إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

سيرة القديس باخوميوس – الجزء الثاني

0 1٬013

بدء تأسيس نظام الشركة:

  1. حدث بتدبير من الله، أن اقبل إليه ثلاثة رجال هم : بسنتائيس، وسوروس، وبشاى وقالوا له: “نريد أن نصير رهبانا معك نخدم المسيح”. فتجاوب فى الحديث معهم حتى يعرف منهم مدى تخليهم عن عائلاتهم وتبعيتهم للمسيح، ثم وضعهم بعد ذلك تحت الاختبار. فلما لمس فيهم صدق النية ألبسهم ثياب الرهبنة وقبلهم أخوة له، بفرح وحب إلهيين. فكرسوا أنفسهم لحياة النسك والتداريب الروحية.

ولما استقر بهم الحال، نظروا فوجدوا أن آبا باخوميوس يقوم بكل المهام فى الدير من زراعة وإعداد للطعام وفتح الباب لكل طارق، وخدمته لكل مريض حتى يعافى، بالإضافة إلى رعايته لرفقائه الثلاثة المبتدئين الذين لم يصلوا بعد إلى القامة التى بها كل منهم الآخر، وعلى ذلك لم يكلفهم بعمل ما، بل كان يردد على مسامعهم دائمًا قول الكتاب: “جاهد جهاد الإيمان وامسك بالحياة الأبدية التى إليها دعيت.

لكن هذا الأمر سبب حزنًا للأخوة، فقالوا له: “إننا فى حزن، يا أبانا، لأننا نراك هكذا تتعب فى كل أعمال الدير بمفردك، دون أن تشركنا معك.” فقال لهم: “من هو الذى يرضى أن يضع النير على البقرة ويتعبها إلى الدرجة التى تجعلها تسقط وتموت؟ هكذا لو أن الله نظر ووجدنى متعبًا فإنه حتمًا سيرسل آخرين لكى يساعدونى.”

ثم لم يلبث آبا باخوميوس أن رتب لهم طريقة المعيشة، حتى يسيروا على هداها، ونظم لهم بعض القوانين المستمدة أصولها من الكتاب المقدس وأساسها كله المساواة فى الأكل والملبس والنوم.

  1. طار صيت باخوميوس وبلغت أخبار تقواه كل بلاد مصر. وكان هناك خمسة أخوة يعيشون عيشة النسك مجتهدين فى عمل الرب. ولما سمعوا عن تقوى باخوميوس وإيمانه، قرروا أن يأتوا ليعيشوا معه، ويسلكوا مسلكه، فلما رآهم فرح بهم وقبلهم عنده وكان هناك خمسون أخ يعيشون بالقرب من النهر فى مكان يدعى طاباكات سمعوا أيضًا عن آبا باخوميوس، فجاءوا إليه فقبلهم، ولكن حين اكتشف أن لديهم فكرًا جسديًا طردهم ورفض إقامتهم معه.

على أن الله عمل فى الكثيرين، وقادهم ليأتوا إليه فكان يقبلهم، ويرشدهم ويبنى نفوسهم وفقًا للتعاليم الإلهية.

  1. لما رأى باخوميوس أن أعدادًا كبيرة قد جاءت لتعيش معه فى القرية بالقرب منه، أخذ الأخوة وذهب لكى يبنى لهم كنيسة يجتمعون فيها. وكان آبا باخوميوس يقوم على رعايتهم بنفسه خصوصًا وأنهم فقراء جدًا. وكان يذهب مع الأخوة كل يوم أحد إلى الكنيسة، للتناول من الأسرار المقدسة، وكان يقوم بقراءة الرسائل والإنجيل لهم. وفى طريقه إلى القرية والعودة، كان حريصًا ألا ينظر وجه إمرأة، تنفيذًا لوصية الإنجيل: “من نظر إلى امرأة لكى يشتهيها فقد زنى بها فى قلبه.

وحينما بلغ عدد الأخوة مائة، قام ببناء كنيسة أخرى فى الدير، حتى يسبحوا الله فيها، هذا بالإضافة إلى ذهابه لكنيسة القرية يوم السبت ليحتفل معهم بالافخارستيا، بينما كان الكاهن يأتى إلى الدير ليقيم لهم القداس الإلهى كل يوم أحد صباحًا. وذلك لأنه لم يكن بين الأخوة قط من يحمل رتبة كهنوتية، لأنه لحكمة لم يشأ آبا باخوميوس أن يكون من بين تلاميذه كهنة، حتى يجنبهم الصراعات التى قد تنشأ بينهم وما يستتبع من حقد وغيرة، ومجد باطل. وكثيرًا ما كان يحذرهم من هذا الأمر قائلًا: “إنه من الأفضل ألا نجرى وراء هذه الأمور، فى حياة الشركة التى نحياها، لئلا تكون سببًا للتقاتل، والغيرة والحسد، والانقسام، الذى قد ينشأ وسط الأعداد الكبيرة من الرهبان وهذا كله لا يتفق مع مشيئة الله. وكما أن اندلاع النار فى بناء كبير، قد يكون سببه شرارة صغيرة، هكذا أيضًا جهاد السنين قد يتبدد بسبب بداية أفكار العظمة فينا، لذلك فإن الأساس الذى تسلمناه من الآباء ونسير عليه هو أن من يقبل الأسقفية سوف يواجه آلامًا كثيرة.

وعندما كان أحد من الاكليروس يأتى لآبا باخوميوس لكى يجعله راهبًا، فإنه لم يكن يقبله، إلا إذا تأكد من صدق نيته وخالص تقواه، وقد يجعله فى كرامة الكهنوت ولكن بشرط أن يخضع لجميع القوانين الخاصة بحياة الشركة.

