أنت محبوب (9): كيف تعطي ذاتك للآخرين
النص الكتابي: 2ملوك 4: 42-44
كيف نعطى ذواتنا للآخرين؟
في اللقاء السابق تعرضنا لتفسير اختيار يسوع لرمزية الخبز في عطاء ذاته للعالم. وأشرنا إلى أن هذا هو مفهوم العطاء الذي من خلال نحقق ذواتنا وإنسانيتنا. خُلقنا على صورة الله ومثاله ونشاركه هذاالبعد في العطاء الغير محدود للآخرين.
كيف يمكن عطاء ذواتنا في حياتنا اليومية المُعاشة؟ إن كان أعمق تحقُّق لذواتنا يتأتّى من كوننا معطيين للآخرين، فكيف نتعايش مع رؤيتنا اليومية لمجتمع يتحدث عن الأخذ أكثر من حديثه عن العطاء؟ أُريد أن اقترح اتجاهين: بذل الذات بالحياة وبذل الذات بالموت.
عطاء الحياة للآخرين
أولاً، الحياة في حدّ ذاتها هي أعظم عطية يُمكن تقديمها – وهذا أمر ننساه ونتجاهله باستمرار. عندما نُفكّر في مسألة عطاء ذاتنا للآخرين، ما يتوارد بخاطرنا على الفور هي مواهبنا الفريدة: تلك المقدرة على القيام بأمور خيّرة ذات طبيعة خاصة.
نتساءل دائمًا: “ما هي مواهبنا الفريدة ؟” مع ذلك، حين حديثنا عن المواهب أو الوزنات، نميل إلى نسيان وتجاهل أنّ عطائنا الحقيقي ليس هو ما نستطيع فعله بقدر ما هو من نكون. السؤال الحقيقي ليس “ما الذي نستطيع تقديمه لبعضنا البعض؟”، بل “ما الذي يمكننا أن نكونه لبعضنا البعض؟“
بلا شك، إنّه لأمر رائع أن نستطيع إصلاح مسألة ما مع قريب، تقديم نصائح نافِعة لصديق، وآراء حكيمة لزميل، شفاء لمريض أو توصيل خبر سار لزميل. لكن هناك عطية هي أعظم العطايا كلّها، ألا وهي عطية حياتنا، التي تسطع وتتلألأ في كل أمر نقوم بتأديته. مع تقدمي في العمر، أكتشف دائماً على نحوٍ متزايد أنّ أعظم عطية لديّ كي أقدمها هي فرحي بالحياة، سلامي الداخلي، صمتي ورجائي وصبري وطول آناتي، إحساسي الطيب بالحياة. عندما أتساءل: “من الشخص الأكثر مساعدة لي؟”، ينبغي أن أُجيب: “ذاك (أو تلك) الذي يكون مستعداً لأن يتقاسم معي حياته”.
من المفيد أن نفصِل ما بين المواهب (الوزنات) والعطايا. عطايانا أهمّ من مواهبنا. قد يكون لدينا القليل من المواهب، لكن لدينا الكثير من العطايا. عطايانا هي الوسائل الكثيرة التي نُعبِّرُ بها عن إنسانيتنا، إنّها جزء من كياننا، ومنها: الصداقة، الحب، الأمل، الثقة،.. وهلمّ جراً. هذه هي العطايا الحقيقية التي ينبغي أن نقدمها للآخرين.
إنّني مُدرك لذلك على نحو مؤكّد منذ زمن بعيد. لقد تعلمته بصفة خاصة بخبرة شخصية من قدرة الشفاء الهائلة الكامنة في هذه العطايا. اكتشفت هذه الحقيقة البسيطة: إن لدي القليل من الناس مواهب يمكن أن يَفتخر بها، القليل منهم قادر على تقديم مساهمة فعالة للمجتمع والكنيسة. لكن جميعهم لديهم العطايا التي يمكن أن تغير الحياة تمامًا متى وُجهت للآخرين.
