علم اللاهوت الرعوي (1): المقدمات
المقدمة:
للبابا أثناسيوس الرسولي قولٌ معروفٌ: نحن لا نخدم العالم (kairós)، بل المسيح (Kýrios)! وكل ما قامت به الكنيسة عبر تاريخها الطويل هو المحافظة على تمييزها عن العالم وتضادها معه ورفض كل ما هو يعارض روح الإنجيل. تأتي كلمة (kairós) بمعنى “زمن الخلاص”، أي “الوقت الذي يعمل فيه الله في التاريخ”. وتدلّ مقولة بابا الإسكندرية على: “خدمة المسيح في ملء الأزمنة والأوقات لتؤول إلى إتمام قصد الله وتدبيره فيها”. وبصورة أكثر وضوحًا يمكن التساؤل عن ما هي تلك الممارسات المسيحية التي يمكن أن تقوم بها الكنيسة لتصل بالأزمنة والتاريخ لما يؤول إلى قصد الله؟ كيف يمكن للكنيسة أن تطور وتغنى تلك الممارسات التي تهدف إلى خدمة المسيح وتصل إلى قصده وتدبيره في الزمن والتاريخ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة الجوهرية هي صُلب اهتمام علم اللاهوت الرعوي.
قصد الله بالمعنى الضيق هو أن يصل الخلاص إلى البشر أجمعين تنفيذًا لوصية الرب، كما نقرأ في خاتمة إنجيل القديس متى (مت 28: 19- 20): فاَذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأُمَمِ، وعَمَّدوهُم باَسمِ الآبِ والابنِ والرٌّوحِ القُدُسِ، وعلَّموهُم أن يَعمَلوا بِكُلٌ ما أوصَيْتُكُم بِه، وها أنا مَعكُم طَوالَ الأيّامِ، إلى اَنقِضاءِ الدَّهرِ”. فالكنيسة نالت الخلاص من المسيح، وأنه مهمتها ورسالتها تكمن في تقديم هذا الخلاص للآخرين، عن طريق التأكيد على أن المسيح هو المخلص، وهو الخلاص بذاته.
ما هو الخلاص المسيحي؟
كمفهوم عام فإن الخلاص: هو النعمة المجانية التي يُعطيها الله الآب للإنسان، في يسوع المسيح وبواسطة الروح القدس بأن يشاركه في حياته الإلهية. قبول عطية الله وبأن يصبح الإنسان ابن له تحدد كل شيء وتفسر معنى وجوده وحياته وعلاقاته بالآخرين وبالعالم. تتداخل هذه الأبعاد المختلفة فيما بينها ويؤثر كل منهما على الآخر. لا يرتبط الخلاص إذن بعلاقة الشخص فقط بربه، بل يتعدى هذا إلى معنى وجوده وهدف حياته وعلاقاته الإنسانية مع الآخرين في المجتمع. على هذا فإن الخلاص المسيحي يشمل التحرر من كافة مظاهر الشر، الشخصية والاجتماعية والسياسية أيضًا، التغلب على مظاهر الغبن والقهر الاجتماعي والسياسي التي تؤثر على حياة البشر.
- لوحة فنية من العصر الوسيط
يوجد على جدار كنيسة دير الدومنيكان بجزيرة ريشنو (Reichenau) لوحةٌ فنّيةٌ، تعود إلى القرن العاشر الميلادي، تكشف لنا مضمون اللاهوت الرعوي الأساسي موضوع هذ البحث. وقد عّمدَ الفنان، في رسمه لمعجزة شفاء يسوع للأبرص، كما يرويها الإنجيلي متى (8: 1- 4)، إضافة بعض المشاهد التوضحية للحدث، والتي يمكن لها تقديم فَهمًا أفضل لماهية اللاهوت الرعوي الأساسي: ينزل يسوع من الجبل، ويقف خلفه رجلين ينظران إلى يديه، وفي خلفية اللوحة يقف بعض الرجال الذين تكشف ملابسهم باختلاف زمانهم عن زمن كتابة النصّ الإنجيلي.
