المحبة الأخوية
المحبة الأخوية: الإقتداء الجماعة المسحية الأولى بأورشليم
تحتل المحبة الأخوية مكانًا بارزا في الروحانية الباخومية. فإذا كان إتباع المسيح هو قاسم مشترك بين النساك المتوحدين والباخوميين، كما سبق الإشارة، فإن آباء الشركة يتفردون عن غيرهم في إن إتباعهم للمسيح لا يكون منفرداً، بل وسط جماعة من الأخوة تعيش المحبة الأخوية. فالنساك المتوحد يتفرغ لأمور العبادة، كالصلاة والصوم والسهر الليلي، منعزلا عن البشر، في حين يمارس الراهب داخل الأديرة الباخومية ذات الأمور التعبدية في إطار جماعة من الرهبان تصلي معا ويخدم كل منهما الأخر. يعيش في إطار شركة مع آخرين، يتقاسم معهم كل شيء: الخيرات المادية، الخيرات الروحية، يشاركهم كذلك التطلع إلى رجاء واحد بأنهم سيخلصون معا، كجماعة واحدة، جماعة القديسين. عندما يلتحق الراهب بدير الباخوميين لا يبحث هنا عن آبً روحيًا يعلمه الحياة النسكية ويكون له مرشدًا في إطار سعيه للقداسة لفترة من الزمن، كما كان يفعل النساك المتوحدين، ثم يتركه لينعزل وحده في صومعة خاصة به، لكنه ينضم إلى جماعة من الأخوة يعيشون معا في محبة أخوية.
باخوميوس ذاته، كما تشير سيرته، سعى منذ بداية حياته الرهبانية إلى تأسيس جماعة رهبانية على مثال جماعة الرسل الأولى إلا إنه لم يفرض رغبته تلك على أول مجموعة من التلاميذ تعيش معه قائلا: “لم يصلوا إلى القامة التي يخدم كل منهم الآخر على مثال الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم التي كان الجماعة قلبًا ونفسًا واحدة، لا يدعي أحدٌ منهم ملك ما يخصه، بل كانوا يتشاركون في كل شيء لهم” . من المهم أن نتبين هنا هل كان النموذج الذي قدمه الرسل في أع ٢: ٤٤ و ٤: ٣٢-٣٣ حلم باخوميوس منذ البداية الذي حاول تحقيقه أم أكتشفه مع مرور الوقت وتراكم الخبرات.
K. Heussi قدم بحثًا في عام ١٩٣٦ مؤكدًا بأن نموذج جماعة الرسل الأولى لم يكن دافعا لإختيارات باخوميوس منذ بداية حياته الرهبانية. تبنى هذه الفرضية الكثير من الباحثين بعده متشككين في أن يكون هدف باخوميوس منذ البداية تأسيس نظام الشركة، بل توصل إليه رغبة منه في تلافي المشكلات التي صادفها هو شخصيًا في نظام المتوحدين. إلا أن الكثير من الباحثين أمثال: . A. Veilleux و H. Bachi عارضوا هذه الفرضية مؤكدين أن باخوميوس كانت لديه فكرة واضحه على أن جماعته مختلفة عن جماعات المتوحدين، وإنه حاول تأسيس هذا النظام منذ إهتداءه للمسيحية ولكنه صادف صعوبات جمة بسبب عدم إعتياد النساك على العيش معا .