  1. لما زاد عدد الأخوة، واتسعت الخلية الرهبانية، قام آبا باخوميوس بتعيين بعض الأخوة القادرين كمساعدين له فى رعاية الأخوة وتدبير أمورهم لأجل خلاص نفوسهم، فعين أحدهم مسئولًا عن البت الأول ومساعدًا له لكى يعد المائدة والطعام للأخوة، كما عين أخًا آخرًا، تقيًا جدًا على بيت المرضى وكذلك مساعدًا له لكى يهتم بالمرضى ويرعاهم وكان متى أراد أحد أن يزهد عن الطعام تنسكًا لم يكن هناك ما يعوق رغبته. كما خصص أيضًا أخًا مشهودًا له بكلامه المملح بالنعمة لكى يكون مسئولًا عن الباب، وذلك حتى يمكنه أن يقابل الزوار ويتحدث إليهم بلطف كل حسب قامته. كما كان هذا الأخ مسئولًا أيضًا عن الأخوة طالبى الرهبنة حتى تتم رهبنتهم. أما فيما يختص بالبيع والشراء واحتياجات الدير فقد عين آبا باخوميوس أخًا آخرًا تقيًا لذلك الغرض.

هذا على أنه فى كل بيت كان يتم تغير المسئول كل ثلاثة أسابيع ليحل محله آخر. وكان جميع الأخوة يسلكون بخوف ورعدة. وهكذا كان يوجد فى كل بيت من هو مسئول عن البيع والشراء وتدبير الخوص اللازم للعمل ومستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه.

وفوق ذلك كله، نظم باخوميوس ثلاثة اجتماعات اسبوعية، لكى يعطى فيها الأخوة التوجيهات الروحية اللازمة لبناء أرواحهم، أحدهما يوم السبت والآخرين يوم الأحد. كما ترك حرية عقد اجتماعين آخرين يومى الأربعاء لرؤساء البيوت متى رغبوا فى ذلك حتى يعطوا توجهاتهم الخاصة للأخوة الذين يقودونهم.

تأسيس دير العذارى:

  1. كان لباخوميوس أخت تدعى مريم. وهى عذراء لم تعرف رجلًا، هذه لما سمعت عن أخيها، جاءت لرؤيته. فلما علم باخوميوس بخبر وصولها، أرسل لها مع الأخ المسئول عن الباب يقول لها: “يكفى أنك تعلمين إنني على قيد الحياة، فلا تتضايقي بسبب عدم رؤيتي أو مقابلتى، واعلمى أنكِ إذا رغبتِ الاشتراك معنا فى هذه الحياة، فإنكِ ستجدين نعمة أمام الله. وعلى أى حال اختبرى نفسك فى هذا الأمر، والأخوة مستعدون أن يبنوا لكِ مكانًا تعيشين فيه، وحتمًا سيدعو الرب أخريات يعشن معكِ ويخلصن بسببك. وإذا كان الإنسان لن يخرج بشئ من هذه الحياة، فعليه إذن أن يعمل الصلاح استعدادًا للحظة مفارقته هذا الجسد وذهابه إلى مكان الجعالة وفقًا لأعماله.” فلما سمعت أخته هذا الكلام، من فم الأخ البواب بكت متأثرة وقبلت النصيحة ووافقت أن تعيش بقية عمرها تلك الحياة الملائكية. فلما وجد آبا باخوميوس أن قلبها قد مال للحياة الفضلى الصالحة أرسل للحال بعض الأخوة وبنوا لها ديرًا فى قرية على مقربة من ديره، كما بنوا كنيسة صغيرة فى وسط الدير. ثم ما لبث أن سمع بخبرها كثيرات فجئن إليها، وعشن يمارسن معًا حياة النسك بجد واجتهاد. وعاشت أمًا لهن، متقدمة ومسئولة عنهن جميعًا، حتى لحظة انتقالها.

ولما وجد آبا باخوميوس أن عدد العذارى فى ازدياد دائم عين لهن أحد الشيوخ، يدعى آبا بطرس مشهودًا له بكلام النعمة الخارج من فمه، حتى يقودهن فى طريق الفضيلة بحسب وصايا الإنجيل. كما كتب لهن أيضًا قوانين الشركة وأرسلها لآبا بطرس حتى يعلمهن إياها. أما فيما يختص بزيارتهن، متى أراد أحد من الأخوة أن يزور أختًا أو قريبة له، كان أنبا باخوم يرسله إلى آبا بطرس الذى كان يرسل بدوره إلى الأم فتستدعى تلك الأخت ومعها أخت أخرى تصاحبها أثناء الزيارة. فكانتا تجلسان مع الزائر بكل لياقة وحشمة، حتى تنتهى الزيارة فيختموها بالصلاة، ثم ترجعان ثانية إلى موضعهما.

أما بصدد نياحتهن وكيفية دفنهن فحين كانت تتنيح إحداهن، كانوا يحضرونها إلى الكنيسة بعد أن تلفها الأم بالأكفان اللائقة. وكان على آبا بطرس أن يخبر آبا باخوميوس، ليرسل إليها بعض الأخوة العارفين بطقوس الدفن، حتى يساعدوا آبا بطرس فى هذه المهمة. فكانوا يقفون فى حجرة الاجتماعات، يسبحون المزامير، بنفس حزينة حتى يتم إعداد المدفن ثم تحمل الأخت المنتقلة فى نعش وتدفن فى الجبل وكان على جميع الأخوات أن يتبعن النعش تتقدمهن الأم الرئيسة بينما يسير الأب خلفهن. وكان بعد الانتهاء من الدفن، يصلون جميعًا من أجلها ثم يرجعن جميعًا إلى قلاليهن وهن حزينات على فراقها لهن.

وكان أنه بعد انتقال الأب بطرس إلى الفردوس، اختار آبا باخوميوس أبًا آخرًا له نفس التقوى يدعى آبا تيطس ليكون مسئولًا عنهن وكان كل من يراه يتعجب من شدة تقواه وطهارته.

زيارة أثناسيوس:

  1. بعد أن اختار الله البابا أثناسيوس ليكون رئيسًا للأساقفة، عزم أن يقوم بزيارة رعوية إلى كنائس طيبة وأسوان، يتفقد أحوال الرعية حتى يمنحها ثباتًا فى الإيمان وتعزية روحية. وكان عليه أن يمر فى طريقه على طبانيس حيث يوجد دير الأنبا باخوميوس ورهبانه ، فاستقبلوه بالتهليل والمزامير من مسافة كبيرة حتى وصلوا به إلى الدير. فصلى فى حجرة الاجتماعات كما بارك قلاليهم وصلى فيها. وعندما تقدم أسقف المدينة يسأله رسامة آبا باخوميوس كاهنًا. فأجابه البابا: “بالحقيقة، لقد سمعت كثيرًا عن آبا باخوميوس وعن سيرة تقواه وأنا فى الإسكندرية، وقد عرفت أخباره أيضًا منذ تنصيبى.”

