إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

طريق المكرس لتحقيق الذات

0 1٬434

ندوة الناذرين الجدد- المعادي- أكتوبر 2023

المقصود بتحقيق الذات هو تفعيل كامل لقدرات الإنسان والتعبير عنها في المجتمع والقيام بأدواره ومسؤولياته وواجباته في الحياة. عدها آبراهام ماسلو أعلى الاحتياجات الإنسانية التي تبدأ بالاحتياجات الأساسية مثل الأكل والشرب، ثم ينتقل إلى البحث عن الأمن والحماية، ثم يبحث عن الحب والانتماء. وعند تحقيق هذه الأمور يبدأ الإنسان في احترام ذاته والنظر إلى نفسه بإيجابية فيشعر بالتقدير. تحقيق الإنسان لهذه الاحتياجات يصل به إلى ما يُسمى تحقيق الذات وهي ناتجة عن تحقيق الاستفادة القصوى من امكانياته وطاقاته الإبداعية بصورة سليمة.

ليستطيع الفرد الوصول إلى تحقيق الذات قام ماسلو باقتراح عدة خطوات أو طرق وفيما يلي نذكر بعضاً منها:

  • معرفة النفس: على الفرد المحقق لذاته محاولة معرفة نفسه والابتعاد عن الأفراد الذين يفرضون الآراء ويفسرون ما الذي يشعر أو يفكر به، وذلك لأنّ الفرد المحقق لذاته هو الذي يعرف نفسه أكثر من الاخرين.
  • عدم التصنّع: على الفرد الذي بيحث عن تحقيق الذات أن يتصرف بطبيعة دون أي تصنّع ويبتعد عن الخجل والخوف من تجربة الأمور الجديدة؛ أي يحاول تحرير نفسه من أي شيء قد يحدّه ويجعله يتصرف بشكل يختلف عن طبيعته.
  • تحديد الأهداف: يتم ذلك من خلال تحقيق الفرد لأهدافه الصغيرة والعمل على إنجازها تتحقق أهدافه الكبيرة وبالتالي وصوله إلى تحقيق الذات.
  • التعلم من الخبرات: إنّ تعلم الفرد من المواقف والخبرات التي يمر بها سواء كانت هذه الخبرات سلبية أم إيجابية يساهم بحد كبير في وصول الفرد إلى تحقيق ذاته وإمكاناته.

تلك الخطوات التي اقترحها إبراهام ماسلو تتعلق بالإنسان بصفة عامة، لذا يمكن الاستعانة بها أيضًا في مجال المكرسين. وبالرغم من تحقيق ذات المكرس لا تتعلق بتفعيل كامل قدراته والتعبير عنها، بل على العكس إن يتطلب اتباع المسيح “نكران الذات” وليس تحقيق الذات. لكن من الغريب أن تحقيق الذات يتحقق على المستوى الأكمل عند “نكران الذات”!

أولا: معرفة النفس

يذكر مرقس الرسول في الإصحاح الثامن تعليم المسيح عن النفس ونكرانها بقوله: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ وماذا يُعطي الإِنسانُ بدلاً لِنَفسِه؟ (مر 8: 34- 37).

  • فما هي النفس؟

ببساطة هي كيان الإنسان الداخلي (الوعي): كل شيء مرتبط بالمشاعر والرغبات والأفكار والمعتقدات والإرادة الحرة. يفقد الإنسان الوعي مثلا في العمليات الجراحية، فهو لا يشعر ولا يرغب ولا يفكر، وليس لديه معتقدات يؤمن بها أو حتى إرادة حرة. متى عاد إليه الوعى عادت إليه كل هذه القدرات.

“النفس” هي التي تجعل الإنسان إنسانًا. بدون النفس لا يكون الإنسان إنسانًا، يصبح مثل الحيوان، فالاختلاف الجيني بين الإنسان والشمبانزي مثلا لا يتعدى 1% فقط، لأن الخالق واحد، لكن الحيوان لديه نفس تختلف عن نفس الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله.

بالطبع هناك فرق بين النفس والروح. فالروح هي قدرة الإنسان على التواصل مع الخالق وهي في ذاتها خالدة.