نتفق من جانبا مع الفرضية الأخيرة لسببين أساسيين: الأول دعوة باخوميوس ولدت نتيجة عمل محبة قام به مسيحي طيبة في حقه، عندما كان بعد سجينًا. هذا العمل أثر بشدة على باخوميوس طيلة حياته، وقدم نذرًا لإله المسيحين بأن يقتدي بهؤلاء متى تحرر من سجنه. عندما أراد أن يصبح راهبًا لم يكن معروفا وقتئذ طريقا أخر سوى مسلك النساك المتوحدين في الصحاري المتاخمة للمدن والقرى. فمن أراد أن يصير ناسكا، عليه بأن يجد شيخ متوحدًا، يعلمه نظام الحياة النسكية، هكذا قضى باخوميوس سبع سنوات مع الشيخ بلامون. وعزم بعد وفاة الشيخ على تحقيق حلمه بالعيش لخدمة الآخرين، مثل مسيحي طيبه، وتأسيس جماعة رهبانية على غرار جماعة
الرسل الأولى في أورشليم. لم يحبط بعد فشله تجاربه الأولى بسبب رغبة تلاميذه في العيش على مقربة منه للاستفادة من خبراته الروحية، دون الإنخراط في حياة مشتركة. هذا النموذج كان معروفاً في البراري المصرية، فعلى مقربة من أنطونيوس كان هناك العديد من الرهبان اللذين تحلقوا حوله طالبين مشورته الروحية، إلا إنه لم ينشأ حياة شركة مماثلة لما أسسه باخوميوس. رفض الأخير هذا الشكل، لأنه كان يرغب في شيء أخر مختلف تماما، كان يريد حياة شركة كاملة بين الرهبان، أن يصيروا جسدًا واحدًا ونفس واحدة، على غرار جماعة الرسل في أورشليم.
السبب الثاني من وجهة نظرنا في رفض فرضية أكتشاف باخوميوس حياة الشركة رويدًا رويدًا، يرجع إلى التركيز الشديد من جانب تادرس وأورزيسوس في تعاليمهم على روحانية الحياة الجماعية المستمدة من سفر أعمال الرسل. تلاميذ باخوميوس سعوا، أمام صعوبات العيش المشترك أو النزعة التملك التي سيطرت على البعض بعد نياحة باخوميوس، إلى تذكير الرهبان بأفكار المؤسس، التي كانت تتمحور جميعها حول الحياة الجماعية. يقدم تادرس في تعليمه الثالث فكرا لاهوتيا رائعا للحياة الجماعية مذكرًا مستمعيه بروحانية حياة الشركة، داعياً للمحبة الأخوية التي كانت سائدة بين الرهبان عندما وقت تأسيس باخوميوس هذا النظام الرهباني. في هذا التعليم يربط تادرس بين حياة الشركة الباخومية وحياة الرسل الأوائل وفي هذا الربط دلالة على رغبته في العودة إلى نمط حياة قد تم تطبيقه بالفعل. لهذا يتحدث تلاميذ باخوميوس عن: “العودة إلى الجذور” للمحافظة على قانون الحياة المُستلم من آبا باخوميوس.
القاعدة اللاهوتية لحياة الشركة: جماعة إنجيلية
حياة الشركة الباخومية هي الإمتداد التاريخي لحياة جماعة الرسل الأوائل بأورشليم. كل منهما نشأ من كلام الله الموحى به في الأناجيل المقدسة، وتهدف إلى الكرازة بملكوت السموات. لم تنشأ إذن من قرار بشري أو أفكار فرد أو جماعة، بل هي ثمرة النعمة الإلهية “”إنها نعمة الرب التي سمحت بوجود حياة الشركة على الأرض لأنها إعلان لحياة الرسل للبشر الذين يريدون أن يسلكوا للأبد مثلهم من أجل الرب” . يدفع الروح أعضاء الجماعة الباخومية إلى الإقتداء بمثال المسيح، المُكرس من قِبل الآب السماوي لأجل خلاص البشر.
خلقت الكلمة الإلهية حياة الشركة، وهي قوة وجودها ووقود رسالتها في العالم. عند تأسيس باخوميوس للجماعة الأولى في طبانيس لم يعطي قانونا للحياة غير مقاطع منتقاه من الكتاب المقدس، كما نقرأ في المخطوطات الباخومية. يعطي قانون الباخوميين السلطة الكاملة للكتاب المقدس على حياة الرهبان: “يجب أن يحضر جميع الإخوة الاجتماع الذي يعقد لسماع كلمة الله. ووفقاً لتعاليم الكتاب المقدس وتقاليد الشيوخ، يجب أن يتحرر الإخوة من أخطائهم الروحية، ويجب أن يعرفوا كيف يكون السلوك في بيت الله حتى لا تهلك أرواحهم أو يسقطون في أي شهوة، بل يثبتوا في الحق وفي تقاليد الرسل والأنبياء “.
