احتفالية مغارة غريتشو
تمر اليوم 800 عام على تأسيس القديس فرنسيس لحدث مغارة الميلاد والتي تناقلها العالم أجمع من بعده، فلا توجد كنيسة أو منزل لا يحتوي على مغارة. تتنوع مغاراتنا اليوم وتتعدد أشكالها لكن ما يميزها بالطبع هو تمثيلها لحدث الميلاد كما رواها الإنجيلي لوقا. هناك أشخاص يلتفون حول الطفل يسوع: مريم ويوسف والمجوس وملائكة. لكن مغارة فرنسيس الأصلية لم تحتوى على أشخاص، لم يضع القديس تماثيل للعائلة المقدسة بالرغم من إن الكنائس كانت زاخرة بتماثيل وصور هؤلاء.
فقط أحضر فرنسيس ثورًا وحمارًا إلى جوار المذود الفارغ حتى من تمثال للطفل يسوع. لماذا الثور والحمار بالذات؟ لم يطلب فرنسيس خرافًا ولا حملانًا التي يرعاها الرعاة عادة. لم يريد ذكر للثور والحمار في حدث الميلاد، كما نقله القديس لوقا! لقد أراد فرنسيس أن يوجه أنظار البشر من جديد لكلام الله الذي يريد في نبؤة أشعياء والذي يبدأ بهذه الآيات: “اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ لأَنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ: «رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ أَمَّا هُمْ فَعَصُوا عَلَيَّ. اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيهِ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ»”. هناك رسالة أراد فرنسيس أن تصل إلى أشخاص بعينهم؟
يوبخ أشعياء النبي الشعب على خطاياهم وابتعادهم عن عبادة الله ويذكرهم بأن بمحبة الله الأبوية. أنتم أبناء الله الذي أحبكم بمحبة أبدية وصانكم مثل كحدقة عينه ونصركم على جميع أعدائكم وجعل مسكنه بينكم. لكن الشعب أبتعد عنه من جديد”رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ أَمَّا هُمْ فَعَصُوا عَلَيَّ”. هنا يذكر الثور الذي يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أم إسرائيل، أما شعبي فلا يفهم.
تحمل مغارة مجموعة رسائل، سأكتفي بثلاثة فقط:
الرسالة الأولى هي للكنيسة: لقد دعم البابوات الحملات العسكرية ضد الشرق لتحرير الأراضي المقدسة، حيث وُلد وعاش المسيح. كانت الكنيسة عدوانية وتجاهلت تعليم الإنجيل عن السلام والأخوة والتسامح والمحبة. الأرض المقدسة هي في كل مكان، لا داعي للحروب وسفك دماء الأبرياء. عندما تنبأ أشعياء بمجئ المسيح قال: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلَهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.» (إشعيا 9: 6). إننا نبشر برئيس السلام ونصبح أبناءه متى سعينا نحن أيضًا إلى السلام: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ.» (متى 5: 9). كان أول صلوات فرنسيس: “اجعلني آداة لسلامك” وذهب داعيا للسلام يعلنه أولاً للكنيسة ثم للمسلمين. ليس هنا حاجة إلى عبور البحر ومحاربة الآخرين لتذهب إلى الأراضي المقدسة، بيت لحم موجودة في كل مكان، حتى في غريتشيو، “لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ، وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا.” (مز 24: 1). بيتك هو بيت لحم، قلبك هو بيت لحم، حياتك هي بيت لحم الجديدة التي يُولد فيها المسيح.
إذا أمنت برئيس السلام فأنت مدعو أن تكون صانع سلام في عائلتك، في مجتمعك، في وسط الناس. الثور يعرف صاحبه والحمار معلف مربيه، فالحيوانات البكماء تقدر الخير الذي يصنع معها ولا تنساه، فكيف نسى شعبي كل ما صنعته من أجله، كيف يعصي الشعب خالقه ومخلصه. لقد نسوا تعاليمي واتبعوا آلهة غريبة. هكذا فعلت السلطات الكنسية في زمن فرنسيس. ليس هناك حاجة لسفك الدماء لأجل تحرير الأراضي المقدسة، لأن كل بقعة على الأرض هي مقدسة. بيت لحم هنا وهناك وفي أقصى المعمورة. بيت لحم هي قلبك وحياتك.