  • ماذا يعني معرفة نفسك والاهتمام بها؟

هي أن تكون شخص قوي متحكم في رغباتك ومشاعرك وأفكارك. إن هلاك النفس المقصود في نص مرقس هو أن تفقد أو تقلل من تلك الامكانيات العظيمة المخلوقة على صورة الله من حيث الفكر والرغبات والمعتقدات والإرادة الصالحة. هلاك النفس تعنى أن نفسك لا تنمو، لا تأخذ شكلها النهائي الذي يميزها عن غيرها. لا تحقق وظيفتها التي قسمها الله في هذه الحياة.

عند خلق الإنسان يقول الكتاب في العدد26 من الأصحاح الأول من سفر التكوين:  “وَقَالَ اللهُ: “نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ”. صنع الله الإنسان على صورته ومثاله (كشبهه). لكن عند تنفيذ مخطط الله في الآيه 27 نكتشف أمر في غاية الأهمية إنه خلق الإنسان على صورته، وترك له مسئولية أن يصبح شبهه: “فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ”. ينتهي اليوم السادس في الخلق والإنسان مخلوق فعليًا على صورة الله، ولديه الامكانية في أن يصير شبيهًا بالله متى أراد. إذا توقفنا عند اليوم السادس لا يمكن للإنسان أن يحقق ذاته أبدًا، فهو مدعو ليكون شبيهًا بالله وتحقيق ذاته يتم فقط متى كان شبيهًا بالله.

  • كيف تكون شبيهًا بالله؟

أحقق ذاتي كإنسان بصورة عامة ومكرس بصورة خاصة عندما أعي إن الخالق خلقني بصورة مميزة تمامًا عن كافة المخلوقات. خلقني على صورته ودعاني أن أكون شبيهًا به، على مثاله. هنا نفهم قول بولس الرسول الشهير في رسالته إلى أهل فيلبي:

“فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع. هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة  بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب” (فيلبي 2: 5- 8).

لا يمكني أن أحقق ذاتي، أي أكون شبيهًا بالله، إلا في حالة وحيدة فقط. هي ان أصنع مثلمًا صنع كلمة الله المتجسد، يسوع المسيح. إن تحقيق الذات يتطلب أن أحب، على مثال الله، الذي بذل ذاته على الصليب. لا تحقيق للذات دون الصليب. لقد كشفت آلام المسيح وموته على الصليب كيان الله، بوصفه حبًا غير محدود: “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه” (يو 15: 13). فتجرّد المسيح من ذاته، أو إفراغ الذات من الذات، هو لتجلّي الكامل لهذا الإله الذي هو، في جوهره، حبّ وعطاء.

على عكس ما يقوله علماء النفس فإن منهج الله مختلف: من أراد أن يحقق ذاته في الحياة، يحقق بصورة كاملة ما خُلق عليه. يسعى ليكون شبيهًا بالله في محبته، لذا كان تعليم المسيح لتلاميذه بضرورة نكران الذات، هنا يربح الإنسان نفسه: “مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا”. نكران النفس هنا يعني أن أحب إلى أقصى الحدود على مثال الله الذي يدعوني كل يوم أن أكون شبيهًا به، وهذه هي دعوتي الأساسية في الحياة. لقد أحب المسيح خاصته الذين في العالم وبلغ به الحب لهم إلى أقصى حدوده فظهر ذلك بصورة ملموسة على الصليب وفي تقدمه ذاته وأيضًا في تواضعه الشديد في تقدمة ذاته تحت شكل الخبز البسيط.

تحقيق ذاتي يعني أن لا أكون لنفسي وأحقق رغباتي، بل أتخلي عن كل شيء لأجل أن أعمل مشيئة الله في حياتي.  أحقق ما خُلقت من أجله، أن أعمل مع الله وله ولأجله فأحقق بذلك القصد من وجودي.

عندما يقرر المكرس إتباع المسيح في حياةٍ رهبانية فإن هذا يعني أنه يفرغ ذاته من الأنانية ليمتلء بالمحبة، على مثال يسوع المسيح الذي أظهر ذلك على الصليب. لا يحقق الإنسان نفسه إن بقي منغلقًا على ذاته، ومؤكدًا ذاته، بل يجد الإنسان نفسه فقط إن خرج من ذاته. تحقيق الذات للمكرس ليس أمرً سلبيًا، بل تكريس الحياة لخدمة الآخرين على غرار المسيح الذي صرح في صلاته الكهنوتية: “وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي”. يتمحور فكر العالم المعاصر اليوم حول “الكائن – لأجل- ذاته” (جان بول سارتر) لكن الحياة المكرسة تتمركز حول “الكائن- لأجل الآخرين”.