أما باخوميوس، فما إن اشتم رائحة خبر رسامته، حتى اختفى فجأة وسط زحام الأخوة. فلما علم البابا بذلك، قام وصلى، وقال لأبنائه: “عظيم هو أبوكم، قولوا له لقد هربت من ذاك الذى يقود للغيرة والحسد والتطاحن، فاختبأت عنا، لأنك اخترت لنفسك ما هو أفضل، وهو الاحتماء فى الرب يسوع. وبما أنك هربت من المجد الباطل والعظمة، فإنني أطلب من الله أن يحفظك من كليهما. وقولوا له إن الأمر الذى هربت لأجله لن يحدث، ولكننى أرجو إذا مررت ثانية أن تسمح محبتك بأن أرى وجهك.”

ثم تركهم البابا ومضى فى طريقه نحو الجنوب، ومعه مجموعة من الأساقفة مودعًا بالمصابيح المنيرة والشموع، ومحبة أبنائه غير الموصوفة. ولما علم آبا باخوميوس أن البابا قد ذهب إلى طريقه، خرج من مخبأه وهو يشكر الله ويسبحه.

دعوة تواضروس:

  1. كان أحد الرهبان يسير فى طريقه آتيًا من الشمال، ولما دنا منه الليل، مال ليبيت فى طبانيس فأمر آبا باخوميوس الأخوة أن يرحبوا به ويكرموا وفادته بكل محبة أخوية. وبعد الانتهاء من تناول الطعام مع الأخوة، جلس آبا باخوميوس وسط الأخوة يتحدث إليهم بكلمة الله، وكان ذاك الأخ جالسًا أيضًا معهم، يسمع تفسير الإنجيل من فم آبا باخوميوس.

وكان أنه لما رجع هذا الأخ جنوبًا إلى ديره فى إبروشية إسنا، اجتمع الأخوة فى المساء، وكان من عادتهم أن يسرد كل واحد منهم، ما تعلمه من الكتاب المقدس أو ما قد سمعه من أفواه الآخرين للمنفعة. وكان حاضرًا معهم آنذاك، شاب صغير من عائلة غنية، يدعى تواضروس جلس بينهم صامتًا، ينصت جيدًا إلى كل ما يقال. فلما سرد كل واحد ما عنده، قام ذاك الأخ الذى جاء من الشمال وقال: اسمحوا لى أيها الأخوة أن أسرد لكم ما سمعته من فم رجل الله القديس آبا باخوم. لأنه حدث وأنا فى طريقى شمالًا إنى مررت على طبانيس وزرت القديس باخوميوس وبقيت هناك إلى المساء. وكان آبا باخوميوس جالسًا والأخوة مجتمعون حوله، يحدثهم بكلام الله وكان موضوع حديثه، خيمة الاجتماع وقدس الأقداس. فشرح قائلًا: “إن ذلك يشير إلى نوعين من الناس، النوع الأول هو المشار إليهم بالقدس الخارجى وهم أولئك الذين كانت خدمتهم وعبادتهم هى تقديم الذبائح الحيوانية والقرابين المنظورة (أى اليهود) والثانى هو المشار إليه بقدس الأقداس وهم الذين بلغوا كمال الناموس وكل ما بداخله مملوء من المجد والبهاء قعوض الذبائح الحيوانية كان هناك مذبح البخور وعوض المذبح كان يوجد تابوت العهد، وبه خبز التقدمة. وبدلًا من المنارة التى تضئ كان هناك كرسى الرحمة، حيث يظهر الله كنار آكلة والحقيقة أن قدس الأقداس بجملته إنما يرمز إلى تجسد الله الكلمة حين ظهر فى الجسد من أجل غفران الخطايا، والمقصود بكرسى الرحمة هو مكان غفران الخطايا (أى الصليب) وهذا هو كمال الناموس.”

فلما انتهى هذا الأخ من سرد التفسير الذى سمعه من فم آبا باخوميوس أردف قائلًا: “والحق إننى كلما تذكرت كلمات رجل الله القديس آبا باخوميوس، وبناءًا على كل ما قاله، فإننى أثق بالأكثر أن الله سوف يغفر لى كل خطاياى.” فتعجب جميع الأخوة من هذه المعرفة العظيمة التى لدى القديس باخوميوس ولما حان وقت الانصراف، رجع كل واحد إلى قلايته. أما تواضروس فقد تأثر جدًا بما سمعه، وكأن نارًا قد اضطرمت فى قلبه نحو القديس باخوميوس، فاشتاق إلى رؤيته وسماعه، وفعلًا قام وذهب إلى قلاية ذاك الأخ وسأله عن آبا باخوميوس فأخبره بكل شئ عنه وكيف أنه يستقبل كل أحد ويعظه بكلام الله المفرح للنفس. فلما سمع تواضروس هذه الكلمات، رجع إلى قلايته وصلى لله بدموع قائلًا: “أيها السيد الربإله القديسين، لتكن إرادتك فى أن تمنحنى أن أرى خادمك آبا باخوميوس.” وظل هكذا يصلى طول الليل.

  1. بتدبير من العناية الإلهية، أرسل آبا باخوميوس أحد رهبانه، وهو آبا باكوس إلى الجنوب، لقضاء بعض حاجات الأخوة. وفى طريق رحلته، دخل ليبيت فى ذلك الدير الذى يقيم به تواضروس. عندئذ أخبر ذلك الأخ (الذى حكى عن القديس باخوميوس) تواضروس بمجئ آبا باكوس وأنه من دير القديس باخوم. فللحال طلب تواضروس من آبا باكوس أن يأخذه معه لكى يلتقى بالقديس باخوميوس. ولكن لما علم آبا باكوس أن تواضروس من أسرة غنية من مدينة إسنا، وأنه صغير السن، رفض طلبه قائلًا: “إننى لا أستطيع أن آخذك معى بسبب والديك.” لكن تواضروس عقد النية ووطد العزم، وأضمر فى قلبه أن يقابل آبا باخوميوس بأية وسيلة. فكان انه حينما تركه آبا باكوس، وغادر الدير، سار هو أيضًا فى أثره، حتى وصل إلى الشاطئ حيث المكان الذى أقلعت منه المركب التى تقل آبا باكوس وبعض الأخوة، فلما رأوه قالوا لآبا باكوس: “أنظر أن الأخ الذى رفضت أن تأخذه معك، ها قد حضر إلى هنا، وهو قد سار طول اليوم حتى وصل إلى الشاطئ.” عندئذ رجعت المركب إلى الشاطئ وأخذوه معهم. ولما وصلوا إلى طبانيس، قدمه آبا باكوس إلى أبينا باخوميوس. وحالما تعرف عليه تواضروس، راح يقبل يدى القديس ورجليه كما قبل أبواب الدير، ثم أدار وجهه، وبكى قائلًا: “مبارك أنت أيها الرب لأنك استمعت إلى صراخى واستجبتنى.”