عطية مثل الصداقة، فرغم نفاذ صبر الجميع وعدم تحملهم وانصرافهم عن الاهتمام بالأشخاص بسبب خلافات عديدة، تجد البعض لديهم عطية الأمانة في علاقة الصداقة بالرغم من كل شيء ويواصل تقديم مساعدته. البعض لديه عطية فريدة من نوعها في الترحيب بالناس إلى الدرجة التي يشعر فيها الآخرين بأنهم في منازلهم.
كلما ازدادت خبرات حياتي كلما أدركت أكثر أن الهبات الحقيقية التي فينا، غالباً ما تظل مدفونة تحت مواهبنا. الحالة الواضحة “لكوننا مكسورين” يبينها ذوي الاحتياجات الخاصة، بطريقة غامضة، أن يُقدموا هباتهم بكل حرية وبلا موانع.
بيقين أكثر بكثير من ذي قبل، أعلمُ الآن أنّنا مدعوون كي نُعطي حياتنا حقاً لبعضنا البعض، وأنّه إذ نفعل ذلك، نصبح جماعة محبة حقيقية.
يتبارك بك شعوب ا لأرض
عندما نستخدم عطايانا الكثيرة لصالح الآخرين فإننا نُعطي حياتنا لهم. هذا المبدأ يُلخص دعوة إبراهيم ومنطق اختيار الله له (وهو ذات المنطق في اختيارنا مُنذ البدء). قالَ الرَّبُّ لأَبْرام: اِنطَلِقْ مِن أَرضِكَ وعَشيرَتكَ وبَيتِ أَبيكَ، إِلى الأَرضِ الَّتي أُريكَ. وأنا أَجعَلُكَ أُمَّةً كَبيرة وأُبارِكُكَ وأُعظِّمُ اسمَكَ، وتَكُونُ بَركَة. وأُبارِكُ مُبارِكيكَ، وأَلعَنُ لاعِنيكَ وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض” (تكوين 12: 1- 3).
لا فضل لأبرام في اختياره، تم اختياره لسبب وحيد أن يُعطى حياته للآخرين، أن يكون بركة للآخرين، “وَيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض“. المهمة التي تُبرر اختيار شخص ما هي: أن يكون بركة للآخرين، أن يعطي حياته لهم، أن تكون حياته وجوده حضوره سبب فرح وثقة وأمل للآخرين.هكذا عبرت الجماعة المسيحية الأولى في أفسس من خلال نشيدها الخالد عن حضور المسيح في وسطها: “تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح فقد باركنا كلّ بركة روحيّة في السموات في المسيح” (أفسس 1: 3).
يختار الله شخص ما ويرسله وسط جماعة لكي يكون سبب بركة لهم، هكذا يوصى السبعين رسولا: “أَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ”. اِحملوا السلام والبركة للجميع. فالذي يختاره الله ويعلن له إنه “محبوبٌ” يكلفه بتلك المهمة أن يكون سبب سلامٍ وبركة للآخرين، يكون امتداد لحضور المسيح وسط شعبه.
هل أنت سبب بركة؟ ليس هناك مهمة للابن المحبوب، المُختار، والمُبارك، والمَكسور بهموم كثيرة وآلام عدة، إلا أن يكون سبب بركة للآخرين، ليس له عمل آخر. إذ ضاعت المهمة الأساسية وسط اهتمامات عديدة، فإنه يفقد هويته كابن محبوب ومختار ومبارك.
