إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

2020 عام البركات

1٬621

قارب العام على الإنتهاء، وعشنا فيه ظروفًا إستثنائية لم يشهدها  العالم من قبل بسبب جائحة كورونا-ﭬيروس. اختبر الجميع القلق والتوتر والخوف على النفس والمقربين من العدوي بالفيروس. عاني الملايين من الحجر الصحي وفُرضت القيود على الحركة، وإجراءات احترازية للوقاية وتم إلغاء الشعائر الدينية والاجتماعية والجماعية. مررنا جميعًا بأزمة نسأل الله أن تنتهي سريعًا.

لكن هناك دائمًا بركات تصاحب الأزمات، أو وفقًا لقول المحلل النفسي الكبير كريستيان سنغر: “تحدث الأزمات لتجنب الأسوأ”. فلا ينبغي النظر إلى الأزمة على أنها مصيبة قد وقعت، لكن على أنها خطوة أساسية وضرورية للنمو. فرصة للانفتاح على مرحلة جديدة وأكثر نضجًا من مراحل الحياة. للنظر إلى الأمر بإيجابية أكثر ولنحاول أن نستشف فرص النمو، والمراحل الجديدة المدعوين لها للنمو على جميع الأصعدة.

ننمو في المجال الصحي، فالحاجة إلى مستشفيات أكثر من تعبيد الطرق أصبح ضرورة. وإدخال التكنولوجيا للمدارس فرصة عظيمة لتطوير التعليم من سياسية التلقين إلى التدريب على البحث عن المعلومة. وهكذا كل صعيد مدعو إلى أكتشاف فرص النمو والمراحل الجديدة التي عليه أن يجتازها بدون خوف.

على المستوى الروحي، وهذا هو مجالي الذي يمكن أن أتكلم فيه. فإن الخطوة الأولى للنمو على الصعيد الروحي هو الإيمان بأن الأزمة هي فرصة للنمو. فتاريخ الخروج، بل العهد القديم كله، هو تاريخ “أزمات شعب إسرائيل”. في كل أزمة، وبالرغم من عدم أمانة الشعب، إلا إنه يختبر في وقت الأزمة غفران الله المحرر وحبه الغير محدود فيبدأ الشعب من الصفر مرحلة جديدة في علاقته مع الله.

استخدم أبو الطب “أبقراط” في القرن الرابع قبل الميلاد كلمة krísis  اليونانية أو “أزمة”، ليدل بها على نقطة التحول أو اللحظة الحرجة التي فيها أما أن يبدأ المريض في التعافي أو تتدهور حالته لنتائج مؤسفة. “نقطة تحول” تلد شيئا جديدا، جيدًا أو سيئاً”.

لنبدأ من جديد أخوتي، لننظر إلى جائحة كوفيد 19 كفرصة عظمية لأعادة ترتيب أوراق حياتنا الروحية. لنبدأ مرحلة جديدة في العلاقة مع الله. لنتمسك بهذه الفرصة لإعادة التفكير في حياتنا ومسيرتنا الروحية. “فالأزمات هي التي تعلمنا -كما يقول كريستيان سينغر- وهي التي يمكن أن تساعدنا على الدخول إلى عمقٍ جديد يعطي معنى للحياة. في مجتمعنا كل شيء يساعد على صرف انتباهنا وتسطيح المعنى، كل ما تبقى لنا هو الأزمة من أجل كسر حاجز الخوف والبدء في مرحلة جديدة”.

أزمة كجائحة كورونا-فيروس جاءت كإنذار يدفعنا إلى أن نسأل أنفسنا: أين نحن الآن؟ كيف نقرأ الأزمة الحالية في ضوء علاقتي مع الله؟ كيف يمكنا أن نبدأ في هذه الظروف مسيرة جديدة على المستوى الروحي؟

الخطوة الثانية هي السلوك بتدقيق وانضباط. هكذا يخاطب بولس الرسول أهل أفسس بقوله: “وَلا تَشتَرِكوا في أَعمالِ ٱلظُّلمَةِ ٱلَّتي لا ثَمَرَ لَها، بَل بِٱلحَرِيِّ وَبِّخوا عَلَيها. فَإِنَّ ٱلأَفعالَ ٱلَّتي يَفعَلونَها سِرًّا يَقبُحُ حَتّى ذِكرُها. لَكِن كُلَّ ما يُوَبَّخُ عَلَيهِ يُعلَنُ بِٱلنّورِ، لِأَنَّ كُلَّ ما يُعلَنُ هُوَ نُور. لِذَلِكَ يَقول: <إِستَيقِظ أَيُّها ٱلنّائِمُ وَقُم مِن بَينِ ٱلأَمواتِ، فَيُضيءَ لَكَ ٱلمَسيح>. فَٱحتَرِصوا إِذَن أَن تَسلُكوا بِحَذَرٍ، لا كَجُهَلاءَ، بَل كَحُكَماءَ” (أفسس 5: 11- 14).

يطلب بولس أن لا نشترك في أعمال الظلمة، أي الأعمال التي ليست من الروح. وواجبنا أن نوبخ تلك الأعمال. هنا التوبيخ هو للأعمال وليس للبشر. لا بد أن يُفهَم التوبيخ بطريقة صحيحة. عمل المؤمن ليس أن يعمل واعظًا في المجتمع يتوقّف عند كلّ عمل خاطئ ويبكّت ويوبّخ عليه.

استخدم بولس كلمة تفسيرها الحرفي يحمل معنى الإظهار: “أظهروها” بدلاً من وبّخوا عليها. وكيف يكون إظهار أعمال الظلمة؟ طبعاً ليس بالكلام، بل بإلقاء الضوء عليها، أي بعرضها للنور، وذلك بأن يسلك المؤمن في النور، فالضلال ينكشف عن طريق إظهار الحق. السلوك في النور يفضح السلوك في الخطأ دون قول أي كلمة.

