إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

عيد قديس أنطونيوس البدواني

1٬138

من أجمل صور القديس أنطونيوس البدواني التي تشد أنظارنا هي صورته وهو يحمل الطفل يسوع بين يديه. صورة تلخص حياته القصيرة كلها ومدى قربه من شخص الرب يسوع. هناك نوع من الحميمة في العلاقة مع الله. عندما نستشعر بأيدي من نحب تلتف حولنا نشعر بشيء من الطمأنينة والسلام الداخلي. نحن لا نتعانق فقط عندما نشعر بالحنين أو الحب بل نتعانق وقت الفرحة ووقت الحزن، نتعانق عند الخوف وعند القلق. نتعانق لنشعر بالطمأنية والسلام والحب ودفء المشاعر والحب والتعضيد والمساندة من الآخر.  

إن قوة القديس أنطونيوس البدواني ليس في كونه أعظم وعاظ الكنيسة الكاثوليكية، وليس لكونه صاحب المعجزات الباهرة المستمرة إلى اليوم، أو أنه شفيع الأشياء الضائعة منا والتي أختبرها الكثير منا. قوته وعظمته تعود إلى اتحاه الحميم وعلاقته القوية مع الله. عظمة القديس تعكسها هذه الصورة البسيطة والتي جعلته مثل مريم العذراء أقرب البشر إلى قلب الله.

لقد اختار أنطونيوس الله كحبٍ وحيد في حياته، أحبه بكل طاقته، خصص له كل وقته وعمله، كان لسانه يقول دائمً مع بولس الرسول: “فلَسْتُ بَعْدُ أَنَا الـحَيّ، بَلِ الـمَسِيحُ هُوَ الْحَيُّ فِيَّ ” (غلاطية 2: 20)، “فَالـحَياةُ لي هِيَ الـمَسِيح، والـمَوْتُ رِبْحٌ لِي” (فليبي 1: 21). لذا شبهه البابا غريغوريس التاسع يوم اعلان قداسته عام 1232، أي بعد أشهر قليلة من وفاته، بأنه بالنسبة للكنيسة بولس الرسول الثاني، ليس بسبب معجزاته الكثيرة، ولا علمه اللاهوتي والعقائدي العميق، بل لاتحاده الكامل بشخص يسوع المسيح، كالغصن المتصل بالكرمة الحقيقية الذي يستمد الحياة من جذرها المتاصل في التربة.

اسمحوا لي أخوتي الأحباء أن أتوقف عند عبارة نطق بها كثيرًا القديس أنطونيوس في عظاته، وهي في الحقيقة ترجع إلى القديس أغسطينوس: “الروح هو حياة الجسد، أما الله فهو حياة الروح“.

الإنسان دون روح هو ميت، لا حياة للجسد بدون الروح. لكن هل جميعًا أحياء؟ هل من الممكن أن أصف نفسي بأني إنسان حي؟ نأكل ونشرب، نعمل نلهو، تحمل لنا الحياة السعادة وأحيانًا الألم، لدينا علاقات أسرية وصداقات مختلفة، لكن يبقي السؤال هل نحن أحياء بالفعل؟

عندما أوصى الرب الإله آدم، قال له: “مِنْ جَمِيعِ شْجَرِ الْجَنَّةِ تَاكُلُ أكلاً، وأما شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرّ فَلا تَأكُلْ مِنها، لأَنَّكَ يوم تَأْكلُ مِنْهَا مَوتأً تَمُوت” (تكوين 2: 16- 17). لكن هل مات آدم فعلاً بعد أن أكلَ من الشجرة؟ هل تعلم كم سنة عاشها آدم بعد أن قال له الرب يوم تأكل من الشجرة موتًا تموت؟ هكذا يؤكد الوحي الإلهي في سفر التكوين الإصحاح الخامس: “كانَت أيَّامُ آدَمَ بَعدَ ما وَلَدَ شيثاً ثَمانيَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَ بَناتٍ. فكانَتْ كُلُّ أيَامِ آدَمَ الَّتِي عاشَها تِسْعَ مِئَةٍ و ثَلاثِينَ سنَةً و ماتَ.” (تكوين 5: 4- 5).

