البقاء في الحصن
لكن في هذه المرة الذي يدعوا ليس نبيًا كالآخرين، بل هو رب الحياة وسيدها، الناهض من القبر، يقول بطرس نفسه في عظته الأولى بعد القيامة أمام مجمع اليهود: ” إِنَّ أَبانا داودَ ماتَ ودُفِن، وقَبره عِندنا إِلى هذا اليَوم… أما يَسوعَ هذا الَّذي صَلَبتُموه أَنتُم قد جَعَلَه اللهُ رَبًّا ومَسيحًا”. الذي يدعو بطرس هنا هو الرب ذاته. ليس شخصًا فريدًا في كلامه وأعماله بل رب الحياة ذاتها، الذي به نحيا ونتحرك ونوجد. الذي به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيءٌ مما كان. الذي فيه كانت الحياة، والحياة نورٌ للناس. الذي يدعو هو شخصٌ حي، وعندما يستجيب إنسان لهذه الدعوة يستطيع أن يقول مع بولس: “الحياة لي هي المسيح”. من هنا نفهم أصل دعوة القديسة كلارا وبناتها: هنّ لا يرغبن في المشاركة في خدمة ما، ولا في الكلام باسم المسيح والوعظ به، لكن يرغبنّ في اتباعه هو والبقاء معه والتأمل فيه من دون انقطاع. هنّ يبحثنّ عن العريس نفسه ويرغبنّ في البقاء معه وتأمل في كلمته على مثال مريم أخت لعازر.
الأمر الثاني هو اتباع دافعه محبة المسيح. يسأل يسوع بطرس ثلاث مرات قائلا أتحبني. في حياته على الأرض لم يسأل قط التلاميذ اذا كانوا يحبونه. علمهم عن محبة الله قائلا: لانَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” (يو3: 16). كلمهم عن محبته الشخصية وأعطاهم برهان على محبته ببذل ذاته على الصليب. أراد الرب أن يبرهن لهم أن محبته لهم هي محبة غالبة أبدية وعظيمة لا يمكن أن تصل محبة قط. برهن على هذه المحبة عندما قدم ذاته على الصليب، عندئذ سألهم “أتحبني”. لذا قال يوحنا في رسالته الأولى: “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً”. (1يو 4: 19). المعلم الصالح يعطي الدرس ويطبقه عمليا يقدم للتلاميذ كل الدرس وبعدها يمتحنهم.
يأتي جواب راهبات القديس كلارا على محبة يسوع لهنّ بأن يحيّوا لأجله فقط. وعندما يحب إنسان يرغب في أن يكون بجوار المحبوب، مكرسًا وقته وعطاءه وخدمته له. وهذا تجاوب الراهبات على محبة الله لهن بالبقاء معه منذ الآن إلى الأبد.
أمر ثالث أن الاتباع هنا بلا حدود وإلى المنتهي حتى الموت. في أحد المناسبات قال الرب أنه سيذهب والآن لن يقدروا أن يتبعوه، فقَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «حَيْثُ أَذْهَبُ لاَ تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي، وَلكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي أَخِيرًا”. هنا يدل المسيح لبطرس عن حدود الدعوة، هي بلا حدود وحتى الموت. هناك أشياء تنتهي قبل الموت، الزواج مثلا قد ينتهي ويترك المتزوجين بعضهم بعضًا، لكن دعوة يسوع لا تنتهي أبدًا، حتى الموت. لذا تبقي الراهبات داخل الحصن ولا يخرجنّ أبدًا حتى لقاء المسيح الناهض من القبر.
تتبع الراهبات الكلاريس يسوع لأنه شخص حي، لأنه سيد الحياة ذاتها، يتبعونه لأنهم يحبونه، وهذه الدعوة لا تنتهي إلا بالموت.