الرسالة الثانية هي للمؤمنين: صور القديس فرنسيس المغارة بشكل بسيط للغاية، لم يصور مريم ولا يوسف ولا حتى الطفل يسوع. احتفل بصلاة القداس ورنم الإنجيل ثم ألقي عظة قصيرة عن تجسد ابن الله. ثم أخذ فرنسيس جسد ودم الرب ووضعها على القش المذود. فهم فرنسيس أن كلمة مذود تعني حرفيًّا “معلف”، في حين أن مدينة المذود، بيت لحم، تعني “بيت الخبز”. معلف وبيت الخبز. في توصياته يعلن فرنسيس: “فَها هُوَذا، يَتَواضَعُ كُلَّ يَوْمٍ، مِثْلَما فَعَلَ لَمَّا أَتى مِنَ العُروشِ المَلَكِيَّةِ، إلى حشا العذراء. إِنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ، يَأْتينا في مَظْهَرٍ وَضيعٍ، وَكُلَّ يَوْمٍ يَنْحَدِرُمِنْ حِضْنِ الآبِ إِلى المَذبَحِ بَيْنَ يَدَي الكاهِن. لقد تواضع المسيح وتنازل من عرشه الإلهي ليحل في حشا البتول مريم، ويأتي كل يوم من حضن الآب ليتجسد بين يدي الكاهن. عيوننا البشرية لا ترى ذلك، كما أن الرسل بعيون الجسد لا يرون سوى جسد بشريته، لكنهم بعيون الروح يرون أنه ابن الله الحي، كما أعلن بطرس في قيصرية «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!»” (مت 16: 16).
كانت مغارة فرنسيس هي افخارستيا تحول هذه الأيام إلى كرنفالات كثيرة بعيدة تماما عن هدفها الأسمى. لذا حرصنا اليوم على عودة المغارة إلى طبيعتها الأولى في غريتشيو. فقط الثور والحمار رمزًا للإنسان المؤمن والغير مؤمن الذي يتجسد بينهم وفي وسطهم الرب بصفة مستمرة، أنت ابنٌ لله اختارك منذ البدء كمريم، ليحل في قلبك وحياتك، عبر الكتاب على لسان بولس الرسول: “كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ” (أف 1: 4).
الرسالة الثالثة هي للرهبان والمكرسين: يقول توما الشيلانو عندما يذكر حدث غريتشيو: “يتأمّل باستمرار في كلام الربّ.. وقد انطبعت في أعماق ذاكرته حتّى صار يصعب عليه أن يفكّر بأيّ موضوع سواها”. انطبع كلام الرب في ذاكرة فرنسيس فأراد أن يرى بعينيه ويلمس تلك الصعوبات التي تعرض لها الطفل يسوع مع نقص كل ما هو ضروري لطفل بأن يوضع على قش المذود.
إن التأمل المستمر وتذكر كلام الرب أشعلت رغبة فرنسيس في أن “أريد أن أرى بعينيّ الجسد” ما يقوله الإنجيل في قصة ميلاد يسوع. وبالتحديد فقر يسوع “أرى بعينيّ الجسد المعاناة التي تحمّلها ابن الله من جرّاء الحرمان ممّا هو ضروري لطفلّ مولود حديثًا”. في نهاية القصة شاهد أحد الحاضرين رؤية بأن الطفل يسوع نائمًا في المذود وعندما اقترب فرنسيس أيقظه من النوم العميق. هذه الرؤيا المذهلة لا تتناقض مع الحقيقة. لقد ايقظ فرنسيس بالفعل المسيح الرب في قلوب الكثيرين. كان نائمًا، منسيًا.
إن خطر النسيان والانشغالات اليومية والأعمال الإدارية تبعدنا عن انطباع كلام الرب في ذاكرتنا نحن المكرسون. تذكر كلام والتفكير في جعله معاش وسط الناس يوقظ المسيح في القلوب. من الضروري ألا نترك أنفسنا عالقين في هذا النوع من النسيان، بل أن نتأكد من أن يسوع حي دائمًا في قلوبنا وفي ذاكرتنا.