أحد الشعانين 2023
نبدأ الأسبوع المقدس بأحد الشعانين، أو كما كان يسمى في القرون الأولى “أسبوع الأسابيع” لأن كل شيء يدور حول هذا الأسبوع، موت المسيح على الصليب ثم القيامة التي تفسر كل شيء “وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضًا إِيمَانُكُمْ” (1 كو 15: 14).
ثم يدخل المسيح إلى أورشليم بشكل احتفالي وتهتف الجموع: “أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!”. كلمة “الآتي” هي من أجمل الأسماء التي أطلقت على يسوع. فمن السجن أرسل يوحنا المعمدان ليسأل قائلاً: “أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر”. وفي حدث إقامة لعازر تقول مرتا: “أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ”. الآتي إلى عالمي الخاص، إلى حياتي الشخصية والعائلية، إلى المكان الذي أعيش فيه، إلى عملي، إلى روحي المتألمة أو السعيدة. الآتي أحيانًا إلى المكان الذي أهرب منه أو أعود إليه. الآتي إلى قلبي وحياتي.
تفيد كلمة “الآتي”: “المضارع المستمر” لن يأتي مرة واحدة، لكنه كينبوع الماء الذي لا ينضب أبدًا، يأتي دومًا. أمن اليهود إنه سيأتي في نهاية الأزمنة يقود شعبه للدخول إلى الهيكل. يأتي ملكًا متواضعًا، لكنه يأتي إلى هيكله الجديد “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1 كو 3: 16). لم يأتي لسكان أورشليم في تاريخ محدد نحتفل اليوم بذكراه.. في الحقيقة نحتفل اليوم بدخوله الاحتفالي لقلب كل منّا، فهل نحن على استعداد لاستقباله؟
مجئ الآتي يطهر
يشير متى الإنجيلي أنه بعد هتاف الأولاد “أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!” وفرش الناس لثيابهم وأغصان الشجر في الطريق لأجل أن يسير عليها. ماذا صنع يسوع؟ دخل إلى هيكله.. كانت الجموع تملء الهيكل.. فأخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون وقلب موائد الصيارفة وباعة الحمام. طردهم جميعًا وقال «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» نقرأ في بعض روايات الأناجيل أنه صنع سوطا من الحبال وطردهم!! وهذا غريب عن شخصية يسوع. الحقيقة أن عمل يسوع بطرد الباعة لم يكن عنيفًا، بدليل أنه لم يؤدِّي الى تدخّل حرّاس النظام العام في الهيكل! ولم يستطع أحد أن يتصدى له أو يمنعه مما كان يفعله، دلالة على أنه عمل خاص “بالآتي” متى دخل هيكله تتحقق فيه نبوءة زكريا “ولا يَكونُ مِن بَعدُ تاجِرٌ في بَيتِ رَبِّ القُوَّات في ذلك اليَوم” (زكريا 14: 21). هو عمل تطهيري كما جاء في الرسالة الى العبرانيين ” فمَن أَحَبَّه الرَّبُّ أَدَّبَه، وهو يَجلِدُ كُلَّ ابنٍ يَرتَضيه” (العبرانيين 12: 6).
يـأتي “الآتي” إلى هيكله بصورة وديعة ليطهر كل الأفكار والأفعال والاهتمامات التي تملء قلب كل منّا والتي لا تناسب أروحنا. هنا “دوشة” في هيكل كل منّا بسبب الحياة التي نعيشها الآن وتعلقنا بشاشات الموبايلات ووسائل التواصل والاعلانات والمسلسلات والمظاهر الكاذبة. لم نعد نسمع صوت الله ولا نلاحظ دخوله المستمر واليومي في “هيكل” أجسادنا.