ثانيًا: عدم التصنّع

وضع آبراهام ماسلو هذا المبدأ على رأس أولويات تحقيق الذات من الناحية النفسية. يعنى عدم التصنّع هو يعيش الإنسان حياة حقيقة غير مزيفة. الذات المزيفة هو مصطلح صاغة عالم النفس البريطاني دونالد وينيكوت ويقصد به القناع الاجتماعي الذي يرتديه الإنسان لأنه يخاف أو يخجل من بعض الجوانب الموجودة بشخصيته ويود أن يخفيها، كذلك يريد أن يبرز جوانب أخرى هي غير موجودة ويرغب في أن يصبح عليها فيقوم بتمثيلها أمام الناس.

إذا كانت علاقتنا الوالدية علاقة مُشبعة عاطفيًا، ينشأ كل منّا بصورة طبيعية وتظهر ذاته الحقيقية وتزدهر وتنمو متى تلقى الإنسان حبًا وقبولاً غير مشروطين من خلال احتضان جيد وتقدير جيد من الوالدين. إذا لم يحصل الاحتواء يكوّن الإنسان الذات الدفاعية أو الذات المزيفة، وهي عبارة عن مجموعة من ميكانيزمات الدفاع النفسية غير الناضجة وغير الواعية مثل الإنكار والكبت والتبرير فيغرق في حياة كاذبة وغير حقيقية تساعده على التعايش مع بيئة فقيرة بالمحبة والقبول. يهرب من الحقيقة لأنه يخاف أن يظهر على حقيقته، يخاف أن يظهر ضعفه واحتياجه.

الصدق هو حل هذه المشكلة المعقدة، بمعنى أن يحاول الإنسان في أن يكون صادقًا، بقدر المستطاع، فتكون كلماته وأفعاله متوافقة مع كيانه الداخلي. حتى يتعرف على نفسه إذا كانت مزيفة أم حقيقية عليه أن يسأل نفسه:-

هل أقول أشياء وأنا أعلم تمامًا أني كاذب وما أقوله غير حقيقي؟

هل أفغل أشياء وأنا أعلم أنه لا يجب ولا يصح أن يفعلها؟

  • فَحص الحياة

للفيلسوف سقراط مقولة شهيرة: الحياة التي لا تفحص لا تستحق أن تعاش. الحياة التي لا يفحصها صاحبها هي غير جديرة بأن تعاش. الحياة التي لا تفحص باستمرار هي حياة زائفة، هزيلة ورخيصة ولا تسحق أن تعاش. كان سقراط ينظر إلى الخبرة الإنسانية الكاملة على إنها شيء عظيم. تعيش في الحياة إنسان وتموت كإنسان. هل كل البشر الذين يعيشوا ويموت ولا يعيشون إنسانيتهم، ما أقل الذين دخلوا الحياة وخرجوا منها واختبروا معنى أن يكون الشخص إنسان. فهم سقراط إن الإنسان كائن عظيم.

الذي يجعلني إنسان هو أن أفحص حياتي بصورة مستمرة، أراجع قراراتي، أُحلل مشاعري لأعرف لماذا غضبت، لماذا أخطأت. أنا كائن أخلاقي، بدون أن أراجع نفسي، بدون أن أناقش قراراتي، بدون أن أفحص ما أتخذته في حياتي من قرارات أنا لا أستحق أن أدعى إنسان. كريستان سميث، عالم الاجتماع المعروف،  وضع 30 صفحة تفرق بين الإنسان والحيوان: أول هذه الصفات: أن يعى نفسه، الحيوان يعي غيره، لكنه لا يفحص حياته. ثاني هذه الصفات: يستطيع أن يرتد على نفسه لكي يفحص نفسه.

