إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الخلاص الجماعي

0 949

تُعد فكرة الخلاص الجماعي للجماعة الرهبانية هو الفكر اللاهوتي الجديد الذي قدمه الباخوميين. فمن أراد أن يصير باخوميا عليه أن ينفصل عن العالم، متخليا عن الممتلكات المادية وعن أسرته بالجسد، ويصبو إلى الخلاص الجماعي لكل أفراد الشركة. فالمحبة التي أرادها باخوميوس أن تجمع رهبانه لم تكن قاصرة على الانفتاح على الأخرين وخدمتهم، طمعا في الوصول إلى الكمال المسيحي الشخصي، أو نجاة نفسه من الهلاك الأبدي، ولكنها محبة عملية تقود إلى البحث عن خلاص الجميع. قدم باخوميوس خلاصة فكرته اللاهوتية في تعاليمه التي أوردته سيرته، خاصة المخطوط البحيري: “الراهب الذي يسلك بكل طهارة وطاعة واتضاع وخضوع، ولا يعثر أحد من الإخوة بكلمة يقولها أو فعل يأتيه، فإنه لا شك سيصير غنيًا في المُلك الإلهي الذي لا يفنى ولا يضمحل. أما الراهب المتواني الذي يتسبب في عثرة الآخرين، فالويل له لأنه سيخسر نفسه، وضيقات كثيرة ستحل عليه، علاوة على أنه سيحاسب أيضًا عن النفوس التي تسبب في عثرتها وسقوطها” .

فمن أراد أن يُقاسم أباء الشركة حياتهم عليه أن لا يسعى إلى التقدم في الفضائل المسيحية كما كان يفعل النساك المتوحدون، بل عليه أن ينتبه أيضا إلى النمو الروحي لأخوته. هكذا يعلم أورزيسوس تلاميذه: “هناك بعض من الناس يظنون أنهم يحيون حسب ناموس الله ويقولون لذاواتهم ما يصنعه الآخرين لا يهمنا. إننا نريد أن نخدم الله فقط ونكمل وصاياه وأن ما يصنعه الآخرين، من أهمال وخطيئة، لا يهمنا. فإن هؤلاء يحثهم حزقيال النبى قائلا: «ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم. إلاَّ يرعى الرعاة الغنم». (…) بعد أن نقدم حسابًا عن حياتنا نقدم حسابًا عن أولئك المسئولين منا. وليس هذا بخصوص رؤساء المنازل فقط بل أيضًا رؤساء الأديرة وكل أخ آخر في موقع المسئولية لأن وصية الكتاب هي هذه: احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تتموا ناموس المسيح. (…) إن الله أعطانا وديعة خلاص أنفس الإخوة ولذلك علينا أن نجاهد معهم لكي نحصل على المكافأة في الأبدية” .

درس A.-J. Goehring بصورة وافية فكرة الباخوميين عن الخلاص الجماعي لأعضاء الجماعة وتوصل إلى أن نص المخطوط البحيري، وهو الأقدم تاريخيا، يعكس فكر باخوميوس اللاهوتي عن الخلاص الجماعي، في حين تُظهر المخطوطات اليونانيةـ الأكثر حداثة، تحويرًا في هذا الفكر. ففي كتابات الأسقف أمون، الذي قضي وقتا داخل الأديرة الباخومية في وقت رئاسة تادرس، كتب رؤيته عن الشركة الباخومية جاعلا أياه حركة رهبانية داخل رحم الكنيسة المدافعة عن الإيمان القويم ضد الهراطقة. في هذه الرسالة نجد غياب فكر باخوميوس الخاص بالخلاص الجماعي، وتركيزًا على الفضائل الفردية. ساوى أمون بين الباخوميين والنساك المتوحدين في السعى نحو القداسة الشخصية. لكن عند ذكره لرؤية القديس باخوميوس لجهنم، وبالرغم من سعيه الظاهر إلى إظهار باخوميوس كمدافع عن الإيمان القويم للكنيسة ضد الهراطقة، تعرض في متن روايته لخلاصة فكر باخوميوس الحقيقي بقوله: “وفيما كنت أصلي حدث أني اختطفت ورأيت كل ما هو تحت السماء وكأنه ليل وسمعت صوتًا من كل إتجاه يقول هنا الحق ورأيت كثيرين يجرون في كل اتجاه نحو هذا الصوت ورأيت كثيرين يتعبون الصوت في الظلام وواحدًا يقود الآخر. ورأيت في الناحية الشرقية مصباحًا متبتًا في مكان عالٍ ومضيئًا مثل نجمة الصبح”. بصورة رؤوية


Bo ١٠٥: Lefort, p. ١٣٥.
Ors. Lib. ٨. ١١: Boon, pp. ١١٣ e ١١٥.


يوضح باخوميوس فكرته اللاهوتي. مجموعة قليلة من الرهبان كانت تري النور في حين الآخرين لا يرون شيئا لأنهم غارقون في الظلام، إلا إنهم يصلون إلى النور في النهاية بفضل تمسكهم معا، واحد خلف الأخر، يثق به ويتهدي بخطواته، إلى أن يصل إلى النور. مَن لا يتشبث بأخيه سيهلك في الظلام، أي لن يصل إلى الخلاص.

