيش في الواقع، مهما كان صعبًا، رسالة المسيح، وسيحقق نجاحات كبيرة. المشكلة عندما تُسيطر فكرة سلبية على ذهن المكرس بإنه خاطئ، لا يستطيع أن يتحمل مسئولية كبيرة كإيقاظ الآخرين. نحن في حاجة إلى إيمان بولس عندما يشكر الله الذي عَده ثقة فاقامه لخدمته: “أَشكُرُ لِلمَسيحِ يسوعَ رَبِّنا الَّذي مَنَحَني القُوَّة أَنَّه عَدَّني ثِقَةً فأَقامَني لِخِدمَتِه” (1 تيموثاوس 1: 12)

كيف نكتسب هذه الثقة بالذات؟ في أيقونة لقاء المسيح بمتى العشار، الجالس على مائدة الجباية، نكتشف إن المسيح يضع ثقته في ذلك الإنسان المخادع المكروه من جماعته ومجتمعه وبيئته. فمحبة الله ورحمته تخترق حياة متى الإنجيلي وتخرجه من ظلمته المعتمة: “وخَرَجَ بَعدَ ذلك، فأَبصَرَ عَشَّاراً اسمُه لاوي، جالِساً في بَيتِ الجِبايَة فقالَ له: «اتبَعْني !» (لوقا 5: 27)

فماذا كان تفكير متى الرسول في هذا اللقاء وما هي مشاعره: من جهة، الدهشة والفضول والاستغراب للطريق الجديد المعروض عليه، ومن جهة أُخرى، الخجل والخزي والخوف الذي يتمثل في معاصيه وخطاياه ورفضه القاطع لتغيير نمط حياته. فماذا سيكون: متى الرسول أم جابي الضرائب؟ أن إصبع المسيح قد لمس قلب متى، ونظرات المسيح قد حدقت بعيون متى، فتحول وتغير وصار إنساناً جديداً رسولاً للمسيح.

هذا التفكير يلازم المكرسين دائمًا. يسألون الله دومًا: “لماذا تقول لي تعال فاتبعني؟ “أنا إنسانٌ خاطئ”. وفي نفس الوقت يمتلكهم الدهش والفضول من الطريق الجديد المعروض عليهم. المسيح يعرف جيدًا إننا خطأة وبالرغم من هذا اختارنا لأجل أن نتم رسالته في العالم: “لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ”.

عندما اختار المسيح السبعون رسولا قال لهم: “أَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ”. اِحملوا السلام والبركة للجميع. فالمُكرس مدعو لأجل أن يكون امتداد لحضور المسيح وسط شعبه. نحن كمكرسين دعانا المسيح لأجل أن يكلم البشر اليوم بصوتنا، أن يقدس الإفخارستيا ويغفر الخطايا بواسطتنا، ويحب بقلبنا، ويساعدهم بأيدينا، ويخلصهم بفضل جهودنا. بالرغم من علمه إننا خطأة.

جميعًا متى الإنجيلي… يسأنا الله هل تريد أن تكون رسول، مكرس، نبي تحمل اسمي وسط العالم؟

إذا أردت أن تكون مكرس حقيقي تُساهم في ايقاظ العامل من حولك، يقول الله لكَ: ثق إني اخترتك، أنا لا أندم أبدًا على اختياري. ثق بكلمة الرب يسوع التي وجهها إليك عندما دعاك إلى خدمته. لم يخطئ الله في اختيارك، فهو عالم بضعفك وهشاشتك، ولن يغير رأيه أبدًا، فهو أمينٌ: “وإذا كُنا خائِنينَ بَقِيَ هوَ أمينًا لأنَّهُ لا يُمكنُ أنْ يُنكِرَ نَفسَهُ” (2 تيموثاوس 2: 13). خاطبك يسوع يومًا قائلًا: “اتبعني”، هو يعلم ضعفك وهشاشتك، لكنه يثق بك. المشكلة إنك لا تثق فيه، لا تثق في كلمته!!

لكي تستيقظ من نومك لا بدّ أن يوقظك شخص آخر. لا تعتمد على شخص مثلك ليوقظك، فالجميع معرض للنوم مثلك. عليك أن تعتمد على تجديد لقاءك الشخصي مع يسوع المسيح. أي أن تدع المسيح يلقاك، أن يبحث عنك باستمرار. اِعمل أن تظل تلك اللحظة التي سمعت فيها نداء يسوع لك حاضرة دومًا في حياتك، عندئذ سيكون لديك التوجه الذهني الإيجابي بأن تغيير العالم.

  • مبدأ قبول المخاطرة:

الله لا يدعو المؤهلين، ولكنه يؤهل المدعوين (جويس ماير). لم يكن متى مؤهلا لإتباع المسيح، ولكن رحمة يسوع ومحبته اخترقت قلبه، فحول طريقه تمامًا. يدعو الله شخص غير مؤهل، ولكنه يعمل على أن يؤهله إلى المهمة المطلوبة، إلى أن يتصور في كيانه يسوع المسيح، ويعيش على مثاله وسط العالم.