لنأخذ العبرة من سفر صموئيل الأول: فالله يختار شاول ويعده ليكون بركة للناس، سيكون سبب خلاص للشعب: “أُرسِلُ إليكَ رَجلاً مِنْ أرضِ بنيامّينَ، فاَمسَحْهُ رئيسًا على شعبي إِسرائيلَ، فيُخلِّصَ شعبي مِن أيدي الفلِسطيِّينَ”. ثم يتخلى الله عن شاول ويختار داود. والمدهش إن أخطاء داود أكثر من أخطاء شاول، وبالرغم من ذلك يتخلى الله عن شاول ويرذله، في حين يتسامح مع داود. لماذا؟ لأن شاول غلبه العناد والمكابرة ورفض إرادة الله باصرار ووعي كامل. طلب الله منه أن يُحطم العدو تمامًا: “فاَذهَبِ الآنَ واَضرِبْ بَني عماليقَ، وأهلِكْ جميعَ ما لهُم ولا تَعفُ عَنهُم، بلِ اَقتُلِ الرِّجالَ والنِّساءَ والأطفالَ والرُّضَّعَ والبقَرَ والغنَمَ والجمالَ والحمير” (1 صمو 15: 3). حاول شاول أن يُصحح ما رأه غريبًا في إرادة الله فعفى عن أجاج ملك العماليق، واحتفظ ببعض الغنم والبقر لنفسه.
في حين أن داود لم يدافع عن نفسه، بل يعترف: “خطِئتُ إلى الرّبِّ”، ” ذبيحتي لكَ يا اللهُ روحٌ مُنكَسِرةٌ، والقلبُ المُنكسِرُ المُنسَحِقُ لا تحتَقِرُهُ”. وحَمل فوق كتفيه نتائج وتوابع خطيئته، فيسجد أمام الله منسحقًا مدركًا عظيم خطيئته. يقبل داوود الألم الناتج عن خطيئته، مؤمنا بأن الله أب حنون، فكما اختاره وجعله ملكًا وأنقذه من يد شاول، سيقبله وسيغفر له خطأه.
هكذا نحن فالله لا ييأس منا أبدًا متى اتضاعنا أمامه واعترفنا بخطئنا بأننا لم نكن سبب بركة في جميع أوقات حياتنا. لكن إذا رفضنا إرادة الله تلك بإصرار ووعي كاملين.. عندها سنقع في مشكلة شاول. كوننا أولئك المختارين هو الأساس في كوننا الأبناء الأحباء. التمسُّك بهذه الحقيقة معركة تستمر مدى الحياة،
مدعويين للموت في سبيل الآخرين
ثانياً، إنّنا مدعوين لعطاء ذواتنا لا بالحياة فقط، بل بالموت أيضاً. بصفتنا أبناء الله الأحباء، نحن مدعوين لجعل موتنا أعظم هبة. حيث أنّه حقيقي كوننا مكسورين، مثلما هو حقيقي كوننا معطيين، إذاً ذروة أفعال “كوننا مكسورين”، أي الموت، ينبغي أن يُصبح وسيلة هبتنا الأخيرة لذواتنا. كيف يُمكن أن يكون ذلك حقيقياً؟ يبدو أنّ الموت هو أكبر عدو نتهرّب منه لأطول فترة ممكنة. الموت ليس أمراً نُحب التفكير فيه أو نُحب الحديث عنه. مع ذلك، أحد الأمور القليلة التي نعرفها بيقين كبير هي أنّنا سنموت. إنّني أندهِش دائماً عندما يعوقنا مجتمعنا عن الاستعداد للموت بطريقة لائقة.
الموت بالنسبة لأبناء وبنات الله الأحباء هو ممر العبور في الخبرة الكاملة عن كوننا الأبناء المحبوبين. أولئك الذين يعرفون كونهم مُختارين، ومباركين، ومكسورين ومَعطِيين، الموت بالنسبة لهم هو الوسيلة لأن يُصبحوا هبات نقيّة.
أظنُّ أنّنا نولي اهتماماً قليلاً جداً لواقع أنّ الموت قريب منّا. في مجتمعنا، الوقت بالكاد يسمح بتقديم واجب العزاء حين يتوفّى صديق أو أحد أفراد الأسرة. كل ما حولنا يُشجِّعنا على السير قُدُماُ “وكأن شيئاً لم يحدث”. لكن إن كنّا لا نتواصل تواصلاً مباشراً مع مسألة كوننا مائتين، في اللحظة التي سيتحتّم علينا فيها في النهاية أن نواجه موتنا، سنسعي لتجاهله أطول وقت ممكن وسنكون مرتبكين ومتوترين أيضاً، حيث يكون لا مفرّ ولا مهرب منه.