أن سعى المتوحدين إلى القداسة بصورة فردية ساهم في إعلاء شأن الفضائل الشخصية والكاريزما الخاص للنساك، إلى الدرجة التي صُّور فيها سير الرهبان الأوائل كالأبطال اللذين يملكون قدرات ومواهب خارفة للطبيعة. جاء باخوميوس بصورة مختلفة تماما للقداسة، فهى في متناول الجميع شرط اتحادهم معا برباط المحبة، وأن يهتم كل فرد بخلاص الآخر. فالإنسان لا يصل إلى الخلاص وحده، وإنما بفضل محبته للآخرين وتعاونه معهم ومساندته لهم واهتمامه بهم. فمبدأ الباخوميين، كما سبق الإشارة، هو ” يجب علينا نحن الذين نحيا في الشركة أن نتحد بعضا مع بعض بالمحبة المتبادلة حتى نستحق أن نكون تابعي القديسين في هذا العالم وأن يكون لنا نصيب معهم في الحياة الأخرى”.

تأكيد الباخوميين على الخلاص الجماعي لا يلغي اختلاف المواهب الروحية والفروقات الفردية بين الرهبان. فنجد أهتماما واضحا بقيم الفرد ومسيرته الروحية وفضائله الشخصية. فهناك تجانس وتناغم بين السعى الفردية إلى القداسة والبعد الجماعي للخلاص، هكذا نقرأ في سيرة باخوميوس: “عندما يرغب أخ في الزهد وحاول آخر أن يمنعه رغبة في الحفاظ على نظام الدير، فإنه يخطأ ضد الروح القدس. فإذا رأيت أخٌ أكثر فضيلة منك، فبجله وإكرمه أكثر من ذاتك، لأن الله قد أعطاه خمس وزنات فأجتهد أن يضاعفها ليجعل منها عشرة وزنات. في حين أعطاك الله وزنتين، فإجتهد أن تربح مثلهما” .

كالجماعة المسيحية بإورشليم فأن التوق إلى الخلاص الجماعي تم التعبير عنه، داخل الأديرة بالباخومية، من خلال التعضيد والتعاون المشترك والخدمة المتبادلة. كل راهب في خدمة الآخرين، والآخرين في خدمة الراهب. يَخدم الراهب أخوته من خلال سهره وإنتباه الروحي لمسيرة أخوته، وتعضيدهم روحيا وتقديم النصح والإرشاد الأخوي لهم، كل هذا بهدف السعى لخلاص الأخ.

البعد اللاهوتي والإنساني لمفهوم الخلاص الجماعي

القاعدة اللاهوتية: الشركة هي كرمة شعب الله
عَّبر الباخوميين عن إيمانهم بمبدأ الخلاص الجماعي من خلال استدعائهم لأيقونة الكرمة وتطبيقها على رهبنيتهم الوليدة. فرهبان الشركة، على مثال الجماعة المسيحية الأولى بأورشليم، متحدة كأغضان الكرمة عن طريق الخدمة المتبادلة بين أعضائها، وتقاسمهم الخيرات المادية، واحتفالهم الجماعي بالطقوس المقدسة. هكذا يكتب أورزيسوس: “جماعتنا الرهبانية هي في الواقع بيت الرب وكرمة القديسين، كما قرأنا في سفر نشيد الأناشيد: «كان لسليمان كرم في بعل هامون دفع الكرم إلى نواطير كل واحد يؤدي عن ثمره ألفاً من الفضة كرمي الذي لي هو أمامي الألف لك يا سليمان ومئتنان لنواطير الثمر (نش ٨: ١٠،١٢)». “كرمة القديسين” هكذا يصف أورزيسوس


Am, p. ٥٣٦.

حياة الشركة الباخومية مشبهاً الأخوة كالأغصان المتصلة بالكرمة ويطالبهم بالاجتهاد للتمسك بالكرمة: “لو أننا تبعنا هذه الوصايا فإننا سوف نصل إلى ملكوت السموات (…) فلنجتهد حتى لا نُطرد لأننا دنسنا المكان” .

التمسك بالكرمة، أي بحياة الشركة، في هذه الحياة سيؤدي إلى استمرار هذا الإتحاد في الحياة الأبدية، يُّكمل أورزيسوس: “يحب ألا نسلك حسب شهوة الجسد ومسرات هذا العالم حتى لا يقطعنا الآب من الكرمة وحتى لا نكون حكماء في أعين أنفسنا. وعلينا ألا نخالف أي وصية ولو كانت صغيرة حتى نبقى ثايتين في الكرمة ولا نُقطع مثل الأغصان الجافة غير الثابتة التي تُقطع وتلقى في النار لأنه إذا قُطع أي غصن من الكرمة فإلى أين سيلقى؟ في الواقع أن الثبوت في كرم الرب يتم في هذا العالم ويَّكْملَ في الأبدية” . يتضح مما سبق تأكيد الباخوميين على روحانية الكرمة، فكل غصن لا يؤتي بخمر جيدة في هذا الحياة، بإتباعه قوانين الحياة المعطاه من القديس باخوميوس، سيُقطع ويفُصل عن الكرمة في الحياة الأبدية. في ظل هذ الروحانية فأن البحث الفردي عن الخلاص والتقدم في سُلم الفضائل يُعد خطيئة كبرى في تعاليم الباخوميين. هكذا حذر باخوميوس تلاميذه: “فأي خطر نحن فيه الآن حين يكره أحدنا الآخر وحين يبغض أحد الأعضاء العضو الآخر لأن أبناء الله هم أغصان في الكرمة الحقيقة”.