ترجم الفنان حدث لقاء الأبرص مع يسوع، أو فعل “الممارسة التطبيقية” وفقًا لمصطلح اللاهوت الرعوي الأساسي، الذي قام به يسوع تجاه المريض. فموضوع اللوحة هو ممارسات يسوع في حياته العلنية، ردّة فعله، طريقته في التعامل مع الأبرص. لكن إذا نظرنا نظرةً عميقة إلى الوحة نكتشف أنَّ فعل يسوع تُجاه الأبرص ليس الحدث “الرئيسي” بل “الثانوي” والحدث “الرئيسي” هو ما يفعله الرجلان الواقفان خلف يسوع، كذلك ما يفعله الرجال ذوو الملابس المختلفة عن يسوع والرجلان الواقفان خلفه. يركز الرجلان وباقي الجماعة الملّتفة حول يسوع على يديه وطريقة تصرفه مع الأبرص.
يرمز الرجلان إلى الكنيسة (القديسان بطرس وبولس، “القانون”، و”المحبة” في الكنيسة). في حين يُمثِّل الرجال المتحلقون حوله، بملابس العصر الذي عاش فيه الفنان في العام 1040، إلى المسيحيّين والكنيسة الحاضرة في الزمن. تتبع الكنيسة يسوع وتلاحظ دومًا يديه الفاعلتين في التاريخ، منذ نشأتها بواسطة الرسل، إلى أولئك الرجال البسطاء الذين يعيشون في زمن الفنان، بعد الف سنة من زمن المسيح. يتبع المسيحيين دومًا خطى المسيح في كل وقت، في زمن الرسل، وفي الزمن الذي عاش فيه الفنان، ويسلكون مسلكه: “مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضًا” (1 يو 2: 6). فمسلك يسوع هو “معيار” مسلك المؤمنين، “معيار” مسلك الكنيسة جمعاء. وهكذار تُصبح ممارسات يسوع هي “المعيارية” لممارسة المسيحيين. موضوع اللوحة هي “ممارسات” المسيحيين وكنيسة المسيح: هل تستمد “الممارسات” المسيحية في الكنيسة “معيارها” من “ممارسة” المسيح وأفعاله؟ وهذا هو موضوعنا الأول في بحثنا في اللاهوت الرعوي الأساسي: من أي شيء تستمد الكنيسة “معاييرها” لعملها الرعوي؟ وما هي “أهداف” ممارساتها الرعوية؟ وما هو تصوُّر الكنيسة للممارساتها الرعوية؟
فلنتأمل في الحدث الإنجيلي كما رواه القديس متى 8: 1- 4
وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ،
تَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ.
وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ
وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً:
«يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ
تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي».
فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ
وَلَمَسَهُ قَائِلاً:
«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!».
وَلِلْوَقْتِ
طَهُرَ بَرَصُهُ.
فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:
«انْظُرْ أَنْ لاَ تَقُولَ لأَحَدٍ.
بَلِ اذْهَبْ
أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ،
وَقَدِّمِ الْقُرْبَانَ
الَّذِي أَمَرَ بِهِ مُوسَى
شَهَادَةً (للشفاء) لَهُمْ».
- الرجل المُهمش
يظهر الأبرص كرجلٍ مهمش تمامًا من الجماعة الإنسانية، لا بل هو ميّتٌ لدى البعض، حيث كان لاهوت الرابيّين يضع مرضى البرص ضمن الموتى (را. عدد 12: 10- 13). يواجه الأبرص موتٌ سابق للموت الحقيقي، الموت الاجتماعي. فالموت، كانفصال عن الجماعة، هو موتٌ عن الحياة، أو حياة كالموتى. فالحياة ليست فقط في هواء يدخل ويخرج من الرئتين، بل سعادة العيش، إذ إنها تختلف عن البقاء على قيد الحياة بأي صورة من الصور.
يظهر موت الأبرص الاجتماعي ورفضه من الجماعة الإنسانية، في حالاتٍ ثلاث:
- يعانى من عدم القَبول: هو محرومٌ من العلاقة مع الآخرين. هو ممنوعٌ، بحكم الشريعة، حتّى لا ينقل العدوى. ليس هو فقط، بل أيضًا أفراد عائلته، في حال سيره في الطرقات العامة، لابد أن يُعلن ويحذر المارة من خطورة مرضه بصوت عال، وفي العصور الوسطى أُجبِرَ مرضى البرص على وضع جرس في رقابهم حتّى ينتبه المارة ويبتعدون عنهم، هو محرومٌ من العلاقات الاجتماعية الطبيعية، والحياة دون علاقات مع آخرين هي موتٌ.