مع ذلك، لكوني ابن حبيب، فأنا مدعو للإيمان بأنّ الحياة إنّما هي استعداد للموت كفعل ختامي للعطاء. إنّنا لسنا مدعوين للعيش من أجل الآخرين فحسب، بل أيضاً للموت من أجل الآخرين. فكيف يكون هذا ممكناً؟
إنّ موت أولئك الذين نُحبّهم ويحبوننا، يُتيح لنا إمكانية تواصل وشركة جديدة أكثر عمقاً، حميمية جديدة، انتماءً جديداً لبعضنا البعض. إن كان الحب حقاً أقوى من الموت، حينئذ تكون للموت المقدرة على تعميق وتقوية روابط الحبّ. فقط بعد أن ترك يسوع تلاميذه، شعروا بأنّهم توصلوا إلى أن يفهموا حقاً ما أراد أن يقوله لهم. أليس هذا حقيقياً أيضاً بالنسبة لجميع الذين يموتون بالحُب؟
فقط عندما نموت، يُمكن لروحنا أن يكشف عن ذاته تماماً. الاحتياجات والإعاقات التي حبست نفوس البعض لم تعُد تعوقهم عن بذل ذواتهم أكثر من أجلنا. الآن يمكنهم أن يُرسلوا لنا أرواحهم ونحن يمكننا أن نعيش معهم في شركة جديدة.
لا شيء من هذا يحدث بدون استعداد. إنّني أعرف ذلك لأنّني رأيت أناساً يموتون بغضب ومرارة وعدم مقدرة بالغة على تقبل واقع كونهم مائتين. لذلك أصبح موتهم نبعاً للإحباط وأيضاً ذنباً يقع على عاتق الباقين. لم يُصبح موتهم عطية، فقد كان لديهم القليل ليتركوه. الروح أخمدته قوي الظُلمة.
نعم، لا شيء يُعادل الميتة الصالحة. إنّنا مسئولين مسئولية شخصية عن كيفية موتنا. يجب أن نختار ما بين تمسكنا بالحياة بحيث يُصبح الموت لا شيء سوى فشلاً ذريعاً، أو ندع الحياة تغادرنا فتُتاح لنا إمكانية أن نُعطي ذواتنا للآخرين كنبع للرجاء. هذا هو اختيار مفترق الطُرق وينبغي علينا أن “نعمل” من أجل هذا الخيار في كل يوم من أيام حياتنا. ينبغي ألا يكون الموت هو فشلنا الأخير، أو الهزيمة الأخيرة في صراع الحياة، أو مصيراً لا مفرّ منه. فبالعكس، إذا كانت رغبتنا الأكثر عمقاً هي بذل ذواتنا من أجل الآخرين، حينئذ نستطيع تحويل موتنا إلى هبة أخيرة. آه، يا لها من روعة عجيبة أن يرى المرء كيف يكون الموت خصيباً عندما يكون هبة معطاة بحرية!
انتقال البعض إلى حياة أخرى قد يكون أكثر دافعاً لطاقة روحية جديدة للآخرين المرتبطين به. يعطي الموت أحيانًا حياةً جديدة وأملاً جديداً لجميع الذين كانوا يبكون على فقدان الشخص.