الوقت المُخصص لسماع كلمة الله هو أَقدس الأوقات في حياة رهبان الشركة الباخومية، ففيه لا يقرأ الكتاب المقدس فقط، بل تتفاعل الخبرات الحياتية وتُكشف في ضوء كلام الله: “ألم تسمع قبل الآن أنه لا شيء مثل السلام يحفظ محبة الإنسان لأخيه؟ حتى لو كنت بلا خطيئة ولكنك في عداوة مع أخيك فإنك تصير غريبًا عن
الله (…) فأي خطر نحن فيه الآن حين يكره أحدنا الآخر وحين يبغض أحد الأعضاء العضو الآخر لأن أبناء الله هم أغصان في الكرمة الحقيقة وخراف في القطيع الروحي وقد تجمعوا معاً حول الراعي الحقيقي الذي هو ابن الله الذي قدم ذاته ذبيحة من أجلنا وتألم عنا” . أراد الله أن يعيش البشر معا كأخوة، وجعلهم جميعًا أبناء له في المسيح يسوع الذي قدم ذاته ذبيحه له لأجل هذا الهدف أن يصيروا جميعًا “أخوة”. في كتابه يُلخص أورزيسوس القاعدة اللاهوتية للباخوميين بهذه الكلمات: “إن الله أعطانا وديعة خلاص أنفس الإخوة ولذلك علينا أن نجاهد معهم لكي نحصل على المكافأة في الأبدية” .
البعد الإنساني لحياة الجماعة الباخومية
لا يبنى اتحاد أعضاء الشركة على أساسٌ روحيٌ فقط مُستمد من الكتاب المقدس من حيث كونهم جميعًا أبناء للإله الواحد، بل على كون الإنسان مدعو للتعايش مع أخوته البشر، مدعو لتنمية علاقته بهم حتى يستطيع أن يصل إلى الله. أكتشف باخوميوس رويدًا رويدًا أن الآخر هو الطريق الأفضل للوصول إلى الله، فمن أراد أن يُكرس حياته للعبادة عليه أن يقبل أخوته أولاً، أن يحبهم، أن يسعى لخلاصهم، وعندما يحقق ذلك يكون قد إتحد بالله. فالتعايش مع الآخر يكشف محدودية الإنسان وعدم كماله، وعليه أن يتجاوز صعوبات قبول أخطائه وأخطاء الآخرين حتى يصبح أهلا للشركة مع الله.
كان للصعوبات التي صادفها باخوميوس في بداية حياىه الرهبانية دورًا مهما في تكوين إيمانه هذا. أغلب المخطوطات تروى موقفه مع أخيه يوحنا عندما أراد أن يبنى سورًا حول مكان إقامته. وفي جميع المخطوطات تقريبًا يحتد يوحنا على باخوميوس واصفًا إياه بالغبي، لكن أقدم تلك المخطوطات وهي المكتوب باللجهة الصعيدية، يورد أن الغضب تملك باخوميوس، وليس يوحنا، الذي ثار على أخيه واصفا إياه بالغبي. يكشف هذا الموقف إن الصعوبة التي قابلها باخوميوس ليس فقط من محدودية الآخر، بل أن التعايش مع الآخر يكشف أيضا محدودية الإنسان الذي عليه أن يتغلب على ضعفه هذا في سبيل أن يصل إلى الكمال. التغلب على الضعف الشخصي يتطلب من الإنسان التحلى بالتواضع والسعي لخدمة الآخر، هذا من جانب. ومن جانت آخر، أن قبول الآخر يساعد الإنسان على النمو الشخصي والروحي في إطار سعيه للإقتداء بإبن الله الوحيد. في سيرته نجد باخوميوس قد تعلم الدرس من خبرته في التعايش مع أخيه يوحنا، فعندما جاؤه بعض التلاميذ طالبين المكوث معه شرع هو في خدمتهم، حاملً على عاتقه كافة المهام في الدير من زراعة وإعداد الطعام وفتح الباب لكل طارق، وخدمة المريض منهم، بالإضافة إلى رعايته لرفقائه المبتدئين الذين لم يصلوا بعد إلى القامة التي يخدم بها كل منهم الآخر. إن في الإتضاع وخدمة الآخر يحقق الإنسان دعوته في الحياة، فهو مدعو لأجل الآخرين، لأجل محبتهم، وخدمتهم والسعى لأجل خلاصهم.
الإنسان مدعو لأجل الآخرين.. تحمل هذه العبارة تغييرًا جذريًا في الفكر اللاهوتي والإنساني الذي دشنه باخوميوس. فالإنسان ليس مدعو فقط إلى الإتحاد بخالقه بمظاهر العبادة المعروفة من صلاة وصوم وإماتات، كما أمن المتوحدون. هو مدعو إيضا إلى الشركة والإتحاد مع باقي أخوته من البشر. علاقة مع الآخر أساسهُا المحبة.
الشركة مع الآخر هو الدعوة الأساسية للإنسان، ليس فقط مع أخوته داخل الدير، بل مع كل الجنس البشري. عندما سمع باخوميوس من أخوةٍ عادوا من خدمة خارج الدير بأن هناك مجاعة ووباء في العالم، امتنع عن الطعام قائلا: “لن أذوق طعامًا، ما دام بقية أعضائي (أخوتي الذين في العالم) يعانون المجاعة، ولا يجدون خبزًا ليأكلوه. وهكذا قمع جسده وقت المجاعة بالصوم الزائد والصلاة الدائمة متذكرًا قول الإنجيل: «إن كان عضو يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه» (١كو ١٢: ٢٦). وكان يصلي إلى الله بلجاجة أن يصعد مياه الأنهار إلى مقدارها، حتى يرجع الرخاء إلى الأرض، ويجد الناس طعامًا وخبزًا، فيعيشون يشكرون الله ويصنعون مشيئته” .
المحبة الأخوية
سبق الإشارة إلى أن ما يميز الباخوميين عن النساك المتوحدين بالصحراي المصرية هو رباط المحبة الذي يجمع أفرادها. فالتخلي عن الممتلكات وأعمال التوبة والإماتات لا تكفي للوصول إلى الكمال المنشود، هكذا يعلم باخوميوس: ” حتى لو كنت بلا خطيئة ولكنك في عداوة مع أخيك فإنك تصير غريبًا عن الله” . نقرأ في السيرة عن أحد شيوخ النساك إنضم لجماعة الباخوميين “كان يحيا في الوحدة، متقشفا يلبس الملابس الخشنة جداً، ولا يأكل سوى الخبز والملح ولكن إذا ما أهانه أحد بكلمة تأججت فيه نار البغضة والغضب ورد الشر بالشر”. تدخل باخوميوس مرشدا الأخ الناسك إلى جوهر حياة الباخوميين، إلي المحبة الأخوية. من المحتمل إن التعليم الأول لباخوميوس، المتعلق بالأخ الذي يضمر حقدًا لأخوته، قد سُّن في تلك المناسبة: “تعاليم القديس العظيم أب الشركة التي أعطاها لأحد الرهبان الذي تذمر واشتكى راهب آخر. وقد حدث هذا وقت آبا أبونى abbà Ebonh الذي أحضر هذا الراهب إلى طبانيس” . يركز باخوميس، في هذه التعاليم على إن الإنسان الذي يكره أخيه يسلك في الظلمة ولا يعرف النور لأن الكراهية تغمض العينين فلا يبصر الإنسان صورة الله في أخيه,