أما باخوميوس، فلما رآه يبكى هكذا، قال له: “لا تبك يا ابنى لأننى لست إلا خادمًا لله أبيك.” وفى الحقيقة كان ذلك بترتيب إلهى حتى يصير تلميذًا لباخوميوس وبعد أن قدمه الأب لكل من فى الدير، عاش تواضروس بينهم مقتديًا بسيرتهم الصالحة، ومشابهًا لهم فى اقتناء الفضائل. وقد وضع فى قلبه أن يحفظ هذه الأمور الثلاثة: طهارة القلب، والكلام المملح بالنعمة، والطاعة غير المتقمقمة حتى الموت.

طفولة تواضروس:

  1. ولد تواضروس من أسرة غنية، وكانت أمه تحبه جدًا. ولما بلغ سن الثامنة، أرسلوه للمدرسة ليتعلم القراءة والكتابة. وحينما أكمل من عمره اثنى عشر عامًا بدأ يمارس حياة التقشف، فلم يكن يأكل أكثر مما يأكله الراهب عادة وكذلك كان يصوم كل يوم حتى المساء وأحيانًا يأكل كل يومين.

وقد حدث فى أحد الأيام، أثناء الاحتفال بعيد الظهور الإلهى وبعد أن عاد من المدرسة، وجد العائلة تحتفل بهذا العيد احتفالًا عظيمًا، وهم قد اعدوا لذلك أصنافًا متعددة من الطعام والشراب. ولكنه أحس فى قلبه بشعور قوى نحو العزوف عن الأكل من تلك الأطعمة، وكأن صوتًا يقول له: “إذا استسلمت لهذه الأطعمة والخمر فإنك لن ترى ملكوت الله.” فقام لوقته وذهب إلى حجرة منعزلة من البيت، وصلى بدموع قائلًا: “أيها السيد الرب يسوع المسيح، يا من أنت وحدك تعلم، إننى لست أريد شيئًا من هذا العالم سواك. إننى أطلب أن تدركنى مراحمك سريعًا.”

ولما علمت أمه، أنه قد رجع من المدرسة ومع ذلك لم تره، قامت سريعًا تبحث عنه فوجدته منفردًا فى ذلك المكان، واقفًا يصلى وقد امتلأت عيناه بالدموع. فسألته عمن ضايقه أو أغضبه، حتى تؤنبه أو تعاقبه، وطلبت منه أن يقوم ليأكل معهم حيث اليوم عيد والكل ينتظره منذ الصباح الباكر. فقال لها: “اذهبوا وكلوا أنتم لأننى لن آكل الآن. فذهبوا. أما هو، فقد استمر فى الصلاة حتى الصباح دون أن يأكل أو يشرب شيئًا.

وما أن لاح الصباح حتى قام وذهب إلى أحد الأديرة بمنطقة إسنا، وهناك ظل يمارس حياة التقوى مع بعض الشيوخ الرهبان. وكان عمره حينئذ أربعة عشر عامًا. وعاش هناك باتضاع عظيم، يجاهد فى حياة الفضيلة لمدة ست سنوات، حتى ذهب مع آبا باكوس إلى القديس باخوميوس وكان قد أكمل من العمر وقتئذ عشرين ربيعًا وصار تلميذًا له بإرشاد العناية الإلهية التى لا تنسى أولئك الذين يطلبون اللهمن كل قلوبهم.

التكوين الروحي لتواضروس:

  1. لما وصل تواضروس إلى طبانيس، واستقبله آبا باخوميوس بفرح، لأنه رأى محبته الفائقة نحو الله. واستمر فى ممارسة حياة النسك من صوم وسهر، سالكًا بتواضع نحو كل أخ لكى يقتنى روح البذل. وبالرغم من حداثة سنه إلا أنه كان سببًا فى قيام كثير من الساقطين. ولما رأى آبا باخوميوس تقدمه فى الفضيلة، وأن كثيرًا من الأخوة بدأوا يثقون فيه، فرح جدًا، وأيقن أنه سالك فى طريق الفضيلة باستقامة، لأن الله دائمًا يعلن عن خاصته.

وهكذا كان تواضروس ينمو فى كل الفضائل، وهو قد أحب بشجاعة طريق الحياة وكان مستعدًا دائمًا لتنفيذ جميع إرشادات آبا باخوميوس وتوجهاته. ولما رأى الأخوة أن تواضروس يتقدم فى حياته، مثل صموئيل النبى بدأ كثيرون منهم يسلكون مثله ويتشبهون به، وكان آبا باخوميوس كلما سأله أحد كلمة تعزية أو منفعة يقول له: “اذهب وخذ عزائك من تواضروس فى كل تجاربك وحروبك.” فكان كل من يذهب إليه من الأخوة يتعزى وينتفع كثيرًا ، حتى أطلقوا عليه لقب: “معزى الأخوة.” فقد كان بكلامه المملوء نعمة يريح كل من يأتى إليه، وكثيرًا ما كان يصلى معه حتى تنتهى تجاربه.