البعد الإنساني: الخلاص الجماعي
اكتشف باخوميوس من خلال تجاربه الأولى، كما سبق الإشارة، إن الإنسان مدعو ليس فقط للانفتاح على الله، بل إلى الانفتاح على أخيه الإنسان. إن توطيد علاقته بأخيه يساعده على إكتشاف ذاته، يتعرف على إمكانياته، ويكتشف نقائصه. قاد هذا الاكتشاف باخوميوس إلى ما هو أكثر عمقًا: إن خلاص الإنسان مرتبط بالآخرين. رؤيته لجهنم، الواردة في كافة المخطوطات، تعكس هذا المفهوم. يصطف رهبان الشركة، في صف وحيد، في إتجاه النور، لكن الذي يري النور هو أوائل الصف، فقط أربعة رهبان، في حين باقي الرهبان لا يرون شيئا. الرهبان البعدين عن مصدر النور يتمسكون بشدة بالسابقين لهم في الصف، يثقون في حركة سيرتهم ويتبعونهم وهم لا يرون شيء. من يتراخي عن التمسك بسابقه، تبتلعه الظلمة هو من يتبعه. وهذا يعني أن من يخرج عن الصف، من يخرج عن حياة الشركة الباخومية، لا يضيع هو فقط، بل كل الرهبان اللذين يأتون من خلفه، المتعلقين بثوبه. لا يصل أحدٌ إلى مصدر النور، لا يصل أحدٌ إلى الخلاص دون مساعدة الآخرين. فخلاص الشخص لا يرتبط فقط بجهاده الروحي الذاتي، بل بكرم ومساعدة الآخرين. فالبقاء ضمن طابور المخلصين لا يتوقف فقط على الشخص ودرجة قامته الروحية، بل على السابقين له ودرجة قاماتهم الروحية، لأن من يتعثر في خطاه سيسقط ليس هو فقط، بل التابعين له. هنا نفهم تحذير أورزيسوس: “هناك بعض من الناس يظنون أنهم يحيون حسب ناموس الله ويقولون لذاواتهم ما يصنعه الآخرين لا يهمنا. إننا نريد أن نخدم الله فقط ونكمل وصاياه وأن ما يصنعه الآخرين، من أهمال وخطيئة، لا يهمنا. (…) إننا جميعا سوف نقف أمام كرسي المسيح. وسوف نحاسب ليس عن كل عمل بل أيضًا عن كل فكر. وبعد أن نقدم حسابًا عن حياتنا نقدم حسابًا عن أولئك المسئولين منا. وليس هذا بخصوص رؤساء المنازل فقط بل أيضًا رؤساء الأديرة وكل أخ آخر في موقع المسئولية لأن وصية الكتاب هي هذه: احملوا


Ors. Lib. ٢٨: Boon, p. ١٢٩.
Reg. ٤: Lefort, p. ٨٢.


بعضكم أثقال بعض وهكذا تتموا ناموس المسيح. (…) إن الله أعطانا وديعة خلاص أنفس الإخوة ولذلك علينا أن نجاهد معهم لكي نحصل على المكافأة في الأبدية” .

الخبرات التي عاشها باخوميوس كونت قناعاته بأن الثقة في الآخر على المستوى البشري تؤهل الإنسان للوثوق به في مسيرته نحو الأبدية. فالحب الأخوي الذي يربط أعضاء الشركة يبني على ثقة كل فرد في الآخر كونه عون له في سعيه للخيرات الأبدية. لخص باخوميوس هذا التعليم عند مقارنته حياة الباخوميين بحياة النساك المتوحدين: “النساك الذين يقودون الآخرين في حياة النسك، فهم مسئولون على الدوام عنهم، بالقدوة الصالحة الدائمة، وبذلك تصير لهم مكانة كبيرة في ملكوت السموات. أما عن أولئك المتواضعين والمزدرى بهم في حياة الشركة، هم كاملون في ناموس المسيح بسبب ثباتهم خضوعهم للكل من أجل الرب فهم لذلك معبرون أحسن من أولئك السالكين في كمال النسك، لأنهم يتممون وصية الرسول القائل: «أطلب إليكم أن تسلكوا بكل تواضع» (اتس ٤: ٢٠) وكذلك قوله: «كونوا لطفاء بعضكم نخو بعض متسامحين كما سامحكم الله أيضا في المسيح» (١تس ٤: ٣٢)” .


Ors. Lib. ٨. ١١: Boon, pp. ١١٣ e ١١٥.
Bo ١٠٥: Lefort, p. ١٣٥.

قد يعجبك ايضا
اترك رد