لقد سأل المسيح 240 سؤال في تجواله بين الناس، وكل تعليم قدمه كان مبنى على أسئلة، لكي يجعل الناس تفكر في إنها تسلك سلوك صحيح في الحياة.

مثال: إذا ما رأينا أحد الأصدقاء أو أفراد الجماعة الرهبانية ينجح في رسالته وحياته، أو محبوب بصورة لافتة من الآخرين، ووجدت نفسي أشعر بعدم ارتياح أو شعور بالحسد، عليَّ التوقف عند تلك المشاعر والتفكير لماذا أنا غير سعيد لأن أحوال الصديق أو الأخ جيدة؟ على ما يدل ذلك؟

أنه الاستعداد لرؤية المشاعر المتعبة والاستعداد بعدها للغوص في هذه المشاعر وفهمها. أن بذل الجهد المعنوي للأفصاح عن تلك المشاعر ضروري للغاية. إذا تنبهنا إلى مشاعرنا السلبية وقبلنا حقيقة أننا قد نكون على خطأ وبدأنا بالاستماع للشخص الآخر ليخبرنا أين أخطأنا، عندها قد لا نكرر الخطأ نفسه للأبد. إذا جزء من الحل هو أن نضع مخاوفنا في المكان المناسب. يجب علينا أن نخاف من تكرار أخطائنا أكثر من خوفنا من مواجهة نتائج تلك الأخطاء في الوقت الحاضر. هذه هي الحكمة، التي تدفعنا لعلاج المشكلة من الجذور.

الجميع يملكون القدرة على التوقف عن قول ما يعرفون أنه ليس الحقيقة وهذه بداية جيدة. لكن يجب أن نكون لدينا الرغبة في تصحيح الأمور. يجب علينا أن نوجه ذواتنا نحو التقدم الداخلي، كأن يكون موقفنا من الحياة هو السعي للأفضل، وأننا نريد أن نُحسن حياتنا، ومن ثم نأخذ على عاتقنا قرار عدم التورط في الخداع عالمين أن استخدام الخداع يجعل الأمور اسوأ.

  • كن أمينًا

التكريس يعني أن تكون صادقًا وأمينًا في ما عهدت الله عليه بأن تعيش فقيرًا وعفيفًا ومطيعًا ومنتميًا لجماعة رهبانية بهدف أن تكون شبيهًا بيسوع المسيح الذي دعاك لهذه الحياة. لقد اختارتك العناية الإلهية لأجل هذا الهدف أن تكون شبيهًا. هكذا وصف بولس دعوته: “الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ” (غلا 1: 15- 16).

تحقيق الذات يتطلب عدم التصنّع بأن تعيش حياة حقيقة غير مزيفة. أن تكون صادق وأمين في حياتك الشخصية بصورة عامة، وتكون أمينًا وصادقًا في نذورك الرهبانية ووعدك لله أمام المذبح بأن تعيش فقيرًا ومطيعًا وبتولاً لأجل التمثل بشخص يسوع ونمط حياته الذي أختاره على الأرض.

متى عاش الإنسان نذوره الرهبانية بأمانة فهو يواصل في حياته تجسد ابن الله واستمرار نمط حياته الفريد في حياة الكنيسة. عيش النذور الرهبانية دون أمانة تخلق مكرسًا يعيش حياة مزيفة.. ليس المقصود بأن يكون مبذرًا للأموال، أو غير مطيع لرؤساه، أو غير طاهر القلب والجسد، أو سببًا لمشكلات كبيرة في علاقاته بأخوته داخل الجماعة الرهبانية فقط.. أن يكون أمينًا تعني أن تكون حياته محزومةٌ في رباط واحد مع الرب إلهه. أن يحيا ويفكر ويعمل دائمًا  لاجل الرب إلهه. هذا ما قالته أبِيجايل لداوود عندما أرد قتل نابال زوجها: “.. فإِنَّ الرَّبَّ سيُقيمُ لِسَيِّدي بَيتًا ثابِتًا، لأَنَّ سَيِّدي حارَبَ حُروبَ الرَّبّ، ولم يوجَدْ فيكَ سوءٌ كُلَّ أَيَّامِكَ. وإِذا قامَ رَجُلٌ لِيُطارِدَكَ ويَطلُبَ نَفْسَكَ، كانَت نَفْسُ سَيِّدي مَحْزومة فِي حُزْمَةِ الْحَيَاةِ مَعَ الرَّبِّ إِلَهِكَ. وأَمَّا أَنفُسُ أَعْدائِكَ، فيَقذِفُ بِها في كِفَّةِ المِقْلاع” (1 صموئيل 25: 28ب- 29). ذكرته إن نفس حياته محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهه فلا يصح أن يجلس العرش ويتذكر إنه حارب يوما لهدف شخصي.  