إنّ موت الابن الحبيب يؤتي ثماراً في حيوات عديدة. أنت وأنا، ينبغي أن نُصدِّق أنّ حياتنا القصيرة الصغيرة، يُمكن أن تؤتي ثماراً تتجاوز حدود زماننا. لكن ينبغي أن نقوم بهذا الاختيار، وينبغي أن تكون لدينا ثقة عميقة في أنّه لدينا روح ينبغي إرساله سيحمل الفرح والسلام والحياة إلى الذين سيتذكروننا. فرنسيس الأسيزي توفي عام 1226، لكنه لا يزال حياً جداً ! وفاته كانت عطية حقيقية، واليوم بعد ما يزيد عن ثمانية قرون، ما زال مستمراً في توصيل هبات عظيمة وطاقات حياة إلى إخوته وأخواته، في داخل وخارج الرهبنة الفرنسيسكانية. مات، ولكنّه في الحقيقة، ليس بميتٍ على الإطلاق. حياته مستمرة في الإتيان بثمار جديدة في العالم كلّه، ومازال روحه مستمراً في الحلول علينا. إنّني مقتنع أكثر من أي وقت مضى بأنّ الموت يُمكن أن يكون خياراً حقيقياً كعطية أخيرة لحياتنا.
إذا ما كان المتاح لنا فترة قصيرة في الحياة. عشرون، ثلاثون، أربعون أو خمسون عاماً الباقية أمام كل واحد منّا، ستمرّ سريعاً جداً. يمكننا أن نتصرف وكأنّنا سنعيش أبداً ونندهش عندما نجد أنّ الأمر ليس كذلك، لكن يمكننا أيضاً أن نعيش الاستباق البهيج لكون أعظم رغبات عيش حياتنا لأجل الآخرين يُمكن أن تتحقق وفقاً لطريقة اختيارنا للموت. فإذا كان موتاً نبذل فيه حياتنا بمُطلق الحرية، سنكتشف نحن وجميع أولئك الذين نُحبّهم الكمّ الذين لدينا لنُعطيه.
إنّنا مُختارين، ومباركين، ومكسورين لكي نكون معطيين، وليس فقط في الحياة بل في الموت أيضاً. بصفتنا أبناء الله المحبوبين، نحن مدعوون أن نصير خبزاً لبعضنا البعض – خبزاً للعالم. هذه الرؤية تُعطي بعداً جديداً لقصة إكثار الخبز التي حدثت مع أليشاع. فقد قال أليشاع لخادمه الذي كان يحمل في جرابه عِشرينَ رَغيفًا مِنَ الشَّعيرِ وسُنبُلاً طَريئًا: «أَعطِ القَومَ لِيَأكُلوا». فاحتجّ الخادم: «ما هذا ؟ أَأَضَعُ هذا أمامَ مِئَةِ رَجُل؟». لكن اليشاع أصرّ: «أَعطِ القَومَ فيأكُلوا». عندئذ قام الخادم بتوزيعها فأكَل الناس وفَضَلَ عنهم (2ملو4: 42-44).
أليست هذا هو التاريخ الحقيقي للحياة الروحية؟ قد نكون مجرد خَدَم صغار حقيرين في عيون عالم تُحركه الكفاءة والهيمنة والنجاح، لكن حينما نتفهم أنّ الله اختارنا مدى الأبدية، وأرسلنا في العالم كمُباركين، وأسلمنا بجملتنا للمعاناة، ألا نستطيع حينئذ أن نُصدّق أيضاً بأنّ حيواتنا الوجيزة القليلة ستتكاثر وتصير كافية لسدّ حاجات عدد كبير من الناس؟ قد يبدو هذا تفاخراً أو أمراً مبالغاً فيه، لكن في الحقيقة، الثقة في الخصوبة الشخصية تنبع من الروح المتواضع. إنّه الروح المتواضع لمريم التي هتفت شاكرة لأجل الحياة الجديدة التي نمت في أحشاءها: “تبتهج روحي بالله، مُخلّصي – فقد نظر إلى تواضع آمته – وصنع بي أموراً عظيمة … منذ الآن تطوبني جميع الأجيال”. إنّ خصوبة حياتنا القصيرة، ما أن نعترف بها ونعيشها باعتبارها حياة ابن حبيب، تتجاوز حدود كل شيء يمكننا تخيله. إنّ أحد أفعال الإيمان الكبيرة هو تصديق أنّ السنوات القليلة التي نعيشها على هذه الأرض تشبه بذرة صغيرة منزرعة في أرض خصبة للغاية، ولكي تكون البذرة مثمرة ينبغي أن تموت أولاً. نحن غالباً ما ننظر أو نشعر فقط بالشكل الأخير للموت، إلاّ أن الحصاد سيكون وفيراً حتّى وإن لم نكن نحن الحصادين.