  1. لم تمض ستة شهور على وجود تواضروس بالدير، حتى جاء إلى آبا باخوميوس باكيًا، فتعجب الأب لرؤيته مثل هذه الدموع رغم حداثة سنه، وسأله: “لماذا تبكى؟” فأجاب: “أريد منك يا أبى أن توضح لى كيف يمكننى أن أعاين الله؟ لأنه إن لم يكن لى نصيب فى معاينة الله، فما الفائدة من وجودى فى هذا العالم؟” فسأله آبا باخوميوس: “وأين تريد أن تعاين الله، هل فى هذا العالم أم فى العالم الآتى؟” فأجاب: “فى العالم الآتى.” فقال له: “إذا أردت أن تعاين الله فاجتهد أن تثمر ثمار الإنجيل لأنه مكتوب “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. فعندما يرد على عقلك أية أفكار شريرة، مثل أفكار الكراهية أو الشر أو الغيرة أو الحسد أو الغيرة أو الحسد أو احتقار أحد الأخوة، أو أفكار المجد الباطل، فللحال قل لنفسك إننى لو قبلت أية واحدة من هذه الأفكار فإننى لن أعاين الله.” فلما سمع تواضروس هذا الكلام، وضع فى قلبه أن يسلك باتضاع ونقاوة، حتى يحقق الله شهوة قلبه ويكون له نصيب أن يعاين الله فى الدهر الآتى بل ويحيا معه.
  2. حدث فى خلال العام الأول لوصول تواضروس، بينما كان جالسًا فى قلايته، يجدل الحبال، ويردد ما يحفظه من كلام الله، ويصلى كلما حثه قلبه على الصلاة، إذ بنور بهي يملأ القلاية، وملاكان يظهران له فى شكل رجلين متألقين جدًا. فاضطرب تواضروس، وأسرع هاربا خارج القلاية، متسلقا سطحها. وهو لم يكن قد رأى رؤى من قبل. ولكن الملاكين ظهرا له ثانية وهو على السطح، لكي يطمئناه ويبددا عنه الخوف. وقال أحد الملاكين: “مد يدك.” فمدها، فوضع الملاك فى يده مجموعه من المفاتيح، فأخذها وأمسك بها. وفيما هو مندهش لذلك إذ بالملاكين يختفيان. ولما نظر إلى يديه، لم يجد المفاتيح. وبالرغم من حقيقة هذه الرؤيا إلا أن تواضروس لم يجرؤ على أن يخبر آبا باخوميوس بها. إذ كثيرًا ما سمع آبا باخوميوس وهو يقول: “إن المفاتيح قد أعطيت لى فى الخفاء.” وكلما تذكر تواضروس تلك الرؤيا كان يلوم نفسه قائلا: “من أنا الخاطئ حتى أكون مساويا لرجل الله. إن الأمر الوحيد الذى ينبغي أن يشغل فكري هو كيف أسلك باتضاع كل أيام حياتي، لأن هذه هى مشيئة الله الحقيقية.”
  3. أثناء الصوم الكبير، ذهب تواضروس إلى آبا باخوميوس وسأله: “مادام مدة أسبوع البصخة هى ستة أيام فقط، وفيها يكمل خلاصنا بغفران خطايانا، فلماذا لا نصوم طيًا الأربعة أيام الأولي معا، ثم اليومين الآخرين معًا. أجاب آبا باخوميوس أن قوانين الكنيسة قد أقرت أن نطوى الجمعة العظيمة وسبت النور فقط، وذلك حتى لا تخور قوانا ويصبح من العسير علينا أن نكمل الوصايا الأخرى، مثل السهر الدائم والصلاة كل حين، وقراءة الكتاب المقدس والقيام بالعمل اليدوي المطلوب حتى يمكننا أن نعطى الفقراء والمحتاجين والأمور التى هى مطلوبة من أولئك الذين لا يحيون فى الوحدة الكاملة. أما الذين يسلكون هكذا، فإنهم كثيرًا ما يسقطون فى المجد الباطل، أو تخور قواهم، أو ينتفخون ويصير كل تعبهم باطلًا”.
  4. ذهب تواضروس فى إحدى المرات يستشير آبا باخوميوس: “ماذا أصنع تجاه الصداع الذى ينتابني كثيرًا؟” فأجابه: “إن إنسان الله يجب أن يحتمل المرض الموجود فى جسده عشرة سنوات، قبل أن يبوح به لأحد. ما عدا ذلك المرض الذى لا يمكن إخفاؤه.” فلما سمع تواضروس ذلك، عزم أن يحتمل كل شئ بشكر من أجل الصليب الذى أحبه.
  5. حدث بعد أن حضرت أم تواضروس إلى الدير، ومعها خطابا من أسقف إسنا إلى آبا باخوميوس حتى يسمح لها برؤية ابنها، إذ قد عرفت أنه غير مسموح للأخوة أن يتقابلوا مع أقاربهم. فلما جاءت مع ابنها الآخر بفنوتيوس، سلمت الخطاب إلى البواب، الذى أوصله بدوره إلى آبا باخوميوس. عندئذ أرسل الأب وأستدعى تواضروس وسأله قائلا: “إن أمك وأخاك على الباب، فهل تذهب لمقابلتهما، حتى تريح قلب والدتك، وأيضا لأجل خطاب أبيا الأسقف؟” فأجاب تواضروس: “إن أنا ذهبت للقائهما، ألا أصير مخطئا أمام الرب الذى أعطانا الوصية أن نحبه أكثر من أقاربنا؟ فإن كانت مقابلتي لهما ليس فيها كسر للوصية، فأنا مستعد أن أذهب، أما إن كان فيها كسر، فإنني لن أذهب ولو تسبب ذلك فى موتها كما فعل بنو لاوي، حينما أطاعوا موسى النبي وقتلوا اخوتهم وذويهم الذين سجدوا للأصنام. وعلى ذلك فإنني لن أخطئ إلى الله خالقي من أجل عاطفة جسدية نحو أقاربي.” حينئذ أجابه آبا باخوميوس: “إن كنت أنت عازما فى قلبك أن تطيع وصية الإنجيل فهل أدفعك أنا إلى كسرها؟ إنني لا أشجعك على ذلك. والحقيقة حينما أخبروني أن والدتك تقف على الباب تبكي، خشيت أن تسمع أنت بذلك فتتألم، وأما من جهتي، فإن قرة عيني أن أراك مكملا الوصايا الإلهية كل أيام حياتك. وبخصوص الأسقف الذى كتب لنا الخطاب، فعندما يعلم أنك رفضت لقاءها، لن يغضب منك، بل على العكس، سوف يفرح لعزيمتك وقوة إرادتك، لأن الأساقفة هم آباؤنا الذين يحفزوننا دائما أن نثبت فى تنفيذ وصايا الإنجيل.”

