طوبى لصانعي السلام
طُوبَـى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ
تهيمن فكرة السلام على الكتاب المقدس بأكمله. هناك سلام في بدء الخليقة بين آدم والمخلوقات والكون ثم في نهاية الكتاب، وتحديدًا في سفر الرؤيا يوجد سلام في الأبدية. الفكرة الأساسية للكتاب كله هي السلام، هناك على الأقل أربعمائة شاهد يشير إلى السلام، فالله مهتم جدًا بالسلام، وهو يدعو نفسه “إلَه السَّلام”.
يتحدث يسوع في تطويبته السابعة عن السلام الذي يؤدي إلى السعادة الأبدية، ويدعونا دعوة خاصة جدًا بأن نعمل على أن يكون هناك سلام، ويخاطب أولئك الذين يسعون ليكونوا “صناع سلام”.
لكي تحقق دعوة الله لك بأن تكون صانع سلام عليك تفهم ثلاث حقائق مختصة بالسلام، سأطرحها في صورة أسئلة:
أولا: ما معنى السلام؟
لا يعنى السلام فقط هو إيقاف الحرب، أو الغياب الكامل للصراعات والمشكلات، أو غياب المشاجرات والخصام. هذا السلام غير موجود فالسلام كما يقصده يسوع ليس هو غياب شيء ما، بل هو وجود شيء ما. ليس غياب الصراعات، بل هو وجود فعل ايجابي وسط الصراعات، هو عمل صعب ومضني، شيء يقوم الإنسان بصنعه وايجاده. فإذا كان هناك صراع بينك وبين صديقك مثلا فليس الحل هو فصل علاقاتكم معًا، فينعم كل منكم بالسلام ، بل كيفية العمل لأجل صنع السلام بالرغم من الخلافات والمشكلات.
كلمة “شالوم” العبرية التي ترجمت على أنها “سلام” هي تعني أكثر “خير الله العميم لك”. هي قوة خلاقة للخير. هكذا يخاطب الملاك دانيال: «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمَحْبُوبُ. سَلاَمٌ لَكَ. تَشَدَّدْ. تَقَوَّ» (10 :19). إن أردنا أن نكون صانعي سلام، لا يجب علينا فقط أن نوقف الحرب، بل أن نحل محلها فعل يخلق الخير. فصانعو السلام ليسوا فقط الأشخاص الذين يدعون إلى عقد هُدنة، بل إلى مواقف إيجابية تُنسى فيه كل الأحقاد، يغفر فيه الناس لبعضهم لبعض. سلام لا يؤدى إلى غياب شيء (الحرب والصراعات والخصام) بل يؤدى إلى وجود شيء آخر مختلف، خير يعم الناس، موقف جديد عنوانه الغفران ونسيان الأحقاد وبدء صفحات من المحبة التي تؤلف القلوب. الهُدنة معناها أن يتوقف الأطراف المتحاربة وقتًا لإعادة تلقيم اسلحتهم والدخول في حرب باردة، لكنها حرب في جميع الأحوال. لكن السلام مختلف هو خلق حالة إيجابية لا تتجاهل الخلافات ولا تتجنب المشكلات، بل تخلق جسور تصل بين الطرفين.
بناء الجسور يتطلب أحيانا الألم والتوتر ولكنه يؤدى في النهاية إلى السلام. هكذا يقول الرب: “أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ [ماذا؟] سَيْفًا” (مَتَّى 10: 34). السبف معاكس تماما لروح التطوبيات ويظهر أن ما يقصده يسوع هو لا يمكن أن يحل السلام دون أن يحل النزاع أولا. حل النزاعات يكون بصعوبة شديدة ولكن عند فض النزاعات يحل سلامٌ حقيقي.