عاش آدم في جسده لسنين عديدة بعدما أكل من شجرة معرفة الخير و الشر، ولم يمت! كان يأكل ويشرب ويعمل وتزوج وأنجب البنين والبنات، عاش حياة طبيعة لكنه هل كان حي؟ الحقيقة إنه مات يوم أكل من الشجرة، فإذا كانت روحه مازال فيه ويتنفس ويعيش حياة إنسانية طبيعية، إلا إنه كان ميتًا بعد أن فقد صلته بالله، فقد علاقته به: فالله هو حياة روح الإنسان، وبدون الله الإنسان ميت. ميت لأنه أنفصل عن مصدره، عن خالقه، عن الأصل الذي خرج منه.

وقف رجلاً يومًا أمام المسيح وسأله: يا معلم ماذا أصنع لأرث الحياة الأبدية. فقال له يسوع ما هو مكتوب في الشريعة وكيف تقرأ. فأجاب الرجل بمضمون الشريعة في محبة الله والقريب. فقال له يسوع أفعل هذا فتحيا (لوقا 10: 25- 28). لنلاحظ الرجل ليس مريض يطلب شفاء، بل رجلاً صحيحًا معافى، ناموسيٌ متدين يعرف شريعة الله، وفي وضع اجتماعي مُميز، إلا إن المسيح يعتبره ميتًا، يحتاج أن يحيا، فالحياة الحقيقية أمرٌ مختلف تمامًا عن قلب ينبض وأرجل تمشي على الأرض، وفم يأكل طعامه.

الحياة الحقيقة ليس في العيش في الحياة، وتحقيق الطموحات الطبيعية في النمو والإزدهار والغنى والمكانة الاجتماعية المرموقة. الحياة الحقيقية ليس في أحافظ على صحتي وجسدي خالي من الأمراض. الحياة الحقيقية هي أن أكون قادر على الحب. الإنسان الغير قادر على الحب هو إنسان ميت.

أنت حي بالقدر الذي تدفعك محبة الله إلى محبة القريب. أنت حي متى أحببت الله من كل قلبك ومن كل فكرك ومن قدرتك، وأحببت القريب كنفسك. الحب ليس مشاعر وأحاسيس تتنمى فيها الخير والسعادة للأخرين. يقول الرب “أفعل” هذا فتحيا، الحب هو نشاط وليس شعورًا سلبيًا، أفعال تجاه الله، أفعال تجاه الآخرين. الحب هو العطاء للأخر. العطاء ليس هو التخلي عن شيء ما للآخر، بل “مشاركة” الآخر في الجزء الحي من حياتك، تعطيه من فرحك، من شغفك، من فهمك، من علمك، من مرحك، من حزنك – من كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيك.

زارتني منذ فترة إنسانة، تعيش وحيدة ومصابة بمرض لا شفاء منه. أنفقت كل ما تملك على العلاج الكيماوي والعمليات الجراحية، وأصبحت في وضع مالي صعب جدًا لاستكمال رحلة العلاج الشاقة والصعبة. لكن بالرغم من ألمها وحاجتها الملحة، واظبت على اعطاء مبلغ شهري لأجل خبزة القديس أنطونيوس البدواني. في المرة الأخيرة حاولت أن أرفض ما تقدمه فهي أشد احتياجًا له، لكنها رفضت باصرار. شعرت أمامها إني أقف أمام إنسان ممتلئة بالحياة الحقيقية. جسدها واهن بفعل المرض، لكن الله يسكن روحها ويعطيها حياة حقيقة.

أنت حي متى أحبب الله من كل قلبك ونفسك وقدرتك، وعبرت عن محبته بمحبة الآخرين. أنت حيّ متى ملأ الله قلبك وأعطاك حياة جديدة وروحًا جديدة. أنت حي متى أعطاك الله نظرة جديدة للآخرين، رحمة بقلبك تجاههم. متى قمت بأفعال محبة ورحمة تجاه البعض منهم. عندما أجاب الرب على الفريسي الذي سأل ماذا أفعل لأرث الحياة الأبدية، ضرب له مثل السامري الصالح، عن الإنسان الذي يقدم محبة عملية ملموسة تجاه عدوه، لشخص لا يعرفه: اِفْعَلْ أنت هذا فَتَحْيَا.

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.