دخل المسيح أورشليم فهتفت الجموع فرحة به وأنشدت كلمات المزمور 118 “آهِ يا ربُّ خلِّصْ. آهِ يا ربُّ أحسِنْ إلينا. تبارَكَ الآتي باَسمِ الرّبِّ. نُبارِكُكُم مِنْ بَيتِ الرّبِّ. الرّبُّ هوَ اللهُ الذي أنارَنا. زَيِّنوا المَوكِبَ بالأَغصانِ المُورِقَةِ إلى قرونِ المذبَحِ”. هل نشعر نحن بتلك السعادة التي شعر بها سكان أورشليم في ذلك اليوم. عندما ندخل إلى كرسي الاعتراف هل نخرج منه بصورة أفضل وقد تحررنا من كافة الأفكار والأفعال الغير مناسبة لهيكلنا وحياتنا؟؟ هناك رواية عن مخترع السيارة الأغلى في العالم حاليًا لامبورجيني الذي داوم على زيارة بادرى بيو للاعتراف. زاره 17 مرة ولم ينجح في مقابلة القديس الذي كان يرفض طالبًا منه أن يكون مستعدًا أكثر. وفي المرة 18 قبل اعترافه فخرج الرجل إلى الساحة وراح يرقص فرحًا، فحدثت جلبلة خرج على أثرها بادرى بيو من الكنيسة ليشاهد المنظر، فحاول أن يسجد أمامه فنهره القديس قائلا له: “لقد نلت غفران يسوع المسيح فإذهب لشكره هو واحفظ بيته نظيفًا.
مجيء الآتي يشفى
دخل المسيح إلى الهيكل فدنا منه عميٌ وعرجٌ فشفاهم (متى 21: 14). إذا سمحنا ليسوع أن يدخل هيكلنا لن يطهرنا فقط بل يأتي ليحمل الشفاء لأمراضنا. لا يأتي يسوع مدمّرًا؛ لا يأتي بسيف الثوريّ. عندما أراد داود أن يدخل إلى الهيكل تم تحذيره ” «أَنَّكَ لا قدخُلُ إِلى ههُنا، فحَتَّى العُمْيأَنَّ والعُرجُ يَصُدُّونَكَ» (2 صمو 5: 6). عندما استولى على اورشليم، قتل داود الأول حتى العرج والعميان ودخل قائلا: “لا يدخل بيت الرب أعمى ولا أعرج”. أما داود الثاني آتي وديعًا ومتواضعًا فجاء إليه العميان والعرج إلى الهيكل فشفاهم. مثل هؤلاء المرضى، كانوا يُطردون من الهيكل. أما يسوع فاستقبلهم وشفاهم.
كل منّا يحتاج إلى الشفاء. فالمرض ليس جسديًا فقط، هناك أمراض روحية تحتاج للشفاء مثل الكبرياء والنميمة والحسد والحقد. المشكلة أننا نهتم فقط بالأمراض الجسدية فنسارع إلى الطبيب ليساعدنا في تخفيف ألم الجسد. كم هو رائع أن نطلب الشفاء للمشاعر والأفكار والذاكرة. عندما نذهب إلى الطبيب لا بد أن يجرى الكشف ويعاين موضع المرض كذلك الأمراض الروحية تحتاج إلى تُكشف بكل تواضع أمام الكاهن، الوسيط. إذا قلت إني أشعر بالعار إذا كشفت عن موضع خطيئتي أمام الله في سر ال اعتراف.مار آفرام السرياني كان يصلي دائما: “يارب اجعلني أرى خطاياي”. هل نستطيع أن نصلي هذه الصلاة أم نخفي الخطايا عن الله. يدخل الآتي إلى قلوبنا ليطهرها ويشفي كل مرض وعلة.
قال أحدهم يومًا لبادرى بيو: “لا أؤمن بالله”. فأجابه الأب بيّو: “ولكن يا بُنيّ إن الله يؤمن بك”. ففتح هذا الجواب عقله وعاد إلى الإيمان. بكلمات بسيطة بدأ علاج ذلك الشاب الغير مؤمن وعاد إلى حظيرة الإيمان.. يمكن القول بأنه شفي من مرضه وأنار الله قلبه من جديد.