- يعاني من انخفاض تقديره لذاته وقيد على حريته الداخلية: ونتيجة حرمانه من العلاقات الطبيعة فهو غير قادر على النمو النفسي، ويعاني بشدة من انخفاض مستوى تقديره لذاته، ولا يشعر بالحرية الداخلية. لقد أُجبِرَ على الانغلاق على نفسه، مُقيد بسجن مرضه، لا يتمتع بالحرية مثل الآخرين، والحياة بدون حرية داخلية وخارجية ليست حياة، بل هي موتٌ.
- يعاني من فقدان الانتماء لجذوره العائلية، تعرَّض الأبرص إلى تهديد أصيل لجذوره الاجتماعية، فقد ترك عشيرته، ترك أرضه ووطنه. ينتمى الإنسان إلى العائلة والعشيرة والوطن، يشعر معهم بالحماية والأمان. يفتقد الأبرص هذا الإنتماء، يعيش كالغريب، كلاجئٍ في أرضٍ غريبة. والحياة دون انتماء لآخرين، لعائلة ووطن، ليست حياة، بل هي موتٌ.
حُرم الأبرص من كافة الأشياء التي تُشَكل حياة الإنسان الطبيعي، من علاقاته الاجتماعية، من فرصة الانتماء لعشيرة ووطن، من نمو حريته الداخلية: من القبول وتقدير الذات، من حريته الداخلية، من انتمائه لجماعة.
هو ميّتٌ في نظر الجميع، ميّت اجتماعيًا، فالإنسان كائن اجتماعي: رجاؤه بأن يعيش حياة ملؤها الفرح والسعادة، مختبئ مثل النار تحت الرماد. أظهر الفنان في رسمه للأبرص عن جوعه لهذا الرجاء بأن يعيش حياة طبيعة مثل الآخرين من خلال وضع اليدين المتضرعين الموجهتين إلى سيّد الحياة، طالبًا أن يعيد إليه حياة ملؤها جمال الحياة. يشعر الأبرص بأن الواقف أمامه بإمكانه أن يُعيد إليه الحياة المسلوبة بفعل مرضه.
- ممارسات يسوع
لقاء يسوع والأبرص لقاء مُحرر وشافٍ. قدم يسوع ك “المخلص”. أعاد يسوع للأبرص الحياة التي فقدها بسبب المرض. وكما ظهر المرض في حالات ثلاث، كذا فإن حياة الأبرص المستردة تظهر في حالات مماثلة:
يسوع يقبل الأبرص قبولاً تامًا: يُظهر رسام اللوحة الفنية نظرة يسوع وحركة يديه اللتين تظهران الترحيب وقبول الأبرص، فاليد اليمنى مفتوحة للسلام واللقاء وعلى استعداد للحضن والعناق، كذلك العينان تنظر بعطف وحنان بالغ للمائت اجتماعيًا. لقد خالف يسوع الشريعة التي تلزمه بالابتعاد عن الأبرص حتى لا تنتقل إليه العدوى، مخالفات مستمرة للشريعة تصل به في النهاية إلى الصليب. أَظهر يسوع أنّ الإنسان أهم من الشريعة التي من صنع الإنسان، واعتبر أنّ تحرير الإنسان من فقره الكياني أهم كثيرًا من التشريعات (الإنسانية). أكمل يسوع شريعة الله وتغاضى عن شريعة الإنسان.
يسوع يمدّ يده: يُعيدنا المشهد إلى قصة الخلق، الذي يتشكل فيه الكون والخليقة وتخرج من يد الله. ” وَلَمَسَهُ” يلمس يسوع الأبرص، وهو غير خائف من لمس “المائت” و”الموت”. ترافق كلمة يسوع “المحيية” حركة يده ليتم “الخلق” فيُعيد الحياة للأبرص: لم يقتصر شفاء الأبرص على جسده، الذي عاد سليمًا وطهُر من برصه، بل أعاد للأبرص حياته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية مع الآخرين. لم يعد منعزلاً، وحيدًا، منبوذًا، لذا يطلب يسوع منه أن يعود إلى حياته وعلاقاته الاجتماعية والإنسانية، أن “يظهر” للآخرين، للسلطة الكهنوتية في وقته. وتقديم القربان الذي أمر به موسى شهادة بعودة الأبرص من جديد إلى حضن الجماعة. يعود الأبرص من حقل الموتى إلى أرض الأحياء.