ثانيا: من أين يأتي السلام؟
في رسالة يعقوب 3: 17 يقول الرسول: “وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً” [ماذا؟] “طَاهِرَةٌ”، ثُمَّ [ماذا؟] مُسَالِمَةٌ”. لا يمكن أن تشعر بالسلام ولا أن تكون صانع من صناع السلام مالم تكون هناك خطوة أولى هي التطهير. أنت لا تصنع سلامًا بين شخصين إلا إذا ساعدتهما على رؤية الخطيئة، الخطأ، الإساءة، المرارة، الكراهية، إلا إذا ساعدتهما على أخذ قرار بعرض المشكلة على الله ومعالجتها. الطهارة هنا بمعنى القداسة، تطهير الذات من الخطيئة. يقول أشعيا النبي “لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ، لِلأَشْرَارِ” (أشعيا 48: 22).
الإنسان الشرير لا يعرف السلام أبدًا، ولن يكون يومًا صانع سلام بين الآخرين. نكمل قراءة رسالة يعقوب الذي يضيف: “وَثَمَرُ البِرِّ يُزْرَعُ فِي السَّلاَمِ مِنَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ السَّلاَم” (يعقوب 3: 18). السلام الحقيقي هو ثمرة البر، أي القداسة، ثمرة التغيير والولادة الجديدة. إن كان هناك خصام بين شخصين، فإن السبب في ذلك هو وجود الخطيئة فإذا أزلت الخطيئة انتهى الخصام. تستحق أن تكون صانع سلام متى قدت آخرين إلى البر وإلى القداسة، هذا هو سبب أن جميع الدبلوماسيين ورجال الدول والرؤساء والملوك لم ينجحوا يومًا في تحقيق السلام، لأن أساس السلام هو التوبة والولادة الجديدة. بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945 أُسست الأمم المتحدة لتعنى بالسلام العالمي وكان شعارها: “أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”. ومنذ ذلك الحين لم يحل السلام يومًا واحدًا على الأرض.
لكي تُصبح صانع سلام عليك إذن بتجديد قلبك القديم أولا. فالله هو صانع السلام ووحده مصدر السلام. بمعزل عنه لا يوجد أي سلام. يقول بولُس في رسالة رومية 15: 33: “إِلهُ السَّلاَمِ مَعَكُمْ أَجْمَعِينَ. آمِين”. وَهُوَ يَتحدَّث في رسالة تسالونيكي الثانية عنِ المسيحِ بوصفِهِ رَبَّ السَّلام. لذا يركز صانع السلام، في المقام الأول، على سلامه الشخصي مع الله، مع رئيس السلام الذي بدونه لا وجود للسلام. هذه هي نقطة البداية. متى كان الشخص يُنعم بالسلام مع الله فإمكانه أن يساعد الآخرين على أن يكونوا في سلام مع الله.
كان القديس فرنسيس يصلي دائما “اجعلني يارب أداة لسلامك.. فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة”. لم ينادي فرنسيس بالسلام ما لم يتطهر داخليًا أولا، ما لم يبدأ مسيرة توبة أولا. علاقة فرنسيس مع رئيس السلام هي التي اتاحت له فكرة لقاء السلطان الكامل والمناداة بالسلام بين البشر، كذلك اتاحت له المناداة بالسلام حتى مع الطبيعة ممثلة في الحوار الرائع مع ذئب جيبيو. ينادي فرنسيس: “الإنسان مدعو لحراسة وحماية كل ما خلقه الله”. لذلك، من الضروري “احترام كل إنسان” حتى “تتوقف النزاعات المسلحة التي دموية على الأرض، وتصمت الأسلحة وحيثما تفسح الكراهية الطريق للحب، والإساءة إلى المغفرة، والخلاف على الاتحاد”.
ثالثا: ما فائدة السلام؟
إن صانع السلام يركز، أولا، كما سبق الاشارة، على سلامه الشخصي مع الله. ليس المقصود بالسلام الداخلي أن تنعم بالهدوء. قد يظن البعض أن السلام هو الراحة والهدوء مع وضع علامة “عدم الازعاج”. مساحة الهدوء هذه مهمة، بلا شك، لأنها تسمح لنا بالراحة، لكنها ليست السلام الذي نحتاجه.
السلام الداخلي هو شعور شخصي بالانسجام والتوافق الداخلي والخارجي مع العالم، إنه غير محسوس ولكنه حقيقي للغاية لأنه يملأنا بهدوء عميق. إنها حالة نحرر فيها أنفسنا من همومنا الرئيسية ومخاوفنا وضغوطنا ومعاناتنا.