هذا وقد أعطي آبا باخوميوس أمرًا بضرورة الاهتمام بأم تواضروس وأخيه، وأن يكرموا وفادتهما فى مكان خاص يليق بهما. وبعد مضى ثلاثة أيام، أيقنت أم تواضروس أن ابنها لن يحضر للقائها، فبكت بغزارة حتى إن كثيرين رثوا لحالها، وأخبروها أن ابنها تواضروس سوف يمر مع آخرين باكرًا، أثناء ذهابهم إلى العمل، وأشاروا عليها أن تصعد على السطح حتى تراه، وفعلًا نفذت المشورة، وانتظرت على السطح حتى رأته من بعيد مع آخرين.

  1. لما رأى بفنوتيوس أخاه تواضروس من بعيد، جرى نحوه وهو يبكي قائلًا: “أنا أيضا أريد أن أصير راهبًا مثلك.” وقد كان أصغر من تواضروس. فعاش فى الدير، ولكن تواضروس لم يكن يتحدث معه قط ولم يكن يعامله كأخ له. فكان بفنوتيوس يحزن ويكتئب لهذه المعاملة. ولما علم آبا باخوميوس أن تواضروس يعامل أخاه بهذه القسوة استدعاه وقال له على انفراد: “ياتواضروس، ألا تعلم أنه ينبغي أن تكون حنونا على الأخوة المبتدئين، لأنهم مثل الغروس الجدد، كما تولى النبتة الصغيرة اهتمامًا خاصًا وتتعهدها بالري والعناية حتى تقوى جذورها وتثبت، هكذا أيضا يجب أن تسلك مع كل أخ مبتدئ.”

وبعد أن أوصاه هكذا. أرسل واستدعى شقيق تواضروس وسامه راهبًا، فعاش فى حياة النسك كبقية الأخوة. أما بخصوص الأم فقد رجعت من حيث أتت، وهى حزينة جدًا تبكى بشدة، ليس فقط من أجل عدم لقاء تواضروس لها، بل وأيضا من أجل بقاء بفنوتيوس فى الدير للرهبنة.

ثقة باخوميوس في الله:

  1. حدث مرة، أن كان الدقيق على وشك أن يفرغ من الدير، ويصبح الاحتياج شديدا إلى الخبز، فحزن الأخوة جدا لهذا الأمر. لكن آبا باخوميوس عزاهم قائلا: “إنني أثق أن ربنا يسوع المسيح لن يتركنا، وعلى أى حال توجد هناك سجادتان كبيرتان ذو قيمة كبيرة، كان قد أحضرهما أحد المحبين، يمكننا أن نبيعهما ونشترى بثمنهما قمحًا.” وذهب آبا باخوميوس وقضى تلك الليلة كلها ساهرًا فى الصلاة، يشكر الله من أجل رعايته ومحبته للبشر. وما هى إلا ساعات حتى جاء أحد الحكام يقرع باب الدير، قائلا للبواب: “أخبر آبا باخوميوس أنه توجد كمية من الدقيق، نذر على، حضرت لأوفيه من أجل خلاص نفسي وخلاص عائلتي أيضا. لأنني أمرت فى رؤيا أن أحضر هذا الدقيق إليكم، لأنكم محتاجون إليه. والآن أخبره بأن يرسل بعض الأخوة لكى يفرغوا الدقيق من المركب. وارجوا أن تذكروني فى صلواتكم.” فلما علم آبا باخوميوس بذلك تعجب جدًا من محبة الله وقال للرجل: “حقيقة نحن محتاجون للدقيق، ولكننا لا بد أن ندفع ثمنه، وكل الذى نرجوه منك أن ترجئ السداد قليلًا، حتى نستطيع بنعمة الله، أن نوفيك الدين.” فأجاب الرجل: “أنا لم أحضر هذا الدقيق إلى هنا لكى تشتريه، ولكن من أجل خلاص نفسي، وأيضا لأنكم رجال الله القديسون وأنا محتاج لصلواتكم.” عندئذ أفرغ الدقيق بمساعدة بعض الأخوة. فأعطاه آبا باخوميوس بعضا من الخضروات وبعضا من الخبز، وبركة من الدير فقبلهم الرجل بإيمان. وأخيرًا باركه الأب وودعه بسلام، فذهب من عنده وهو مملوء غبطة وسعادة.

ثم جلس آبا باخوميوس مع الأخوة يحدثهم عن هبات الله وخيراته التى يمنحها فى حينها. وقد تعجب الأخوة من عمل الله معهم، إذ أرسل لهم هكذا سريعًا ما يحتاجونه من المؤونة والزاد، بفضل إيمان خادمه القديس باخوميوس.

ديونسيوس المعترف:

  1. كان هناك أحد الآباء المعترفين يدعى ديونسيوس، كاهنا لمنطقة نيتانتورى، يخاف الله، وصديقًا روحيًا لآبا باخوميوس. ولما علم أن آبا باخوميوس لا يسمح للرهبان الضيوف أن يقيموا داخل الدير، بل فى منزل بجوار بوابة الدير، حزن جدًا وجاء إلى دير طبانيس، ليعاتب آبا باخوميوس على ذلك. فشرح الأب له الأمر قائلا: “هل تظن يا آبا ديونسيوس أننى أريد أن أحزن أحدًا؟ أنني عالم جيدًا، أننى لو أحزنت أحدًا فإنني سأحزن الرب ذاته الذى قال: بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغر فبي قد فعلتم. ولكنك كما تعلم أن هناك أصنافًا كثيرة من الأخوة داخل الشركة، مثل الشيوخ، والشباب، والمبتدئين. لذلك فإن الذين يحضرون كضيوف، فى وقت صلاة المجمع، نجعلهم يقيمون فى مكان بعيد خاص بهم، حتى يمكنهم أن يتناولوا طعامهم وأيضا نجعلهم يقيمون خارجًا،حتى لا يعثروا متى نظروا بعض الأخوة المبتدئين فى النسك يأكلون قبل الوقت على غير عادة الرهبان، وقد فعلت ذلك تشبها بما فعله إبراهيم حين استضاف الرب ومن معه تحت الشجرة، خارج الخيمة.” فلما سمع آبا ديونسيوس ذلك، استراح جدًا واطمأن قلبه من جهة هذا الأمر.
  2. كانت هناك امرأة، وزوجة لحاكم منطقة نيتانتورى، تعاني من نزيف دم لمدة طويلة. هذه لما علمت أن آبا ديونسيوس ذاهب إلى آبا باخوميوس، قالت له: “أنا أعلم أن رجل الله القديس باخوميوس، هو صديق لك، فأرجو أن تأخذني معك إليه حتى أراه، لأنني واثقة أننى لو رأيته فقط، فإن الله سوف يمنحني الشفاء.” فوافق أن يأخذها معه لا سيما وأنه عالم بالألم الذى تعانيه من جراء هذا الداء.