يسوع يُقيم الأبرص: يضع رهبان ريشنو هذه اللوحة ضمن اللوحات التي تصف أعمال إحياء يسوع للموتى، إقامة لعازر، ابن الأرملة نائيين، الصبية ابنه يايرس. لذا يبدأ الإنجيليي متى روايته عن الأبرص بالقول: “وَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ” فمن الجبل بدأت قصة البشرية مع الله، الذي ينزل منه يسوع للقاء الإنسان المعذب والمُهمش والذي لا يعيش حياة كاملة، فينزل يسوع ليمنحه الخلاص. يأتي عمانوئيل “الله معنا” ليبقي مع الإنسان في مسيرته. وتكشف ممارسات يسوع عن إرادة الله في مواجهة الأبرص، عن ألم الله تُجاه الواقع المأسويّ للإنسان، الذي يواجه الموت، يتدخل يسوع ليُعيد له الحياة “وَلكِنَّ اللهَ قَدْ دَعَانَا فِي السَّلاَمِ” (1 كورنثوس 7: 15).
- ممارسات الكنيسة
تُشكّل ممارسة يسوع، التي تُعبِّر عن إرادة الله في الوقت ذاته، المعيار الذي في ضوئه يتمُّ تقييم ممارسة الكنيسة ورجالها في كل زمان، وهذا هو موضوع اللاهوت الرعوي الأساسي والرئيسي. فإرادة الله تجسدت في ممارسات يسوع العلنية والملموسة، وهذا هو “المعيار” الذي يُحدِّد ويُقيّم ممارسات الكنيسة اليوم، وفي كل زمان. فالهدف النهائي للعمل الرعوي هو أن يصل بالكنيسة أن تؤدّي الأداء ذاته، الذي قام بها يسوع في حياته الأرضية، والذي جسّد فيه إرادة الله تُجاه الإنسان والكون، ووفقا “للمعيارية” التي تعكسها تصرفات يسوع كما تظهر في رواية الأناجيل.
فأعمال الكنيسة “يجب” أن تعكس، كما أظهر يسوع في لقائه بالأبرص، عدم رضى الله عن “موت” الكثيرين في حياة بائسة، والتزامه، الذي لا يكّل، تُجاه حياة كل إنسان بأن تكون أفضل: “فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ” (يوحنا 10: 10). فهل تتفق أعمال الكنيسة الرعوية وممارساتها في هذا المجال مع إرادة الله التي نفذها يسوع في حياته الأرضية؟
إن ما صورّه فنان رشينو في لوحته يُعدُّ نموذجًا لتحليل “المعيارية” المقصود في اللاهوت الرعوي. السؤال الأساسي المطروح هل تتطابق ممارسات الكنيسة مع “أفعال يسوع”، أي “إرادة الله”؟
- المعاصرون
ليس من باب الصدفة أن يرسم فنان رشينو العديد من الأشخاص، متحلقين حول الأبرص، وخلف بطرس وبولس، في لوحته الشهيرة، ونلاحظ من خلال ملابسهم إنهم معاصرون للفنان، في زمن يربو على ألف عام بعد المسيح. يمكن استخلاص هدف الفنان في نقطتين رئيستين:
الأولى: هدف إظهار ارتباط بين الحدث الإنجيلي والواقع الحياتي الذي يعيش فيه الفنان. فهو يسأل مشاهدي لوحته عن البحث الدائم عن علاقة حياتهم المعاشة بالأحداث الإنجيلية والبيبلية، عن إيمانهم وثقتهم بأن الموت قد مات ولقد أتى المسيح لتكن لهم حياة أفضل.
وهذا هو الموضوع الأساسي الذي يعالجه علم اللاهوت الرعوي الأساسي. ففي بؤرة الاهتمام يوجد “المعاصرون” في واقعهم الحياتي المعاش وزمنهم الذين يعيشون فيه. فهذا هو الزمن الذي يتدخل الله فيه لصالح الإنسان في واقعه وزمنه من خلال الكنيسة ورجالها وممارساتها. هذا هو زمن الخلاص، (kairós) كما ترد في الكتاب المقدس.