كيف يتحقق الانسجام الداخلي:
- يتحقق الانسجام الداخلي بتقبل الأفكار والمشاعر السلبية. فكل الأفكار والمشاعر السلبية هي طبيعية ولن تؤذي الإنسان أبدًا إلا إذا تشبث بها وركز عليها كل تفكيره وقبلها على أنها واقع وحقيقة.
- إذا أردت السلام الداخلي عليك أن تمارس الامتنان فلا تدع يومك يمر دون أن تشعر بالامتنان لشيء ما. هناك دائمًا شيء يجب أن تكون ممتنًا له، عليك فقط أن تتعلم تقدير الأشياء التي نأخذها كأمر مسلم به، مثل العيش أو وجود الأشخاص الذين يحبوننا والذين نحبهم إلى جانبنا. عندما نبدأ في الشعور بالامتنان لما لدينا، بدلاً من الشكوى مما ليس لدينا، نعيد اكتشاف توازن داخلي جديد. الامتنان هو أحد المفاتيح التي تفتح أبواب الصفاء والسعادة.
- إذا أردت السلام الداخلي عليك أيضًا بتجنب النقد الهدام. النقد السلبي هو أسوأ عدو للسلام الداخلي. النقد لا يضر فقط بالشخص الذي يتم انتقاده ولكن أيضا الشخص الذي يصدر الحكم والانتقاد. المشكلة هي أن النقد السلبي سوف يغرقك في حالة دائمة من عدم الرضا التي ستبعدك عن الصفاء الذي تنوي تحقيقه. هذا لا يعني أنه يجب عليك قبول كل شيء، ولكن عليك أن تتعلم التمييز بين النقد البناء وراء التغيير الإيجابي والنقد الهدام الذي تكون عواقبه سلبية دائمًا. يتعلق الأمر بتعلم عدم إصدار الأحكام وأن تكون أكثر تسامحًا ومرونة.
- إذا أردت السلام الداخلي عليك بالعطاء دون انتظار المقابل. يتوقع الكثير من الناس الحصول على شيء ما في المقابل، فهم يحولون العلاقات الشخصية إلى علاقات تجارية. عندما لا يحصلون على مكافأتهم، يغضبون. لذلك، إذا كنت ترغب في تحقيق السلام الداخلي، عليك التخلص من الأنانية وإعادة اكتشاف المتعة التي يمنحها فعل العطاء، لمجرد المساعدة أو القيام بعمل صالح. يجب أن يكون العطاء مجزيًا بدرجة كافية في حد ذاته. اشعر بالرضا عن نفسك لما فعلته.
- إذا أردت السلام الداخلي عليك تعلم أن تعيش في الحاضر. “إذا كنت تشعر بالاكتئاب، فأنت تعيش في الماضي، وإذا كنت تشعر بالقلق، فأنت تعيش في المستقبل. إذا كنت تشعر بالسلام، فأنت تعيش في الحاضر. نعيش في كرب لأننا نضع أنفسنا بين كوارث الماضي وهموم المستقبل. تعلم أن تكون حاضرًا بالكامل فيما يسميه البوذيون “اللحظة الأبدية” سيسمح لك بالعثور على السلام فيما هو موجود.
لذلك، السلام الداخلي ليس شيئًا يتم العثور عليه بالصدفة، إنه قرار شخصي، اختيار، إنه شيء يتم بناؤه بوعي من خلال ممارسة السلوكيات والأفكار التي تجعلنا هادئين.
يحقق السلام للشخص الانسجام الخارجي مع العالم. وهذا واضح في حياة القديس فرنسيس الذي كان في سلام مع الطبيعة والناس والكنيسة وكل فئات المجتمع. يرى كل شيء كمعجزة ويشعر بالتناغم مع الكون كله. نعود إلى عرفات في جلساته مع الأطفال كان يكرر على مسامعهم أنهم هم أفضل مخلوقات الله، إن كل واحد فيهم يمثل معجزة صغيرة بذاته.