على المكرسين إذن إن يتركوا ذواتهم ليؤهلوا من الله، يتركوا ذواتهم ليعمل الله على تنشئتهم على مثال ابنه. لكي يترك المكرسين ذواتهم بين يدي الله عليهم أن يتعلموا مبدأ التخلي. فكما دعى متى الجابي للضرائب أن يتخلى عن حقيبته المالية: ” فتَركَ كُلَّ شيءٍ وقامَ فتَبِعَه” (لوقا 5: 28)”، يدعو المسيح جميع المكرسين إلى أن يتخلوا عن مغريات العالم بأن يتركوا كل شيء ويتبعونه. أن يتركوا ما يتعلق به قلوبهم، تلك الحقيبة الممتلئة بالرغبات الذاتية.

من يريد أن يوُقظ العالم عليه أولا أن يعرف إنه مدعو للمخاطرة، بترك كل الضمانات الخارجية: المال، والعلاقات العاطفية، حتى إرادته الذاتية ويضع حياته بثقة بين يدي الله الذي يحمله حيثما لا يشاء. هذا ما نقرأه في أشعيا: 33 : 21- 22 “حَيثُ الرّبُّ يُظهِرُ عَظمَتَهُ، وحَيثُ الأنهارُ والضِّفافُ الواسِعةُ، لا يسيرُ فيها قارِبٌ بمِقذافٍ ولا يَعبُرُها مَركبٌ عظيمٌ، لأنَّ الرّبَّ حاكِمُنا ومُشتَرِعُنا، ومُخلِّصُنا هوَ ومَلِكُنا”، فالقارب بمقذاف أى القارب الذى له إمكانية توجيه نفسه والسفينة العظيمة لها دفة وأشرعة تسير أينما تريد. ولكن الله لنا نهر يحملنا إلى حيث يريد هو.  يتفق هذا مع قول السيد المسيح لبطرس “كُنتَ، وأنتَ شابًّ، تَشُدُّ حِزامَكَ بِـيَدَيكَ وتذهَبُ إلى حَيثُ تُريدُ. فإذا صِرتَ شيخًا مَدَدْتَ يَدَيكَ” (يو 21 : 18). ليس الاشارة هنا فقط لطريقة الموت التي سيعانيها بطرس، بل إلى دخوله إلى العمق في علاقته مع الله، يدخل إلى كمال العمق الروحي. وهذا معنى “لتكن لا إرادتى بل إرادتك” وهذا ما نصليه دائماً لتكن مشيئتك”.

  • مبدأ الرضى الذاتي:

إيقاظ الذات يتعلق أخيرًا بمبدأ هام وهو أن يشعر الإنسان بالتقدير لذاته، أن يُحب ذاته ويقبلها كما هي. في كلمات بسيطة أن يشعر بالرضى عن نفسه وحياته واختياراته ورسالته. أن يشعر بالفرح الحقيقي بعلاقة حقيقية مع الله. فالله وحده القادر على ملء قلوب المكرس وجعله سعيد. فالمُكرس مدعو لأن يذكر العالم بالفرح الحقيقي، الفرح مع المسيح والإنجذاب إليه.

ما هو تعريف الفرح؟ يقول القديس توما الاكويني بأن الفرح الطبيعي هو ثمرة الحب. وأن الحب، اجتماعياً هو نظرة عاطفية للقرب من الآخر والشعور المتبادل بين المحب والحبيب. ولكن روحياً الفرح هو ثمر الفضيلة الإلهية المحبة، أي معانقة حب الله لنا والمشاركة في هذه المحبة الإلهية النابعة من حبٍ إلهي وشركة بالعظمة الإلهية وتبادل عجيب بين عظمة الله وضعف الإنسانية. هكذا فرح متى بلقاء يسوع ودعاه إلى بيته.

الفرح الحقيقي، إذن، هو ثمرة المشاركة في المحبة الإلهية. ليس في العمل الكرازي أو الرسولي أو الخدمة. هذا ما نبه إليه يسوع عندما عاد السبعون رسولا بعد أن قام بأعمال عظيمة وآيات رائعة. عاد التلاميذ فرحين بما صنعت يداهما أثناء الرسالة، قائلين ليسوع: “يا رَبُّ، حتى الشَّياطينُ تَخضَعُ لنا باَسمِكَ”. إلا أن يسوع لم يشاركهم الفرحة. يفرح المكرسون بتحقيق نجاحات في مجال الرسالة والكرازة، بالأنشطة والمؤتمرات، بمساعدة الفقراء وتعليم الأطفال والعناية بالمرضى، حتى بخضوع الشياطين، لكن كل هذا ليس أساسًا كافيًا للفرح الحقيقي.

ليس الفرح في رسالتي وخدمتى التي أقوم بها من أجل الكنيسة، إلا إذا كان شخص يسوع قد أصبح هدفي الوحيد، ومَثلي الأعلى الوحيد ورغبتي الوحيدة: “مِنْ أجلِهِ خَسِرتُ كُلَ شيءٍ وحَسَبتُ كُلَ شيءٍ نِفايَةً لأربَحَ المَسيحَ… وأيضًا “أشارِكُهُ في آلامِهِ وأتشَبَّهُ بِه في موتِهِ” وأعرفه وأعرف قوة قيامته (فليبي 3: 7). النفاية ليست التخلي المادي، بل عن كل شيء، خاصة مجد الرسالة، هكذا يبدأ بولس كلامه: “وفي التقوى حسَبَ الشَّريعةِ، فأنا بلا لومٍ”. لا معنى لكل الكرازة التي أقوم بها، أو الرسالة التي أضطلع بها ما لم تكون ثمرة للقاء شخصي حقيقي مع يسوع.

قد يعجبك ايضا
اترك رد