وبعد أن ذهب آبا ديونسيوس وتحدث مع آبا باخوميوس بخصوص أقامه الرهبان الضيوف خارج الدير طلب إليه قائلا: “إننى أطلب إليك أن تحضر معي، إلى قرب الدير.” فقام وذهب معه، وفى الطريق ظلا يتحادثان، ولما جلسا ليكملا الحديث، جاءت المرأة من وراء القديس باخوميوس ولمست ثوبه بإيمان، وفعلا تم لها الشفاء وشفيت من دائها. ولكن آبا باخوميوس لما علم بذلك حزن جدًا حتى الموت، لأنه كان دائما يهرب من المجد الباطل.

فطنة باخوميوس:

  1. بالقرب من دير طبانيس، ميلين نحو الجنوب ، كان هناك دير، وكان أب ذاك الدير يحب آبا باخوميوس جدًا، حتى أنه كان يأتى إلى حيث يقيم رجل الله ليسمع منه التعاليم الإلهية، ثم بعود إلى ديره ليرويها إلى رهبانه، فيزرع فيهم خوف الله ويحفزهم لتنفيذ وصاياه.

وحدث أن طلب أحد الرهبان مركزًا رئاسيًا فى الدير، فرفض أب الدير قائلًا له: “إن آبا باخوميوس، أفاد بأنك لا تستحق ذلك.” فاستشاط هذا الأخ غضبًا، وجذب أب الدير بشدة قائلًا له: “هيا نذهب إلى آبا باخوميوس، حتى أتأكد من صدق قولك “. فتبعه أب الدير وهو قلق مضطربًا متوقعًا ما لا تحمد عقباه. ولما وصل الاثنان ومعهما أخ ثالث إلى طبانيس وجدوا آبا باخوميوس مشغولًا فى بناء حائط بالدير. فصاح فيه هذا الأخ وهو مملوء غضبًا وقال له: “انزل وتعال اعطني إثباتًا على خطيتى، أيها الكاذب”. أما القديس باخوميوس، فقد شكره محتملًا إياه، ولم يجبه بكلمة. فاستمر الأخ فى توبيخه للشيخ قائلًا له: “ما الذى دفعك على الكذب، يا من تتفاخر بالرؤى، بينما أنت تحيا فى الظلام”. عندئذ فهم رجل الله حيل الشيطان وكيف أنه خدع هذا الأخ. فرد عليه قائلًا: “اغفر لى، فقد أخطأت إليك، لم تخطئ أنت إطلاقًا؟” حينئذ هدأت ثورة الأخ وسكن غضبه ثم انتحى آبا باخوميوس بأب الدير جانبًا وسأله عما حدث مع هذا الأخ فقال له أب الدير:”اغفر لى يا أبى إن هذا الأخ طلب أمرًا لا يستحقه، ولما علمت أنه لن يطيعنى، فقلت له، إن آبا باخوميوس هو الذى أشار بذلك، وذلك حتى يذعن للأمر. وأنا أعلم أنه لا يخفى عليك شئ، وهو قد أضاف إلى خطيته حماقة.” فقال له آبا باخوميوس: “اسمع لى، واعطه المركز الرئاسى الذى طلبه، حتى نستطيع أن نخلصه من أيدى الأعداء، لأننا فى صنعنا الخير مع الإنسان الشرير، فلا شك أنه سيسلك فى الخير، وهذه هى المحبة الإلهية أن نحتمل بعضنا بعضًا فى محبة.”

فلما رجعوا للدير، أعطى أب الدير، ما يرغب فيه ذلك الأخ، وفقًا لمشورة آبا باخوميوس. وما هى إلا أيام قليلة حتى حضر ذلك الأخ إلى آبا باخوميوس، يعتذر عما بدر منه، مقبلًا يديه ورجليه قائلًا له: “بالحق أنت رجل الله، وأنك أعظم بكثير مما سمعناه عنك والله وحده يعلم أنك لو لم تطيل أناتك واحتملتني، حينما أسأت إليك، لتركت طريق الرهبنة ورجعت للعالم. ولكن طوباك يا أبى، يا رجل الله. وإنى أشكر محبتك وعطفك، إذ أحيانى الرب على يديك.”

شفاء الممسوسين:

  1. فى أحد الأيام أحضر أحد الأشخاص بنته لآبا باخوميوس لكى يصل عليها فتشفى من أمراضها العديدة التى انتابتها بسبب أحد الأرواح الشريرة. فلما أعلم البواب آبا باخوميوس بذلك أرسل إلى الرجل قائلا: “أحضر لى قطعة من ملابسها لم ترتديها منذ غسيلها.” فأرسل له أبوها قطعة من ملابسها نظيفة تماما فلما رآها آبا باخوميوس أعادها إليه مع هذه الكلمات: “إن قطعة الملابس هى لها حقيقة، وأن ما أصابها كان بسبب أنها لم تحفظ فضيلة الطهارة، والآن دعها تنذر طهارتها من جديد للرب وأنا أثق أن الرب سيشفيها.” فلما سمع أبوها ذلك، اضطرب جدًا، وعندما سألها على انفراد، اعترفت بما اقترفته، ووعدت أن تحيا فى الطهارة طيلة أيام حياتها. عندئذ صلى آبا باخوميوس على قليل من الزيت وأرسله إليها فلما دهنت به بإيمان شفيت للحال باسم الرب.
  2. جاءإليه آخر لديه ابن به شيطان فسأله أن يصلي عليه. فدخل باخوميوس إلى الدير وأرسل الأخ الذي على الباب قائلا له: امضي وخذ خبزًا من خبز الأخوة وأعطه إلى ذلك الرجل ليعطيه إلى ابنه المريض وقل له: “أطعم ابنك من هذا الخبز وثق إن الله سيشفيه”. فأخد الرجل الخبز وقبله ثلاث مرات. فلما جاع ابنه أخذ قليلاً من ذلك الخبز وخلطه مع خبز آخر ووضعه أمام ابنه. ولما جلس الابن ليأكل أخذ الخبز العادي ولم يلمس خبز الرهبان. في وقت آخر، خلط الأب تمرًا وجبنًا وجعل عليهما شيء من ذلك الخبز. لكن الابن أخرج خبز الدير وألقاءه في حين أكل التمر والجبن فقط. فتركه الأب دون طعام لمدة يومين كاملين، حتى تضعف قوته. وبعد ذلك صنع له فطيرة صغيرة من ذلك الخبز ووضعه أمامه. فجلس الابن وأكل الفطيرة فاستراح الابن. فحمل الأب قليلٌ من الزيت لأبينا باخوميوس ليصلى عليه. وفي وقت نوم الابن مسحه الأب بالزيت المبارك فشفى الابن باسم الرب ومضى إلى بيته بسلام.
  3. ما أكثر المعجزات التى عملها الله على يد باخوميوس. ولكن مع ذلك عندما كان يصلى لطلب الشفاء، ولا يستجب الله فإنه ما كان يتألم قط، بل كان يصلى دائما ويقول: “يارب لتكن مشيئتك.
  4. جلس مرة، يتحدث إلى الأخوة، فقال لهم: “لا تظنوا أن الشفاء الحقيقي هو للجسد، بل للروح. فمثلا الإنسان الذى يعبد الأصنام، هو أعمى الفكر، ومتى عرف الله ورجع إليه يكون بذلك قد شفى واسترد نعمة البصر وخلصت نفسه. والإنسان الذى لا يتكلم الحق، هو أخرس، ومتى نطق لسانه بالصدق يكون بذلك قد شفى وانفكت عقدة لسانه. وكذلك من لا يسلك بحسب وصايا الرب هو ذو يد يابسة، ومتى صنع الخير، فذاك قد شفى وعادت يده صحيحة وأيضا متى كان هناك إنسان يسلك فى الزنا والنجاسة، وقادة آخر إلى حياة الطهارة، يكون بذلك قد أقام ميتا من قبر خطيته.”

اِماتات باخوميوس:

  1. حدث مرة ، أنه بعد أن قام باخوميوس بجمع الخضروات مع الاخوة ، أنه رجع وهو متعب جدًا، ورقد طريح الفراش، فأخذ تواضروس غطاءًا جيدًا من الصوف، وألقاه عليه، عندئذ انتهره الشيخ قائلًا: “خذ عنى هذه، وضع فوقى غطاءًا عاديًا مثل كل الاخوة حتى يمن الله علىَّ بالشفاء.” ففعل تواضروس كما أمره ثم بعد ذلك أعطاه تواضروس حفنة من البلح لكى يأكل، لأنه لم يكن قد أكل شيئًا من قبل، فرفض أن يأكل البلح، ووبخه فى حزن قائلًا: “يا تواضروس هل لأننا ندبر الأخوة، ونقودهم، يصير لنا الحق فى أن نعطى أنفسنا هذه الملذات؟ أين إذن خوف الله؟ وهل أنت افتقدت جميع الاخوة لتعرف ما يحتاجه المرضى منهم والمحتاجون؟ ألا تعرف مقدار الخطأ الذى ارتكبته، بتقديمك لى هذه الأشياء؟ أليس مكتوب: “وتخبر السموات بعدله لأن الله هو الديان. أى أن الله ينظر كل شئ ويحكم بعدل. وهكذا ظل آبا باخوميوس طريح الفراش مريضًا، لم يتناول شيئًا لمدة يومين، ولما كان قلبه يحثه على الصلاة، لفرط محبته لله، كان يقوم ويصلى، وفى ثالث يوم شفى تمامًا وقام معافى. فذهب وأكل مع الأخوة.
  2. ودفعة أخرى مرض آبا باخوميوس، لدرجة الموت. فنقلوه إلى حيث يقيم الأخوة المرضى، حتى يمكنه أن يأكل بعض الخضروات. وكان هناك أحد الأخوة، يرقد مريضًا، ولشدة مرضه كان جسده ضعيفًا حتى صار وكأنه هيكل عظمى. فطلب هذا الأخ من الأخوة القائمين على خدمة المرضى أن يعطوه لحمًا ليأكله. لكنهم رفضوا قائلين: “ليس لنا عادة أن نقدم هنا لحمًا قط.” عندئذ طلب إليهم أن يأخذوه إلى آبا باخوميوس، ففعلوا. فلما رأى آبا باخوميوس أن جسده ضعيف هكذا، تعجب جدًا، وقال للأخوة المسئولين عن المرضى: “أنتم يا من تهتمون بالمرضى، ألا تخشوا الله؟ ألم تسمعوا الوصية القائلة تحب قريبك مثل نفسك؟ ألا ترون أن هذا الأخ قد أصبح جثة هامدة؟ لماذا إذن لم تعطوه ما طلبه؟ الله يعلم أنه إن لم تنفذوا طلبه، فإنى لن آكل ولن أشرب شيئًا. ألم تقدروا أن تميزوا بين المريض وغير المريض؟ أليس مكتوبًا: كل شئ طاهر للطاهرين. ولما قال هذا، بكى آبا باخوميوس وقال: “لو أن الرب يسوع كان يعيش بيننا فى هذا الدير، لما رفض طلب هذا الأخ ولما تركه هكذا فى محنة المرض.”

فلما سمعوا هذه الكلمات من الشيخ، أسرعوا بتكليف أحد الأخوة ليشترى جديًا صغيرًا ويطبخه. وعندئذ قدموا منه لهذا الأخ، ثم قدموا لآبا باخوميوس بعضًا من الخضروات المطبوخة كبقية الأخوة، فأكل وشكر الله.

قد يعجبك ايضا
اترك رد