ثُمَّ قَالَ أَيْضًا لِلْجُمُوعِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ السَّحَابَ تَطْلُعُ مِنَ الْمَغَارِبِ
فَلِلْوَقْتِ تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَأْتِي مَطَرٌ، فَيَكُونُ هكَذَا.
وَإِذَا رَأَيْتُمْ رِيحَ الْجَنُوبِ تَهُبُّ تَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيَكُونُ حَرٌّ، فَيَكُونُ.
يَامُرَاؤُونَ! تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ،
وَأَمَّا هذَا الزَّمَانُ فَكَيْفَ لاَ تُمَيِّزُونَهُ؟
وَلِمَاذَا لاَ تَحْكُمُونَ بِالْحَقِّ مِنْ قِبَلِ نُفُوسِكُمْ؟ (لوقا 12: 54- 57)
هنا، في تحليل مختلف لأفعال وممارسات الكنيسة يسأل اللاهوت الرعوي الأساسي عن ما يُظهره المسيحيون عندما يُعلنون عن اتباعهم للمسيح وإيمانهم به.
- من هم مرضى البرص اليوم؟ فالمرض الجسدي يمكن شفاؤه من خلال الأدوية. لكن هناك الكثير من الناس والجماعات والطبقات والقبائل والشعوب المهمَّشة، مُبعدة عن عائلاتها وعشائرها وأراضيها وأوطانها.
- من هم أيضًا العميان، المقعدين، السجناء اليوم؟
- مع أي جماعة يجب أن تتضامن الكنيسة اليوم وتظهر وجه الله الرحوم؟
- ما هي قيود الحياة الطبيعية في مجتمعات اليوم؟
- من أين تأتي تهديدات الحياة التي من أجل مواجهتها والتصدي لها وضع الله ثقته في كنيسته ورجالها؟
الثاني: رسم فنان ريشنو “معاصريه” في لوحة يسوع والأبرص لأجل هدفٍ ثان. رغب في دعوة زائري كنيسة الدير إلى التحول من مجرد مشاهدين سلبيين للوحته، إلى مشاركين في صنع الحدث الإنجيلي ذاته. لوحته كانت بمثابة “رسالته” لزائر الكنيسة: أنت غير منفصل عن الحدث الإنجيلي! إذا أخذت على عاتقك تصرّف يسوع كمعيار لتصرّفك، يجب أن تغيّر حياتك وممارساتك مع الآخرين.
ينتقد البعض أداء الكنيسة خاصّة حرصها على تعليم لاهوت نظري لأبنائها، في حين تبقى حياتهم العملية بعيدة عن تطبيق نظريات اللاهوت، هنا نصل إلى الموضوع الثالث الذي يهم اللاهوت الرعوي الأساسي: لا يكفي فقط تحليل أفعال الكنيسة وممارساتها المختلفة بحيث تكون صحيحة ومتناسبة مع ما يتبّناه علم اللاهوت الرعوي الأساسي. فكما أشار فنان رشينو يهتم علم اللاهوت الرعوي الأساسي بما هو أكثر من التحليل والدراسة، إلى الالتزام بتغيير نبوي، بتجديد ونمو لتلك الممارسات للتناسب مع واقع الحياة المعاشة والمتغيّرة بسرعة كبيرة. نشير هنا إلى اللاهوت الرعوي العملي المدعوّ إلى التنشئة المتناسبة مع الزمن الذي تعيش فيه الكنيسة اليوم وواقعها الثقافي والاجتماعي.
قدَّم لنا فنان رشينو توضيحًا لمفهوم اللاهوت الرعوي الأساسي من خلال ثلاث موضوعات رئيسية: في البداية توضيح الهدف من الأعمال الرعوية المختلفة، ثم دراسة الواقع الزمني والتاريخي الذي تتمّ فيه تلك الأعمال، وأخيرًا التعديلات في تلك الأعمال والممارسات لتحقق الهدف منها بما يتناسب مع الواقع التاريخي والزمني الذي تعيش فيه الكنيسة.