سيرة القديس باخوميوس- الجزء الأول
وفقا للمخطوط القبطي (اللهجة البحيرية) عن كتاب VEILLEUX A., Pachomian koinonia I. The life of Saint Pachomius and his disciples, Kalamazoo 1980.، ترجمة القمص أشعيا ميخائيل. مع إضاقة البنود التي تم إغفالها وفقا للمخطوط: Vaticano, cod. arab. 172
تمهيد:
- إن كلمة الله، خالق كل الأشياء، قد ظهر لأبينا إبراهيم، وأمره أن يقدم ابنه الوحيد اسحق ذبيحة. فلما أطاعه وقال له: “من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرًا، كنجوم السماء، كالرمل الذى على شاطئ البحر. ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك فى نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولى.
وبعد أن تحدث الله مع أبينا إبراهيم، تحدث أيضًا مع موسى النبى كليمه، وكذلك مع باقى الأنبياء. وأخيرًا تحدث إلينا فى ابنه يسوع المسيح ربنا، الذى هو من نسل إبراهيم وذريته إذ سبق الله فوعد إبراهيم أن يكون بركة لكل الأمم. وقد تحقق هذا فى قوله لتلاميذه: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.
وبعد أن انتشر الإنجيل فى العالم أجمع، دخل الإيمان بالله فى بوتقة التجارب، وذلك عندما أعلن الأباطرة الوثنيون اضطهاد المسيحيين وإبادتهم أينما وجدوا.وعلى أثر ذلك، قدم المسيحيون أنفسهم شهداء لذاك الذى مات لأجلهم، بعد أن ذاقوا صنوف العذاب والآلام، فنال كل منهم إكليل المجد والفخار الذى لايفنى. وكان آخر هؤلاء الشهداء هو القديس بطرس بطريرك الاسكندرية الملقب بخاتم الشهداء.
فما كان من الإيمان إلا أن تقوى وازداد فى كل الكنائس فى المسكونة بأكملها. وظهرت الحركة الرهبانية والنهضة الديرية، كثمرة طبيعية، لشجرة الاستشهاد، التى ظلت صورتها بكل ما تحمله من ضروب العذابات المختلفة، ماثلة أمام أعين آبائنا الرهبان الأوائل، يعبق ذاكرتهم بأريج رائحتها العطرة، كقوة دافعة للسلوك فى طريق إيليا النبى. متممين قول بولس الرسول: “مكروبين، مذلين تائهين فى برارى وجبال ومغاير وشقوق الأرض.
فقدموا حياتهم وأجسادهم لله. فى حياة النسك وشظف العيش كفعل إرادى لممارسة التقوى والعبادة اللائقة بالله، مثبتين أنظارهم فى الصليب كل حين، سائرين على درب الشهداء فى جهادهم وتقديم ذواتهم ذبائح حية مرضية لله.
- كانت حياة الفضيلة التى سلك فيها القديسون أنطونيوس وآمون و باخوميوس و تواضروس تلميذه شبيهة بتلك الحياة التى عاشها كل من إيليا وإليشع ويوحنا المعمدان فتم قول الكتاب: “ومفديو الرب يرجعون، ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدى على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد. وكذلك قول المزمور: “انسكبت النعمة على شفتيك. وأيضًا ما ورد على لسان بولس الرسول: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح. فقد افتقد الله الأرض كما جاء فى الوحى الإلهى: “تعهدت الأرض وجعلتها تفيض. تغنيها جدًا. سواقى الله ملآنة ماء.تهيئ طعامهم لأنك هكذا تعدها. فلما شربت الأرض (أى البشرية) من ماء النعمة، امتلأت المسكونة فى كل مكان بالآباء الرهبان القديسين الذين “أسماؤهم مكتوبة فى سفر الحياة. وخير شاهد على ذلك هى طيبة بمصر، التى لم يكن بها أحد من الآباء الرهبان، ولكن بعد الاضطهاد الذى شنه دقلديانوس ومكسيميان، تحول الكثير من ظلام الوثنية إلى نور الإيمان بالمسيح.فازداد عددهم جدًا فى الكنائس تحت إرشاد الأساقفة الذين قادوهم فى طريق تعاليم الرسل إلى حياة الفضيلة وثمار الروح ومحبة المسيح.
- ولد باخوميوس فى ابروشية إسنا من أبويين وثنيين. وبعد أن افتقدته نعمة الرب، تعمد وصار مسيحيًا فى ابروشية ديوسبولوس فى قرية تدعى صانسيت. ولما تقدم فى الفضيلة صار مجاهدًا كل أيام حياته.
الصبى باخوميوس:
- مرة أخذه أبواه وذهبوا جميعًا لتقديم العبادة للأصنام، وكانت هذه الأصنام عبارة عن مخلوقات نهرية تعيش فى النهر. فحدث أنه حينما رفعت تلك المخلوقات عينيها ورأت الصبى، أنها هربت للحال. عندئذ صرخ مقدم الذبائح قائلًا: “ابعدوا عدو الآلهة من ها هنا، حتى تكف الآلهة عن غضبها علينا لأنها بسببه لا تريد أن تظهر.” فبكته أبواه وكانا يسألانه دائمًا: “لماذا تغضب الآلهة منك.” وفى معهم إلى المعبد، وبعد تقديم الذبيحة صبوا كأسًا من الخمر ليشرب، باسم الشياطين لكنه لم يلبث أن تقيأه فى الحال وأفرغ كل ما فى معدته فتضايق أبواه، لأن آلهتهم قد صارت فى عداوة معه.
- حدث فى يوم، أن أعطاه أبواه إناءًا به لحم، ليوصله للعمال فى أحد الأماكن وبينما هو ذاهب فى طريقه، ظهرت له الشياطين على هيئة مجموعة من الكلاب تحاول الفتك به. فرفع الصبى عينيه إلى السماء وبكى. فللحال تشتتوا وتبدد شملهم. بعدها ظهر الشيطان لباخوميوس فى هيئة رجل عجوز وقال له: “إن كنا قد ضايقناك فى الطريق، فذلك من أجل عدم طاعتك لوالديك.” ولكن باخوميوس نفخ فى وجهه فاختفى فى الحال.
ولما وصل باخوميوس إلى مكان العمال، وأعطاهم اللحم، كان عليه أن يبيت تلك الليلة فى ذلك الموضع وكان لصاحب المكان الذى سيبيت فيه فتاتان جميلتان فأرادت إحداهما أن ترتكب معه الخطية، لكنه ارتعب جدًا، إذ كان يعتبر الزنا نوعًا من النجاسة والشر. وقال لها: “كيف يمكننى أن أفعل هذا الدنس؟ وهل أنا كلب حتى أصنع هذا الشر مع أختى؟” وعندئذ أنقذه الله من يديها فهرب ورجع إلى بيته.
- ولما صار باخوميوس راهبًا. قص تلك الأمور على الأخوة، بعد أن فسرها لهم ليتعلموا منها. وقال لهم: “لا تظنوا أن الشياطين ـ عديمى الصلاح ـ قد طردتنى من ذلك المكان (أى معبد الأصنام ) لأنهم عرفوا إننى سأقبل الإيمان مستقبلًا، ولكن لأنهم رأوا أنني أكره الشر، لأن الله صنع الإنسان مستقيمًا لذلك حركوا خدامهم لكى يطردوني، وذلك مثل أى إنسان يرى حقلًا قد تنقى من الزوان، فلا شك سيقول لابد أن هذا الحقل سوف يزرع بالبذار الجيدة.
اهتداء باخوميوس:
- بعد الاضطهاد الذى جازته الكنيسة، تبوأ قسطنطين عرش الإمبراطورية وكان أول إمبراطور مسيحى بين أباطرة الرومان. وفى أثناء إحدى المعارك الحربية مع خصومه. أصدر أمرًا إلى جميع تخوم الإمبراطورية لتجنيد أبنائها. وكان هذا التجنيد عامًا وإلزاميًا. شمل كل البلاد والقرى، ومع أن باخوميوس لم يكن قوى البنية، إلا أنه جند ضمن العديدين الذين انخرطوا فى سلك الجندية بناءً على الأوامر الإمبراطورية. وكان له من العمر ما يقرب من العشرين عامًا. فأقلعت بهم المركب شمالًا وعند مدينة إسنا. وقع أسيرًا مع آخرين وتم حبسهم فى السجن. وفى المساء جاء بعض من مواطني هذه البلدة وقدموا لهم طعامًا فى السجن وأجبروهم على الأكل، إذ كانوا غرقى فى حزنهم ويأسهم فلما رأى باخوميوس صنيعهم هذا ، سأل الذين معه عن أولئك الذين أكرموهم دون سابق معرفة. فأجابوه أنهم مسيحيون وقد أظهروا لهم كل هذا الحب من أجل المسيح إله السماء. عندئذ انفرد باخوميوس إلى أحد الأماكن وصلى قائلًا: “أيها المسيح إله السماء ليت صلاحك يدركنى سريعًا. أنقذني من هذه المحنة. وأنا أخدم كل الجنس البشرى طيلة أيام حياتى.”
وفى يوم ما، لما أبحروا إلى مدينة أنتينوى، ذهب باخوميوس مع رفقائه لشراء طعام، فأراد رفقائه أن يستميلوه ليذهب معهم إلى أماكن الدنس للتلذذ بمسرات الجسد، فانتهرهم بشدة، ولم يقبل لأنه كان يحب الطهارة التى يحبها الله وتحبها الملائكة أيضًا.
- وبينما هم فى أنتينوى، انتصر الإمبراطور قسطنطين على أعدائه فأصدر أمرًا عامًا بتسريح جميع المجندين. فرجع كل واحد إلى مدينته بفرح.وكذلك رجع باخوميوس جنوبًا إلى بلدة تدعى صانسيت. وأخذ يفكر فى الإقامة فى مكان غير آهل بالسكان، فتوجه إلى قرب النهر وذهب إلى بقايا معبد قديم “معبد سيرابيس”. فوقف وصلى، وحينئذ حركه روح الرب أن يستقر ويجاهد فى هذا المكان. وفعلًا استقر هناك وكانت توجد فى ذلك المكان بعض الخضروات المزروعة وأشجار النخيل، فظل يقتات منها ويقوت الفقراء والغرباء العابرين، سواء العابرين برًا أو عن طريق المراكب فى النهر، أما الذين تركوا منازلهم وجاءوا ليعيشوا بجواره فكان يشجعهم ويشد من أزرهم، وكانت هذه عادته فى التعامل معهم مما دفع الكثيرين إلى الالتفاف حوله والاقامة معه.
وبعد أن قضى فترة فى ذلك المعبد ذهب إلى الكنيسة، ونال المعمودية المقدسة. ثم تقرب من الأسرار المقدسة، وأكل من جسد الرب ودمه. وكان باخوميوس قد رأى فى ليلة عماده رؤيا، وهى أن ندى الليل ينزل على رأسه ثم يتجمع فى يده اليمنى، فتحول إلى شهد عسل، وفيما هو متأمل فى ذلك إذ بهذا العسل ينزل على الأرض، وينتشر على كل وجهها وبينما هو متحير لذلك، إذ بصوت من السماء يقول له: “افهم هذا يا باخوميوس لأن ذلك سوف يحدث معك بعد وقت قصير.”
ومن خلال إقامته فى ذاك الموضع، وممارسته عمل الرحمة تجاه كل إنسان، نما جدًا فى قامته الروحية، وكان يطيب نفس كل من يأتى إليه، حتى سمع به كثيرون، فجاءوا ليعيشوا معه فى تلك القرية.
- وحدث أن تفشى وباء الطاعون فى تلك القرية، مما أودى بحياة الكثيرين. فذهب باخوميوس لكى يخدم المرضى،فكان يقدم لهم كميات من خشب السنط. يكون قد جمعها من الغابات الموجودة بقرب القرية، وكان يقوم على خدمتهم إلى أن يشفوا. وبعد أن ترك الوباء تلك القرية، قال باخوميوس فى نفسه: “إن هذا العمل الخاص بخدمة المرضى، ليس هو عمل الراهب، بل عمل الكهنة والشيوخ الأتقياء. ومنذ الآن لن أقوم به، حتى لا يسير خلفى كثيرون فى هذا العمل ويعثرون، ويتم فىَّ قول الكتاب: “إن حصلت أذية تعطى نفسًا بنفس.
الحياة التوحدية مع بلامون:
- أمضى باخوميوس ثلاث سنوات فى تلك القرية، بعدها لاحظ أن الناس تزدحم حوله، مما أثر على سلامه وهدوءه، حتى لم يكن يجد وقتًا للعبادة والرياضة الروحية. فقرر أن يمارس حياة الرهبنة تقشفًا ونسكًا وانفرادًا. وبينما هو يفكر فى هذا الأمر علم بوجود أب ناسك يدعى بلامون، يعيش فى تلك القرية، وهو شيخ قد بلغ فى التقوى مبلغًا، وأصبح نموذجًا ومثالًا يحتذي به، وكان كثيرون يقصدونه ويقيمون بالقرب منه حتى صار أبًا ومدبرًا لهم. فترك باخوميوس زراعة الخضروات. وأسند مسئوليتها إلى أخ آخر كبير فى السن، ثم قام وتوجه إلى الشيخ القديس بلامون. فلما قرع الباب، وأطل عليه القديس من النافذة وسأله بجفاء عن سبب مجيئه، فقال له باخوميوس: “يا أبى إنني أريد أن أصير راهبًا تحت إرشادك.” فرد عليه الشيخ: “إن الأمر الذى تطلبه ليس هينًا، لأن كثيرين جاءوا إلى هنا لنفس الغرض، ولكنهم لم يكملوا لعدم احتمالهم، ورجعوا إلى الوراء فى خزى لأنهم لم يصبروا على الجهاد فى الصوم والسهر والصلاة كل حين حتى نتمم خلاصنا. فاذهب أنت وعش فى مكانك، ثابتًا فيما أدركته، وعندئذ ستكون مكرمًا عند الله. وإلا فعليك أن تذهب وتختبر نفسك جيدًا، لتعرف مدى قدرتك على الثبات فى هذا الطريق، وبعدها يمكنك المجئ إلى هنا. وحينما ترجع سنكون مستعدين لأن نجاهد معك، حتى تعرف ذاتك وسوف نعرفك أعماق الحياة النسكية، لكن الآن ارجع واختبر نفسك جيدًا. لأن قوانين الرهبنة التى سلمها لنا الآباء الأوائل الذين سبقونا فى هذا الطريق تتضمن السهر الدائم إلى منتصف الليل وأحيانًا كثيرة الليل كله حتى الصباح، وقراءة كلمة الله على الدوام، بالإضافة إلى شغل اليدين مثل غزل الصوف أو صنع القفف، حتى لا ننام وحتى لا نوفى حاجات الجسد، وما يزيد عن حاجتنا نتصدق به على الفقراء، كقول الرسول: “فقط ان نذكر الفقراء. علاوة على ذلك فإننا لا نعرف لأكل الزيت أو شرب الخمر طريقًا، مع ملاحظة الصوم الدائم إلى المساء، ثم الأكل دفعة واحدة فى اليوم خلال الصيف، وكل يومين أو ثلاثة فى الشتاء. كما توجد ست صلوات نهارية وخمس ليلية، ونحن لا نعد الصلوات. بل نحرص على المثول أمام الحضرة الإلهية. لأنه مطلوب منا “أن نصلى بلا انقطاع. كما يوصينا الكتاب أيضًا: “أعلى أحد بينكم مشقات فليصل. وقد أمر الرب يسوع تلاميذه قائلًا: “صلوا لكى لا تدخلوا فى تجربة. لأن الصلاة فى الحقيقة هى أم كل الفضائل.
فالآن بعد أن أخبرتك بقانون النسك، اذهب وامتحن ذاتك أولًا فى كل ما قلته لك، فإذا وجدت نفسك قادرًا على ممارسة ذلك، فتعالى، وإلا فلا تتردد فى الرجوع. ونحن على كل حال سنكون سعداء بك فى أى طريق تسلك.” فلما سمع باخوميوس هذا الكلام من فم الشيخ، قال له باتضاع: “لقد اختبرت نفسى فى كل شئ، لأيام كثيرة، قبل المجئ إلى محبتك.”
عندئذ فتح أبا بلامون له الباب وسلم عليه، وقبله قبله مقدسة، وقال له: “لا تظن يا ابنى أن كل ما قلته لك عن النسك والصلاة والسهر، هو بدافع حب الظهور، والمجد الباطل، ولكن فقط من أجل خلاصك فلا يكون فيك أى فكر من نحونا، فإن كل فعل صالح، إنما هو لفائدتنا، لأنك متى عاملت نفسك بقسوة، معتمدًا على نعمة الله، فإنك يقينًا سترث الملكوت، ومع ذلك فأنا أريدك أن ترجع إلى مكانك، الذى كنت فيه قبلًا، وتختبر ذاتك ثانية، لعدة أيام أخرى، لأن ما تبتغيه ليس سهلًا.” فأجابه باخوميوس: “يا أبى لقد اختبرت نفسى فعلًا، وفى كل شئ، وأنا أثق أنه بمعونة الرب وبصلواتك سيستريح قلبك من جهتى.” عندئذ قبله آبا بلامون فرحًا، وتركه يقيم معه، لعدة أيام حتى يختبره فى الصلوات والسهر والصوم. على أن آبا بلامون، بعد أن أكل معه الخبز لأول مرة، تركه ليأكل بمفرده، وبعد أن اختبره لمدة ثلاثة أشهر كاملة وجد فيه من العزم والشجاعة الشيء الكثير فقام حينئذ وأخذ الزى الرهبانى مع المنطقة، ووضعهما على المذبح، وقضيا الليل كله فى الصلاة على الملابس ولما طلع النهار، ألبسه إياها، وهما يمجدان الله فرحين.
ومنذ ذلك الوقت، عاشا كلاهما كرجل واحد، يمارسان النسك بقسوة فائقة. وكان القديس بلامون يدربه على السهر من الليل حتى الصباح، عاكفًا على ممارسة النسك دون ملل. وحينما كان النهار يميل للغروب كانا يتناولان شيئًا يسيرًا من طعام زهيد، ثم يقول له الشيخ: “أعد لنا بعضًا من الخوص والحبال حتى نشتغل فى العمل اليدوى لأن ذلك يحفظ لنا قانون السهر، طيلة الأسبوع وكان باخوميوس مطيعًا لمعلمه فى كل شئ وكانا فى كل يوم عندما تميل الشمس للغروب يقومان ويستمران فى السهر، وتمجيد الله دون توقف، أثناء العمل اليدوى، فإذا هاجمهما النعاس، فإنهما كانا يغيران نوع العمل اليدوى، فيهربان منه، وإذا وجد أن النوم ما زال يحاربهما، كانا يتركان القلاية ويخرجان إلى الجبل ينقلان الرمل فى قفف من مكان لآخر. وذلك كله حتى يحفظا جسديهما ساهرين، فيستطيعان أن يستمرا فى الصلاة.
وحينما كان الشيخ يرى الشاب باخوميوس، يترنح فى النوم، كان يقويه قائلًا: “استيقظ يا باخوميوس لئلا يجربك الشيطان، لأن كثيرين ينامون وقت التجربة.” وكان حينما يراه قد احتمل السهر حتى وقت صلاة المجمع، كان يفرح بسبب طاعته وتقدمه فى الحياة الروحية.
- لما جاء يوم عيد القيامة، قال بلامون لتلميذه باخوميوس: “يا ابنى أعد لنا طعامًا لنأكل، لأن هذا هو يوم قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات، وهو يوم عظيم، فنأكل مرة فى منتصف النهار ومرة أخرى فى الليل.” فقام باخوميوس وأعد الطعام، وبعد أن صليا، جلسا ليأكلا. فلما نظر أبا بلامون، ووجد أن باخوميوس قد أضاف إلى الطعام زيتًا لطم على وجهه، وقال: “إن الرب قد صُلب من أجلى وأنا آكل زيتًا لأعطى جسدى قوة. دعنا نأكل بعض الخضروات دون زيت، أو لنضع بعضًا من الرماد على الملح قبل أن ،اكل حتى لا نتخلى عن قوانين آبائنا، ولا نأكل شيئًا يعطى أجسادنا قوة.” ثم رفض أن يأكل شيئًا حتى اليوم التالى فما كان من باخوميوس إلا أن أضاف رمادًا على الملح، وأخذ يتوسل إلى الشيخ فى اتضاع، أن يسامحه ويغفر له، طالبًا منه أن يقوم ليأكل. فإذ بالشيخ يشترط عليه ألا يدخل ذلك الزيت إلى قلايته قط. فأطاع باخوميوس قائلًا له: “اغفر لى يا أبى.” حينئذ قام الشيخ وأكل خبزًا وملحًا مع باخوميوس والدموع تنساب على خديهما.
- اعتاد باخوميوس أن يذهب إلى قبور الموتى، بتشجيع من آبا بلامون. قاضيًا الليل كله فى الصلاة للرب يسوع حتى الصباح. فكانت الأرض تحت قدميه تتحول إلى طين من كثرة العرق والدموع المتصبب منه وبعد أربعة سنوات من الإقامة مع آبا بلامون، رأى باخوميوس الرؤيا التى رآها من قبل، وهى ندى من السماء يتساقط عليه ثم يملأ كل الأرض. ورأى أيضًا بعض المفاتيح التى أعطيت له سرًا. وفى الصباح أخبر آبا بلامون بتلك الرؤيا فتنهد الشيخ قائلًا له: “هناك مغزى عميق لتلك الرؤيا يا ابنى باخوميوس، ولكن لتكن مشيئة الرب.”
- حدث أيضًا أنه فى عيد الظهور الإلهى، لما رجع باخوميوس من غابة السنط. وجد الشيخ يغلى شيئًا فى وعاء ماء، فتعجب فى نفسه قائلًا: “يا ترى ماذا يطبخ الشيخ اليوم؟” وبعد قليل طلب إليه الشيخ قائلًا: “احضر لى طيقًا بسرعة.” فلما أحضره له ملأه آبا بلامون بما كان يطبخه، فإذ بع بعض من التين الجاف، حيث كانت توجد فى ذاك المكان شجرة تين كبيرة، يأخذون ثمرها ويعطونه للمرضى لسد احتياجاتهم. فقاما وصليا وأكلا وشكرا الله من أجل أن “للنفس الجائعة كل مر حلو.
الهروب من المجد الباطل:
- حدث فى أحد الأيام بينما كان باخوميوس جالسًا مع آبا بلامون، يعملان أمام جمر نار مشتعل، فى شغل أيديهما ويلهجون فى كلام الله أن قرع أحد الأخوة القاطنين بجوارهم الباب. فقام باخوميوس وفتح له، فتحدث إليهما الأخ بانتفاخ قلب قائلًا: “إن كان لكما ثقة فى نفسيكما أنكما تسلكان باستقامة أمام الله فهل يستطيع أى منكما أن يقف فوق هذا الجمر المشتعل، ويقول الصلاة الربانية؟” فأجابه آبا بلامون بغضب شديد قائلًا: “ملعون ذاك الشيطان الذى ألقى هذا الفكر فى قلبك. والآن كف عن هذا الفكر الردئ.” لكن الراهب المختال بدلًا من أن يسمع نصيحة الشيخ، انتفخ أكثر، خاضعًا لمشورة إبليس، ووقف فوق الجمر المشتعل، وقال الصلاة الربانية دون أن تحترق قدماه ثم رجع إلى قلايته مملوء عجبًا وزهوًا.
عندئذ قال باخوميوس للشيخ: “يا أبى، يعلم الرب، إننى مندهش من أمر هذا الأخ لأنه وقف هكذا فوق الجمر المشتعل، دون أن تحترق قدماه.” فأجابه الشيخ: “يا ابنى لا تتعجب من ذاك الإنسان لأنه بسماح من الله لم تحترق قدماه، لأنه مكتوب: “مع الأعوج تكون ملتويًا. وصدقنى يا ابنى لو علمت نهاية هذا الأخ لبكيت على فرط شقاوته.” وبعد أيام قليلة، بينما كان ذاك الأخ فى قلايته، غارقًا فى المجد الباطل، ظهر له الشيطان فى شكل امرأة جميلة، وقرع باب قلايته، فلما قام وفتح الباب، قالت له: “أتوسل إليك يا أبى، أن تشفق علىَّ، وتسمح لى بأن أمكث عندك حتى الصباح، فإننى فى ضيق شديد، لأننى مدينة لقوم مقتدرين، وليس لى ما أوفيهم، وأنا أخشى بأسهم.” ولم يدرك الأخ بسبب عمى قلبه وانطماس بصيرته، الفخ المنصوب له ففرح بلقائها، وأدخلها إلى عنده وهكذا بدأ الشيطان يدنس فكره بالشهوات الرديئة، والأفكار النجسة، فلما امتلأ قلبه بالدنس، ومال نحوها ليتمم خطيئة النجاسة، صرعه الشيطان، وهزأ به وأخذ يعذبه حتى اليوم التالى وتركه فى حزن عظيم.
ولم يكد هذا الأخ يعود إلى رشده حتى قام وجرى إلى آبا بلامون، وألقى بنفسه تحت قدميه وتوسل إليه بدموع أن يصلى لأجله، حتى يغفر له الرب كبرياء قلبه، ويعينه فى محنته. معترفًا بأنه هو السبب فى بليته لعدم تواضعه ورفضه نصيحة الشيخ، وأن عجرفته هى التى سدت أذنيه عن سماع صوت الشيخ وإرشاده، قائلًا “الويل لى أنا الذى سقطت.” فبكى كل من آبا بلامون و باخوميوس، وادخلاه إلى الداخل ليعزياه ويخففا عنه حزنه. وعندما وقفا ليصليا معًا من أجله، صرعه الشيطان وطرحه على الأرض، وأخذ يعذبه بأكثر عنف، فزادا من تضرعهما للرب بدموع من أجله لكى يرحمه، إلى أن شُفى ووقف على قدميه أمامهما. وفيما هما يفكران فى وضعه فى مكان منفرد، حتى يكمل الرب شفاءه، إذ بالروح النجس الساكن فيه يهيجه ويثيره فيمسك عصا غليظة، محاولًا قتل الشيخ ومعه باخوميوس ولما هما بأن يمسكاه، جرى منهما إلى الجبل وإذ وجد تنورًا مشتعلًا، زج بنفسه فيه، فاحترق ومات. فحزن آبا بلامون عليه حزنًا عظيمًا، واغتم لفرط تعاسة ذلك الإنسان. وكان كثيرًا ما يتحدث مع الأخوة عن شقاوة هذا الأخ حتى يزرع فيهم خوف الله مدللًا على ذلك من الكتاب المقدس، فكان الأخوة يتأثرون عند سماعهم كلمة الشيخ. ويجاهدون من أجل خلاص أنفسهم، مقتدين فى ذلك، بمعلمهم آبا بلامون، الذى كان يحمل فى جسده كل حين سمات صلب الرب يسوع.
حياة باخوميوس وبلامون النسكية:
- ازداد باخوميوس جدًا فى ممارسة النسك، وحفظ الكتاب المقدس، والهذيذ فيه كل حين بسهولة ويسر. وكان يتردد على غابة السنط المحيطة بالمكان ليمارس قمع جسده بتقشف صارم لفترات طويلة. وحين كانت الأشواك تدخل رجليه وتدميها كان يتركها ولا ينزعها، فيتألم، فيتذكر حينئذ المسامير التى دقت فى جسد الرب على الصليب.
- كان القديس بلامون على صلة بكل من يحيا حياة النسك على الجبل، وكان جميع الأخوة معجبين به، لشجاعته وعزيمته القوية، وحياته النسكية الصارمة دون كلل أو ملل. على أنه نتيجة نسكه المتزايد وتقشفه الشديد دون اعتبار لسنه المتقدم، أصيب بمرض شديد فى الطحال. فلما رأوه يتلوى من شدة الألم، استدعوا له طبيبًا مشهورًا حتى يصف له دواء. ولكن لما فحص الطبيب حالته قال: “إن مرضه هذا لا يستلزم استدعاء طبيب على الإطلاق، لأنه نتيجة الإرهاق الشديد الناتج عن شدة النسك والآن إذا هو قبل أن يتناول بعضًا من الطعام والخضرواتـ فإن حالته لا شك ستتحسن جدًا.” فألح عليه الأخوة كثيرًا أن يأكل حتى وافق ورضى أن يتناول بعض الأطعمة التى يتناولها المرضى. وبعد تناوله تلك الأطعمة لعدة أيام، أحس أن صحته لم تتقدم، فقال للأخوة: “لا تظنوا أن الشفاء يأتى من الأطعمة البائدة، بل إن الصحة لا تأتى إلا من قبل الرب يسوع المسيح.وإذ كان شهداء المسيح قد قطعت أعضاؤهم وفصلت رؤوسهم وأحرقوا بالنار وصبروا على كل ضيق حتى الموت من أجل شدة إيمانهم وتمسكهم بالله، فهل كثير علىَّ أن احتمل مرضًا بسيطًا كهذا؟ وها أنتم ترون أنه بالرغم من أننى أطعتكم وأكلت من ذاك الطعام الذى يقوم الجسد إلا إننى صرت فى حالة أسوأ.” ثم مالبث أن عاد الشيخ مرة أخرى إلى حياة النسك، بتداريب متنوعة لقمع جسده. فلما رأى الله شجاعته وصبره المتواصل، منحه القوة وشفاه من مرضه.
- عاش باخوميوس مع القديس بلامون، يقتفى إثر خطواته، ويسلك على منواله مقتديًا به فى كل شئ. وفى إحدى المرات خرج كعادته ليسير نحو غابة السنط، فاقتاده الروح إلى قرية مهجورة، تبعد مسافة عشرة أميال، وتقع على شاطئ النهر، تدعى طبانيسى. فلما بلغها أحس أنه مدفوع للصلاة، فصلى طالبًا من الرب يسوع المسيح أن يقوده هاديًا خطواته، وفق إرادته الصالحة. وما إن فرغ من الصلاة، حتى سمع صوتًا من السماء يقول له: “يا باخوميوس جاهد أن تقيم فى هذا المكان، وإبنى هنا ديرًا، لأن كثيرين سيأتون إليك ويصيروا رهبانًا معك لأجل خلاص أنفسهم.” وبعد هذا الصوت قام ورجع إلى أبيه الشيخ، وقص عليه ما حدث. فلما سمع القديس بلامون ذلك، بكى قائلًا: “هل ستتركنى يا باخوميوس بعد كل هذه المدة بعد أن عشت معى سبع سنوات فى طاعة كاملة؟ وهل ستتركنى الآن فى شيخوختي هذه؟ ولكن لتكن إرادة الرب. فإن الرؤيا التى رأيتها مرتين، سوف تتحقق، وتصير حقيقة واقعة، لأن هناك عملًا ما سوف يكلفك الرب به. والآن هيا بنا نحو الجنوب لتبنى لك قلاية هناك لتعيش فيها، على أن يزور كل منا الآخر بالتناوب إلى أن يفتقدني الرب.”
فقاما وذهبا معًا، وبنيا هناك قلاية، وكان كل منهما يزور الآخر فى فرح وحب إلهيين. وكان آبا بلامون مصدر تعزية لباخوميوس ليست بقليلة.
باخوميوس وأخيه يوحنا:
- لم يكد يمضى على ذلك طويلًا، حتى مرض الشيخ فأرسل الأخوة لباخوميوس حتى يحضر سريعًا. فحضر لوقته، واستمر فى خدمته إلى أن افتقده الرب بسلام، وكان ذلك فى الساعة العاشرة فى اليوم الخامس والعشرين من شهر أبيب (323م). فقضوا الليل كله فى قراءة الأسفار المقدسة، وترتيل المزامير، وهم قيام حوله، حتى جاء وقت صلاة المجمع، فأقاموا له قداسًا إلهيًا من أجله، ثم أخذوا جسده ودفنوه على مسافة قريبة من مغارته فى الجبل.
وبعد ذلك رجع كل واحد إلى قلايته بحزن عظيم، متذكرين كلماته، وإرشاده لهم، قائلين لبعضهم البعض: “لقد صرنا اليوم يتامى من بعده.” أما باخوميوس فرجع جنوبًا إلى قلايته، بحزن ووجع قلب لانتقال معلمه ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، تزايد جدًا فى نسكه وممارساته الروحية، فى تداريب شتى.
- علم يوحنا شقيق باخوميوس، أن أخاه يسلك فى النسك، ويحيا فى الوحدة، فاستقل قاربًا واتجه شمالًا وجاء إلى أخيه. ولم يكن أى منهما قد رأى الآخر، منذ التحق باخوميوس بالجيش. وما إن تقابلا فى طبانيس حتى تعانقا وقبلا بعضهما. ولما جلسا، أخذ باخوميوس يكلمه بكلام الحياة والعيشة الملائكية، وجعله راهبًا معه.فعاشا معًا يمارسان النسك الشديد، ويخضعان كل حين لنير الصليب، حاملين إماتة الرب يسوع المسيح، تنفيذًا لوصية الرسول: “حاملين كل حين إماتة الرب يسوع المسيح لكى تظهر حياة يسوع أيضًا فى جسدنا. لأننا نحن الأحياء نسلم دائمًا للموت من أجل يسوع لكى تظهر حياة يسوع أيضًا فى جسدنا المائت. وهكذا سلكا فى احتقار كامل للعالم، وكانا كل ما يكسباه من عمل أيديهما يتصدقان به على الفقراء، مكتفين فقط بحاجتهما الضرورية. أما عن لباسهما الرهبانى، فكان يتمثل فى جلباب واحد فقط، وعباءة أخرى لكليهما تستعمل عند غسل الجلباب، وكذلك غطاء الرأس(قلنسوة)، وغطاء واحد يتبادلان استعماله. وعاشا على ذلك لا يمتلكان من متاع العالم شيئًا. أما من ناحية الطعام، فكان عبارة عن خبزتين مع قليل من الملح.
وعلاوة على ذلك فقد كان لباسهما من الشعر الخشن، الذى كثيرًا ما شعرا بخشونة ملمسه وثقله كلما اشتدت حرارة الجو.
وفيما يختص بصلاتهما، فقد كانا يقضيان الليل كله فى الصلاة، حتى الصباح، وما أشد قمعهما لجسديهما أثناء الصلاة، فما كانا يحركان رجلًا أو يدًا أثناء وقوفهما، بل كانت الأيدى مبسوطة للصلاة بلا ارتخاء، حتى يحاربا النوم، والأرجل ثابتة طوال الليل بلا حركة. ومن جراء ذلك كثيرًا ما شعرا بألم فى الرجلين بسبب كثرة الوقوف، وكثيرًا ما أدمت بسبب لدغات البعوض.
أما عن طريقة نومهما، فقد كانا يجلسان فى وسط موضع الصلاة، دون أن يسندا ظهرًا على حائط، ويختطفان قليلًا منه.
وزيادة فى قمع الجسد، ما كانا يقبلان قط أن يغيرا مكان عملهما اليدوى أثناء النهار، رغم لفحة أشعة الشمس الحارقة وقت الظهيرة، بل يظلان على ذلك حتى ينتهيا من شغل أيديهما، متممين قول الإنجيل: “إن أراد أحد أن يأتى ورائى فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى.
ولكن حدث أنه أثناء قيامهما بإنشاء مسكن لهما، أن رأى باخوميوس أن يكون المكان متسعًا، حتى يسع الرهبان الذين سيأتون مستقبلًا، أما يوحنا فكان من رأيه أن يظلا بمفردهما. ولما نظر باخوميوس أخاه يهدم الحائط الذى بناه، احتد عليه غضبًا وقال له: “كف عن هذا الغباء يا يوحنا.” فاستشاط يوحنا أيضًا غضبًا وحزنًا. وعندئذ ندم باخوميوس وقال له: “اغفر لى لأننى قد غضبت منك وأحزنتك.” وبعدها ذهب باخوميوس إلى مكان منفرد، وظل هناك حتى المساء ثم قام وبسط يديه وصلى قائلًا: “لأن فكر الجسد ما زال فىَّ، فإنى سأهلك لا محالة لأنه مكتوب إن اهتمام الجسد هو موت.. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. فارحمنى يا الله، لئلا أهلك، لأن عدو الخير قد وجد له فىَّ مكانًا، وشيئًا فشيئًا سيهزمنى ويظفر بى، لأنه مكتوب: “من حفظ الناموس، وعثر فى واحدة فقد صار مجرمًا فى الكل. ولكنني واثق يا إلهي؛ إن ادركتنى بمراحك الغزيرة يا إلهى، فإنى سوف أعرف كيف أسير فى طريق القديسين، و أنسى ما هو وراء وامتد إلى ما هو قدام. وبمعونتك يا الله أستطيع أن أسلك كما سلك قديسوك، الذين هزموا الشياطين بنعمتك. وإلا فكيف يمكننى أن أرشد أولئك الذين ستدعوهم لهذه الحياة، ما دمت أنا نفسى مغلوبًا هكذا من الأفكار الجسدية؟”. واستمر باخوميوس يصلى هكذا حتى الصباح. ثم خرج من مكانه ورجع إلى أخيه فى اتضاع تائبًا إليه طالبًا منه المغفرة، حتى تصافحا وقاما وصليا معًا.
- حدث مرة بينما كانا يبلان الخوص فى الماء أن ظهر تمساح فجأة فارتعب يوحنا وجرى مسرعًا نحو الشاطئ، وصرخ على أخيه قائلًا: “هيا انهض سريعًا، لئلا يصرعك التمساح.” فابتسم باخوميوس وقال له: “وهل تظن يا يوحنا أن الحيوانات المتوحشة لها سلطان علينا من أنفسها؟ كلا.” ثم ظهر التمساح مرة أخرى على وجه الأرض واقترب منه جدًا لمسافة لا تزيد عن ثلاثة أذرع، فما كان من باخوميوس إلا أنه أخذ قليلًا من الماء ورش عليه قائلًا: “الله يدينك ويحكم عليك ألا تأتى إلى هذا المكان ثانية.” فللحال غاص التمساح فى الماء ولم يعد يظهر. ولما خرج باخوميوس من الماء، أسرع يوحنا نحوه وقبل فمه ويديه ورجليه بفرح عظيم قائلًا له: “الله يعلم، يا أخى، إننى كنت دائمًا أعتبر نفسى أخاك الأكبر، لذلك كنت أدعوك يا أخى، ولكن من الآن فصاعدًا، لن أناديك إلا يا أبى، بسبب إيمانك الراسخ فى الله.”
وبهذه الروح الوديعة قضى يوحنا بقية حياته ممارسًا التداريب المتنوعة فى النسكوالزهد حتى افتقده الرب وأراحه فى دار الخلود.
المعركة مع الشيطان:
- واجه باخوميوس حربًا قوية من قبل الشياطين، وكان ذلك بسماح من الله، لأجل امتحانه وزيادة حنكته الروحية، وحتى يستطيع أن يقود الآخرين (فى كيفية النصرة).
فكانوا يحاربونه مواجهة، ومن ذلك أنه حينما كان يركع ليسجد، كانوا يصورون له، كأن حفرة أمامه حتى يخيفوه فيمنعوه عن الصلاة، ولكنه إذ كان يدرك حيل الشياطين، فقد كان يسجد بإيمان ويبارك الله ويشكر المسيح من أجل خزي الشياطين وفضيحتهم.
وأحيانًا أخرى حينما كان يذهب للعمل اليدوي، كانت الشياطين تظهر له فى شكل صفين من الجنود، يمشون أمامه ويقولون لبعضهم البعض: “أفسحوا الطريق لرجل الله.” وذلك حتى يسقط فى المجد الباطل ويتشتت فكره بالنظر إليهم. ولكنه لرجائه فى الله وثقته فيه، لم يكن يلتفت إليهم قط بل كان يسخر منهم لضعفهم. وإزاء هذا الثبات كانوا يختفون من أمامه ويتبددوا. وتارة أخرى كانوا يحدثون زلزالًا فى قلايته، ويخيلون له أنها ستسقط على رأسه، وذلك حتى يدخلوا الفزع إلى قلبه. ولكنه فى رباطة جأش كان يرنم قائلًا: “إلهنا ملجأنا ومعيننا فى شدائدنا التى أصابتنا جدًا. فلا نخاف إذا انقلبت الأرض.
وفى إحدى المرات، حينما جلس ليعمل، ظهر له الشيطان فى شكل ديك وصاح فى وجهه، فما كان من باخوميوس إلا أن أغمض عينيه، ولم يعره انتباهًا، ولم يتزعزع قيد أنملة. فلما أيقنت الأرواح الشريرة أنها أضعف من أن تخدعه، أحضرت شيئًا مثل ورقة شجرة وربطوها بحبل وكأنهم يجرونها إلى مكان ما. وتظاهروا كأنهم فريق كبير يعمل عملًا شاقًا وهم يصيحون بأعلى أصواتهم، وذلك كله حتى يجذبوا انتباهه ويحولوا فكره إليهم أو يضحك، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث، بل فى الحال وقف ورفع يديه للصلاة، فتبددوا وهربوا من أمام وجهه.وكثيرًا عندما كان يجلس ليأكل، كان الشيطان يظهر له فى شكل امرأة عارية تريد أن تأكل معه، فكان رجل الله يغلق عينيه وقلبه، إلى أن يتبدد الشيطان ويتحول إلى بخار.
لذلك من أجل هذه الحروب، طلب باخوميوس من الله أن ينزع عنه النوم حتى يستمر فى جهاده وينتصر على محاربيه، ويرتل مع المرنم: “اتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم. وقد وهبه الله هذه العطية فترة من الزمن، حتى هربت الشياطين منه فى خزي، وكفت عن محاربته إلى حين.
الرؤية الأولى:
- فى إحدى المرات كان باخوميوس بمفرده فى أحد الأماكن يجمع الأغصان، وبينما هو ساهر فى الصلاة كعادته، ظهر له ملاك الرب وقال له ثلاث مرات: “باخوميوس باخوميوس إن إرادة الله هى أن تخدم كل الجنس البشرى وتوحدهم فى الله.” ولما ذهب عنه الملاك، أدرك باخوميوس أن هذا الأمر هو من قبل الله. وبعدما انتهى من جمع الأغصان رجع إلى موضعه.