التكريس أن تكون حياتك محزومةٌ في حُزمَة الحياة مع الرب إلهك، وتتصرف على هذا الأساس يوميًا. تسعى أن تكون صادق وأمين، معترف بالاخطاء والمشاعر السلبية وأن تسعى دوما للنمو الداخلي والعيش بأمانة. “فلْيَعُدَّنا النَّاسُ خَدَماً لِلمسيح ووُكَلاءَ أَسرارِ الله، وما يُطلَبُ آخِرَ الأَمرِ مِنَ الوُكَلاءِ أَن يَكونَ كُلٌّ مِنهُم أَمينًا” (1 كورنثوس 4: 1- 2). الله أمينٌ: “وإذا كُنا خائِنينَ بَقِيَ هوَ أمينًا لأنَّهُ لا يُمكنُ أنْ يُنكِرَ نَفسَهُ” (2 تيموثاوس 2: 13). المشكلة هي في قلب الإنسان المتقلب والغير ثابت. وعلى هذا يتم تقييم مكرسيه: “وأما عبدي موسى… هو أمين في كل بيتي” (عدد 7:12).

عيش النذور الرهبانية دون أمانة تخلق مكرسًا يعيش حياة مزيفة.. ليس المقصود بأن لا يكون مبذرًا للأموال، أو غير مطيع لرؤساه، أو غير طاهر القلب والجسد فقط.. أن يكون أمينًا تعني أن تكون حياته محزومةٌ في رباط واحد مع الرب إلهه. أن يحيا ويفكر ويعمل دائمًا  لاجل الرب إلهه.

ثالثًا: تحديد الأهداف

يقول آبراهم ماسلو إن على الإنسان أن يهتم بتحقيق أهداف صغيرة يومًا بعد يوم حتى يتمكن من خلال انجازها في الوصول إلى أهدافه الكبيرة وبالتالي وصوله إلى تحقيق الذات. فعند معرفة إن كل منّا مخلوق على صورة الله وكشبهه وإن المصدر الذي خرجنا منه هو محبة فإن كل عمل محبة صغير لكنه صادق وحقيقي يُصنع كل يوم وفي أي لحظة من لحظات الحياة ستصل بك في النهاية إلى تحقيق ذاتك بالصورة التي عاشها المسيح وهي عطاء ذاته، فداء عن الآخرين، على الصليب.

نحن لسنا ذاتيين الوجود، فالحياة مستمدة من الله: “بِه كانَ كُلُّ شيءٍ، وبِغَيرِهِ ما كانَ شيءٌ مِمّا كانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ” (يوحنا 1: 3-4). الإنسان حي بمقدار اتصاله وعلاقته بمصدر الحياة. حياة الإنسان تماثل أي جهاز كهربائي، هو يعمل بطاقته وبكفاءته، متى كان متصلاً بمصدر التيار الكهربائي، لكنه يتوقف متى انفصل عن مصدر التيار. وعندما ينفصل الإنسان عن مصدر الحياة، يبقى على قيد الحياة، لكنه غير حي.

كيف تعيش الحياة؟

يسأل عالم الشريعة يوما المسيح عن ماذا يعمل ليرث الحياة الأبدية؟ فذكره المسيح بما هو مكتوب في الناموس: «مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» فَأَجَابَ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». فَقَالَ لَهُ: «بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هَذَا فَتَحْيَا»” (لوقا 10: 25- 28). الحياة الحقيقية، في نظر يسوع، أمرٌ مختلف تمامًا عما نفهمه نحن البشر. هي ليس البقاء على قيد الحياة، والتمتع بصحة جيدة ووضع اجتماعي مميز. الحياة الحقيقية ليست في تحقيق الطموحات “المشروعة” في النمو والإزدهار والغنى والمكانة الاجتماعية المرموقة، الحياة الحقيقية هي أن تكون قادر على الحب. الإنسان الغير قادر على الحب هو إنسان ميت: “وَاكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي سَارْدِسَ: «.. أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ، أَنَّ لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيِّتٌ” (رؤيا 3: 1).