أن تصبح حياة كل منّا كنقظة نور في وسط تشوبه الغيوم والظلام. يكفي أن تتحرك في الشارع اليوم، أو تفتح موقعًا من مواقع التواصل الاجتماعي ستجد نفسك أمام سلوكيات “غير منضبطة” تسود فيها التحفيل والتجريح في الآخر (لاحظ الحوارات الدائرة بين المسيحيين في مصر حاليا وانتقاد بعضهم لعقائد الآخر) هناك خطاب طائفي متعصب بامتياز يكشف عن عدم محبة تحملها القلوب تجاه أصحاب الطوائف والطقوس الآخرى: “مَنْ قَالَ إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ” (1 يوحنا 2: 9).

يقول الرسول “كلّ ما يُوَبَّخُ عَلَيهِ يُعلَنُ بِٱلنّورِ” ليس بمعنى التوبيخ والدخول في حوارات جدلية عقيمة، بل السلوك سلوكًا مستنيرًا في المجتمع المصري يدفع القلة التي تحمل داخلها تعصب مقيت، فترفض للآخرين، تلك التي تحمل تكبر وخيلاء بأنهم المختارين من الله إلى الخجل والتوبة لأن كل هذه السلوكيات هي عكس المحبة الأخوية.  

رفض السلوكيات الخاطئة لا يأتي بالمواجهة والمقارعة بل تُكشف “بالنور”، كما يقول بولس الرسول، أي  بتسليط النور الحقيقي، أي السلوكيات الصحيحة. بأن نعلن إننا أخوة في جسد واحد، مختلفين في بعض أمور العقيدة لكننا متحدين بالمحبة والصلاة لأجل بعضنا البعض.  نتبع طقوس مختلفة ونعبر بطرق متابينة على إيماننا برب واحد: أب وابن وروح قدس.

مطلوب أن نسير ضد التيار السائد، أن نتبنى عقلية المقاومة.  أن نقول “لا” للعقلية السائدة حاليًا لأجل أن نحافظ على مبادئ الإنجيل. فوقت الأزمات هو وقت العمل المسئول من جانب المؤمنين الحقيقين وهو يرون أعمال وسلوكيات تزكي الانقسامات وتزيد من عمق الهوة التي تفصل بين المسيحيين في مصر.

في آيات قليلة يذكر بولس ثلاث مرات كلمة “لا” (لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ… لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ… وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ) ليدل على معارضة المسيحي الحقيقي إلى تفكير العالم. فالمسيحي الجقيقي مدعو لتخطى الأحكام المسبقة والمصالح الشخصية لأجل أن يعيش فضيلة المحبة.  “أنَّ الحب يبني الجسور ونحن قد خُلقنا بفعل حب ومن أجل الحب” هكذا يرشدناالبابا فرنسيس في رسالته الجديدة “كلنا أخوة” في قوله:

الخطوة الثالثة هي أفتداء الوقت. يكمل القديس بولس تعليمه إلى أهل أفسس فيقول:  “مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ”.

تشير عبارة “الأيام شريرة” إلى أوقات الأزمات. فوقت الأزمات عندما تكون الأيام “شريرة” من المهم عدم الاستسلام لتيار الشر السائد، بل نتعلم إن حياتنا الزمنية هي ثروتنا الحقيقية ومن الحكمة تعلم استثمار الوقت بصورة جيدة. ليس لدينا وقت سوى هذه الأيام التي بين أيدينا، ليس هناك وقت يعطي لنا لنعيش إنسانيتنا وإيماننا وتعاليم الإنجيل سوى أيامنا التي بين أيدينا.

يقول القديس أغسطينوس: “الأيام شريرة، هكذا يقول الناس، ولكن كما نكون نحن، تكون أيامنا”.

بغض النظر عن مدى سوء وعدم أمانة العالم من حولنا، إذا بثّينا الحبّ والصدق والتسامح والعطاء، فسوف نجد أنفسنا داخل عالم من الحب والصدق والتسامح والعطاء. في الحقيقة أنّ الهواء الذي نُخرجه هو الهواء الذي سنستنشقه من جديد؛ فإذا كنّا نطلق الكثير من أكسيد الكربون في الهواء سنجد أنفسنا في النهاية نختنق. وهذا صحيح في كلّ ميادين حياتنا: إذا أطلقنا الحقد والكراهية، فسوف نجد أنفسنا في النهاية نتنفّس المرارة.

ليس لدينا رفاهية الوقت، ليس لدينا سوى هذه الأيام التي نملكها، فالوقت يضيق. لقد كشف لنا تفشي فيروس كورونا عن ضعف الإنسان وهشاشة كل شيء صنعه، فلا ننخدع مرة أخرى.

الأيام شريرة، ولكن كما نكون نحن، تكون أيامنا.. عندما نحب إخوتنا لا نبقى رهن الموت، بل ننتقل من الموت إلى الحياة: “نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إِلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت” (1 يو 3، 14).

لا تنتظر أن يبدأ الآخرون، بل أبدأ أنت في البحث عن القريب. يرى البعض أن الآخر هو عقبة، خاصة المختلف معي في العقيدة أو الدين، تذكر مثل السامري الصالح الذي خدم مَن لا يعرفه والمختلف معه في العقيدة والإيمان. أنت مدعو  لإدخال نظرة يسوع نفسه في العالم، نظرة الحب التي خص بها الجميع، حتى قاتليه على الصليب، النظرة التي تبحث عن الآخر وخدمته، نظرة تشجع ولا تدين، بل تحرّر وتعزّي.

وكل عام وأنتم بخير

القاهرة- ديسمبر 2020

قد يعجبك ايضا

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.