كم ستكون حياتنا مختلفة لو كنا قادرين حقاً على الاعتقاد بأنّها تتكاثر إذا ما أعطيناها! كم ستكون حياتنا مختلفة لو استطعنا فقط الاعتقاد بأنّ كل فعل أمانة صغير، كل لفتة حُبّ، كل كلمة صفح وتسامح، كل بقيّة صغيرة من الفرح والسلام ستتكاثر فتكفي لكم الأشخاص الذي سيحصلون عليها … وأنّها، حينذاك أيضاً، ستكون وافرة غزيرة !
تخيّل أنّ تكون مقتنعاً بعمق أنّ حُبّك ولباقتك مع الأصدقاء، وسخاءك تجاه الفقراء، هي حبّات خردل صغيرة ستصير أشجاراً باسقة قوية، يمكن لطيور كثيرة أن تبني أعشاشها على أغصانها ! تخيّل أن تكون معتقداً في أعماق قلبك أن ابتساماتك ومصافحاتك باليد، وعناقك وقُبلاتك، إنّما هي مجرد علامات مبدئية لأُلفة ومشاركة شاملة عالمية للحُبّ والسلام! تخيّل أنّه، بإيمانك، كل حركة محبة صغيرة تقوم بها، ستخلق دوائراً جديدة دائمة الاتساع – كما يحدث عند إلقاء حجر صغير في بِركَة مياه راكدة. تخيّل، تخيّل …. أيُمكن حينئذ أن تكون مكتئباً، غاضباً، تشعر بالإهانة أو بالانتقام؟ أيُمكن حينئذ أن تكره، تُدمِّر أو تقتل ؟ أيُمكن حينئذ أن يُصيبك اليأس بسبب معنى حياتك الوجيزة على الأرض؟
أنت وأنا سنرقص فرحاً لو كنّا مقتنعين حقاً بأنّنا، البشر الحقيرين، مُختارين، ومباركين ومكسورين لكي نصير خبزاً سيتكاثر بفعل العطاء. أنت وأنا لن نخشي الموت فيما بعد، بل سنعيش بتفكيرنا في أنّه ذروة رغبتنا في الفعل، ونشعر بجميع جوارحنا أنّه عطية لآخرين. واقع أنّنا بعيدين جداً عن حالة الذهن والقلب هذه، يُبيّن لنا أنّنا مُجرد مُبتدئين في الحياة الروحية ما زلنا غير متمسكين تماماً بالحقيقة الكاملة لدعوتنا. بيد أنّه يجدر بنا أن نكون ممتنين لأجل كل بصيص ضئيل من الحقيقة التي يمكننا إدراكها والوثوق فيها، حقيقة أنّ هناك دائماً المزيد لنراه .. المزيد دائماً.
في غضون بضع سنوات، سندُفن جيمعًا. والمنازل التي نعيش فيها ربما ستظل باقية، ولكن سيعيش فيها آخرين الذي ربما لن يعرفوا سوى القليل أو لا شيء عنّا. لكنّني أعتقد، وآمل أن تفعل ذلك أنت أيضاً، أنّ رحلتنا القصيرة، التي يسهُل نسيانها، في هذا العالم، سوف تستمر في إعطاء الحياة للناس في كل زمان ومكان. فروح المحبة، ما أن ينطلق من أجسادنا الفانية، سيهُبّ حيثما شاء حتّى وإن شعر بمروره القليل من الناس.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.