يقول يسوع لمعلم الشريعة: “اِفْعَلْ هَذَا فَتَحْيَا”.. الحب ليس ليس مشاعر وأحاسيس وعواطف جياشة تتنمى فيها الخير والسعادة للأخرين. الحب الحقيقي هو نشاط وأفعال تجاه الآخرين وليس شعورًا سلبيًا. الحب هو عطاء لله وللأخر.

كما إن العطاء ليس هو التخلي عن شيء ما للآخر، مادي أو معنوي. العطاء هو “مشاركة” الآخر في الجزء الحي من حياتك، في نفسك. أن تُعطي الآخر حبًا أي أن تعطيه من فرحك، من شغفك، من فهمك، من علمك، من مرحك، من حزنك، من كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيك. عطائك من حياتك يجعل الآخر غنيًا، يمنحه الشعور بالحياة وروعتها. ويولد في الآخر الرغبة في العطاء. الحب قوة تنتج الحب. قوة حياة تنتج حياة. تكون أنت حي وقادر على إعطاء الحياة.

تحقيق ذاتك كمكرس يمر عبر تصرفات وأفعال بسيطة يومية يمكن أن تصل بك يومًا أن تكون شبيهًا بالمسيح. الله يريد أن يرى ويلمس في هذا العالم من خلال كائنات حية ملموسة تشعر ووتصرف تسكب نفسها للآخرين، وليس من خلال عقائد وتعاليم: “مَنْ قَالَ إِنَّهُ ثَابِتٌ فِيهِ، يَنْبَغِي أَنَّهُ كَمَا سَلَكَ ذَاكَ هَكَذَا يَسْلُكُ هُوَ أَيْضاً” (ا يوحنا 2: 6). كما يقول هنرى نومين: “كما كسر الله يسوع وأعطاه للعالم، هكذا هي رسالة المؤمنين اليوم أن يكونوا خبز للآخرين، نكسر ونقدم للعالم لكي يعرف العالم الله من خلال المؤمنين”. الله لا يعرف من الميديا ولكن من خلال حياة المؤمنين الذين يصبحون أيقونات تحمل حضور الله وسط العالم.

رابعًا: التعلم من الخبرات

حياة كل منّا هي سلسلة من الخبرات التي مررنا بها في مسيرة الحياة. هناك خبرات حصلنا منها على دروس كبيرة وأخرى على دروس صغيرة، لكن المهم هو الاستفادة من تلك الخبرات. طريقة تفكيرنا في خبراتنا ومحاولة ربطها بمواقف الحاضر والمستقبل هي التي تمنحنا الاستفادة منها.

إن كل تجربة يتعرض لها المُكرس في حياته تشكل فرصة رائعة يظهر فيها إمكانية اختيار جديد وتعبير عن مدى استعداده لتخطي كافة الصعاب في سبيل اتمام تكريسه الكامل لله الذي يُبني يومًا بعد يوم. حياة الإنسان كالشجرة التي لا بد لها أن تمر بمختلف الفصول حتى تعطي ثمرها في النهاية.

من الضروري تعلم فن المرونة فهي التي تساعد عل التماسك عندما تواجه إخفاقًا أو تحديًا في حياتك المكرسة. إذا كنت تفتقر إلى المرونة، فقد تغرق في التفكير في المشكلات، أو تشعر بأنك ضحية الظروف السيئة، أو تشعر بالارتباك، أو تلجأ إلى آليات التأقلم غير الصحية  تدفعك إلى الشعور بعدم الرضى عن الحياة ونقصان الشغف بإتباع شخص يسوع المسيح.

اتخاذ إجراءات استباقية. لا تتجاهل مشكلاتك، بل فكِّر فيما يجب القيام به، وضَع خطة ثم اتخذ الإجراءات اللازمة حتى لا تتكرر المشكلات التي عانيت منها، وهذه الفائدة الأكبر من التعلم من الخبرات السابقة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد