سيرة القديس باخوميوس – الجزء الرابع
صلاة باخوميوس:
100. حدث مرة أن ذهب الأخوة فى خدمة خارج الدير، ولما رجعوا أخبروا آبا باخوميوس بأن هناك مجاعة ووباء فى العالم، الأمر الذى يهدده بالخراب فى ذلك الوقت. فلما علم بذلك صام يومين متتاليين وقال: “لن أذوق طعاما، مادام بقية أعضائي (أخواتي الذين في العالم) يعانون المجاعة، ولا يجدون خبزا ليأكلوه.” وهكذا أقمع جسده جدا وقت المجاعة بالصوم الزائد والصلاة الدائمة متذكرا قول الإنجيل : “إن كان عضو يتألم فجميع الأعضاء تتألم معهوكان يصلى إلى الله بلجاجة أن يصعد مياه الأنهار إلى مقدارها، حتى يرجع الرخاء إلى الأرض، ويجد الناس طعاما وخبزا، فيعيشون يشكرون الله ويصنعون مشيئته.
101. فى كل مره كان يصلى آبا باخوميوس كان يتذكر وصية الرسول القائل: “فأطلب أول كل شئ أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس. لأجل الملوك وجميع من هم فى منصب لكى نقضى حياه مطمئنة هادئة فى كل تقوى ووقار. وهكذا كان يصلى من أجل كل العالم، أولًا من أجل الرهبان والعذارى لكى يمنحهم الله المعونة ويكملوا نذر البتولية من كل قلوبهم، فكان يصلى لأجلهم قائلا: “أيها الرب الإله ضابط الكل، نسبحك ونطلب إليك أن تمنحنا أن نكمل جهاد هذه الخدمه(الرهبنة) بسلام ونكون مستحقين أن تسكن فى أجسادنا وأرواحنا ونفوسنا، فنصير كاملين فى محبتك ونسلك دائما أمامك، عاملين مشيئتك الصالحة، حتى لا نخطئ إليك ونحزن الروح القدس الذى به ختمنا بل نكون أطهارا وبلا نجاسة كل أيام حياتنا، فنستحق بنعمتك ميراثك الأبدي، وملكوتك الدائم أيها الرب الإله محب البشر.
كما كان يصلى من أجل المتزوجين، لكى يتمموا وصايا الله المدونة فى كتابه المقدس، فيصير لهم نصيب فى الحياة الأبدية. وكذلك كان يصلى من أجل فئات ثلاثة من الناس. الفئة الأولى الذين بدأوا فى فعل الصلاح ولكنهم لم يكملوا بسبب اهتمامات العالم الباطلة التى سمحوا لها أن تعيقهم عن ذلك. فكان يطلب لأجلهم أن يمنحهم الله الحرية ويفك أسرهم من سلطان هذا العالم الباطل، فيصنعوا مشيئة الله ويهربوا من العذاب الأبدي. والفئة الثانية، أولئك المخدوعين بضلال الشياطين ومكرهم دون معرفة، تابعين الهراطقة الذين أضلوهم، فكان يصلى لأجلهم حتى يعطيهم الله الفهم الصحيح والمعرفة، فيصنعوا ثمارا تليق بالتوبة ويقبلون فى قلوبهم وعقولهم البر المعلن من الله، وأن يشرق عليهم بنور شمس الإيمان الصحيح فيضئ لهم الطريق ويقودهم فى كل أعمالهم.
أما الفئة الثالثة فهم أولئك الذين فى منصب على الأرض حتى يقضوا بعدل ويتم فيهم قول سليمان الحكيم: “بي تملك الملوك وتقضى العظماء عدلا. وأن يجعلهم الله محبين له وللناس أيضا ويكونوا متشبهين بالله الذى كتب عنه: “المجرى حكما للمظلومين. المعطي خبزا للجياع الرب يطلق الأسرى. كما كان يطلب لأجلهم أيضا أن يكون لهم نصيب مع القديسين الذين أكملوا مشيئة الله وصنعوا مسرته، فيهتفوا مع إشعياء النبى: “الرب قاضينا. الرب شارعنا. الرب ملكنا هو مخلصنا. وكذلك لكى يحتقروا ملك العالم الزائل، الذى لا يدوم إلا لفترة من الزمن، ويتذكروا ملكوت السموات الدائم الذى لا نهاية له، ويكون لهم نصيب مع الملوك والأبرار داود وحزقيا ويوشيا.
كما كان يداوم على الصلاة أيضا من أجل الأكليروس فى الكنيسة الجامعة وكان يقول عنهم: “رغم أنهم آبائى، لكنني أرى من واجبي أن أصلى عنهم لأن الرسول يدعونا أن نفعل هكذا قائلا: مصلين فى ذلك لأجلنا نحن أيضا ليفتح الرب لنا بابا للكلام. وهكذا كان يصلى لأجل الجميع.
إهمال عشر رهبان:
102. فى دير فابو كان يوجد عشرة أخوة، يعيشون بإهمال وتوانٍ، كما كانت قلوبهم أيضًا مملوءة بالشر، الذى زرعه الشيطان فى قلوبهم، وكنتيجة لذلك، كانوا لا يثقون فى تعاليم آبا باخوميوس التى يعطيها للأخوة، بل وأكثر من ذلك فقد بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يقاومونه علانية، حتى صاروا مصدر تعب له زمانا طويلا. ورغم علمه بأنهم لا يسلكون مسلك الكمال اللازم إلا أنه راح يصلى إلى الله من أجلهم ويطلب إليه نهارا وليلا أن يخلصهم ويردهم إلى الحق. وحدث بينما كان يصلى من أجل خلاصهم، أن غضب الرب على بقية الأخوة ورأى آبا باخوميوس وكأن ملائكة ينتقمون من جميع الأخوة بسبب أولئك المتوانيين.
فجاء أحد الشيوخ وتحدث مع آبا باخوميوس وقال له: “لماذا تضطرب وتقلق لأجل هؤلاء الأخوة؟ يمكنك أن تطردهم من وسطنا حتى لا يحل غضب الله علينا بسببهم. وها أنت قد صبرت عليهم طويلا ومع ذلك لم يقدموا توبة.” فأجابه آبا باخوميوس: “يالك من إنسان شقى ضيق الأفق ما هذه الكلمات التى تنطق بها؟ كيف أطردهم من وسطنا؟ ألم تقرأ عن موسى النبى وما فعله حين قدم نفسه عوضا عن أولئك الذين سقطوا وقال: “والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت. ولم يوافق آبا باخوميوس على طردهم بل احتملهم فى صبر، متأنيا عليهم حتى يقودهم للتوبة ويسير بهم نحو خلاص أنفسهم.
وفى أحد الأيام تقابل مع أحد هؤلاء العشرة وسأله بكل بشاشة: “كيف حالك الآن يا ابنى؟ وكيف حال أخوتك؟” أجابه الأخ: “بنعمة الله وببركة صلواتك، الآن نحن نحيا فى سلام وراحة.” فقال له رجل الله: “إن الشيطان مثل الجندى الذى يريد أن يدخل بيتا ليحتله، فإنه أولا يسبب اضطرابا لذلك المنزل من الخارج، ولكنه لن يقدر على الدخول مادام البابا موصدا من الداخل بإحكام، ولكن متى خاف الذين بالداخل وفتحوا الباب فحينئذ سوف يدخل ويستريح ولن يسبب إزعاجا، لأنه قد دخل وامتلك، فهكذا الحال معك، فانك عندما كنت غالقا باب قلبك مقاوما أعمال إبليس كان يضايقك، ويسبب لك قلقا، أما الآن فبعد أن فتحت له الباب، أصبح مسيطرا عليك من الرأس إلى القدم، ولأنك تتمم مشيئته على الدوام لذلك فهو لا يضايقك البتة.” عندئذ سأله الأخ: “وهل من الممكن أن يفارقني الروح الشرير، وأستطيع بعد ذلك أن أتمم مشيئة الله، وأهرب من الغضب الأبدى؟” أجابه آبا باخوميوس: “طالما عدم الإيمان يملأ قلبك، فحتى لو صمت يومين يومين وصليت كل يوم من المساء إلى الصباح فلن يفارقك الروح الشرير، أما إذا آمنت أن الكلمة التى أقولها لك هى من الله، فإنني أؤكد لك أن الروح النجس سيرحل عنك حالا، وعندئذ تحيا فى سلام الله.” فلما سمع الأخ ذلك الكلام، تركه ومضى، وبدأ يصوم ويصلى، ولكنه مع ذلك لم يتخلص من الشك فى رجل الله آبا باخوميوس، بل ظل فى عدم إيمانه حتى مات.
رؤية باخوميوس لجهنم:
103: كان أيضًا ذات يوم أن كشف الرب رؤيا لأبينا باخوميوس فتطلع ورأى مثال جهنم مُظلمة مُدْلهمة وفيها أعمدة منتصبة. من كل ناحية تصدر أصوات تصيح: “هوذا النور ها هنا عندنا”. أما الرجال الذين يسيرون في الظلمة المخيفة يسمعون الأصوات التي تصيح قائلة: “هوذا النور ها هنا عندنا” فيجرون في كل إتجاه في بحثٍ عن ذلك النور. فإذا تقدموا للأمام بحثًا عنه، سمعوا الأصوات من خلفهم تصيح: “هوذا النور ها هنا عندنا” فيبدأون من جديد بحثًا عن ذلك النور، ويتبعون تلك الأصوات. يرى باخوميوس في رؤياه البعض الذي يدور حول كمن حول عامود، راغبًا في التقدك للأمام وهو لا يعلمون إنهم يديرون في الفراغ. يظنون إنهم قطعوا شوطًا تجاه النور، في حين إنهم يديرون حول العامود ذاته. فتطلع باخوميوس إلى رباط الشركة الذي يجمع رهبانه، فراى أربعة رجال يسيرون في المقدمة ويحملون سراجًا صغيرًا يمكنهم من السير في الظلام، في حين لا يرى الأخرون شيئًا بسبب كثافة الظلمة. فتماسكت المجموعة معًا، واحدًا خلف الآخر، خلف الأربعة رجال الذين في المقدمة الذين يحملون السراج المنير ويتوجهون إلى النور. إذا ما كف إنسان على التمسك في الشخص الذي قدامه فإنه يتيه في الظلمة الحالكة وجميع الذين يتبعونه. هناك إنسان يقال له بانشويس، كبيرًا في الإخوة وآخرين قد تخلوا عن التمسك بأولئك الذين في المقدمة. فكان باخوميوس في رؤياه يصرخ إليهم، كلٍ واحد باسمه، محذرًا إياه من عدم التمسك بالأخ الذي أمامه حتى لا يتيه في الظلمة المخيفة. تماسكت الجماعة، كل أخٍ خلف الآخر، حتى وصل الجميع إلى النور العظيم.
عندما نظر باخوميوس الرؤيا اعلموه إن هذا الجحيم يمثل العالم والظلمة الذي تملئه هي الضلالات التي تسوده والذي يضل فيه الأنفس الضعيفة. أما الصوت الذي يصرخ بالقول: ” هوذا النور ها هنا عندنا” فهي مختلف الهرطقات والبدع التي تسود العالم. وكل بدعة تدعي إنها تملك الحقيقة وإن النور عندها. الأعمدة التي يجول حولها الأنفس الضعيفة هي محتوى البدع والهرطقات التي تظن إنها تملك الحقيقة وتعلن ذلك للشعب إن الخلاص لديها وهي في الحقيقة تضلهم. أما الأخوة القادة الذين في المقدمة فهم الذين يحبون الرب ويسيرون على درب الإيمان المستقيم، فهم يمشون معًا لأنهم جميعًا واحد في المسيح يسوع.
اِعلموا إن الذين تخلوا عن الإخوة هم الأساقفة الذين تخلوا عن الإيمان المستقيم وشاركوا الهراطقة بدعهم وأفكارهم فضلوا كثيرين. أما الذين لم يتخلوا عن ركب النور، فهم الذين لم يشكون، حسب قول الكتاب: “الويل من تأتي منه الشكوك”. أما النور الذي يهدث الإخوة فهو بشرى الإنجيل، الحق الإلهي. فالذي يترك ذاته وينقاد بإرادته إلى الشهوات الكثيرة فهو غير طاهر. الذي لا ينظر نور مجد المسيح الذي هو صورة الله يسير في الظلمة، أما من ينظره فهو يملك حبة الخردل الذي تعمل فيه لأجل ملكوت السموات.
عندما رأى أبينا باخوميوس هذه الرؤية استدعى الأخوة الذين راهم في الرؤيا يتخلون عن التمسك بالأخوة وينفصلون عنهم وحثهم على الالتزام بالتمسك بمخافة الله لينالوا الحياة. لكن هؤلاء تمسكوا بأفكارهم حتى تغربوا عن الطريق القويم.
تعاليم باخوميوس:
104. كان آبا باخوميوس حريصًا على تعليم الأخوة طريق القداسة، ساهرًا على خلاصهم، مثل البستانى الأمين الذى يهتم برعاية الكرمة وحراستها من الحيوانات واللصوص والطيور، التى تحاول أن تخطف الثمر. لأنه مكتوب : “إن كرم رب الجنود هو بيت إسرائيل. وقد أعطاهم آبا باخوميوس بعض التعاليم مكتوبة لكى يسلكوا بمقتضاها، وبعضًا آخر شفاهًا كتقليد يحفظوه فى قلوبهم. وبعد أن ثبتهم فى كل وصايا الإنجيل، وضع لهم عقوبات على كل من يخالف الأوامر التى تعطى له. وذلك من أجل خلاص نفوسهم، حتى يغفر لهم الرب الإهمال الذى ارتكبوه بسبب عدم طاعتهم.
كما أعطى تعليمات أخرى لأولئك المسئولين عن الأخوة آمرًا إياهم ألاَّ يتحدثوا مع الأخوة فى أى أمر من الأمور العالمية (التى يرونها فى أثناء وجودهم فى مأمورية خارج الدير). وأوصاهم أنه متى أعطاهم أحد من الناس رسالة أو شيئًا مكتوبًا لكى يوصلوه إلى أقاربه من الأخوة، فلا ينبغى أن يوصلوها له مباشرة، بل عليهم أن يذهبوا أولًا إلى أب الدير ويخبروه بذلك، فيبحث الأمر جيدًا، فإذا وجد أن الأمر فيه منفعة لذلك الأخ فإنه يخبره به، وإلا لا يعلمه شيئًا البتة.
وبين الأخوة لم يكن هناك خصام أو شجار، لأن سلوكهم كان وفقًا للقانون الإلهى، ولم يكن كذلك أحد منهم يهتم بأمور العالم، بل على العكس كانوا يسلكون وكأنهم استوطنوا السماء وهم لا يزالون هنا على الأرض.
105. حدث بينما كان يسير، أنه سمع أحد الأخوة، الذى امتلأ قلبه بالأفكار الجسدية يتحدث مع الأخوة قائلا لهم: “إن هذا هو وقت حصاد العنب.” فغضب رجل الله ووبخه بشدة قائلا له: “أيها الشقي ألا تعلم أن الأرواح الشريرة ما زالت تجول وسط الناس ملتمسة أن تجد مكانا بينهم، فلماذا إذن أعطيت لمثل تلك الأرواح الشريرة مكانا فى قلبك حتى تدخل وتتحدث من خلال فمك؟ ألا تعلم أنك بذلك جعلت الآخرين يشتهوا ثمار ذلك العنب، فأصبحت أنت غريبا عن الله، لأنك تسببت فى عثرة الآخرين؟ ألم تقرأ: “وإن حصلت أذية تعطى نفسا بنفس؟ أو لم تسمع كلمات الرسول القائلة: “لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطى نعمة للسامعين؟ ألا تعلم أن الكلمة التى قلتها الآن ليست بانية للأخوة، بل على العكس هى سبب هلاك وسقوط لكثيرين؟ وعموما من الآن أنا أحذرك من أن تنطق كلمة غير نافعة أو رديئة أو هادمة أو غبية وإلا صارت هذه الكلمة هى نفسها سبب هلاك لك قدام الله.
وأنا أعطيك مثالا على ذلك وكيف أن الله يغضب على أولئك الذين ينطقون كلمة ردية وسط الأخوة. فإن ذلك يشبه إنسانا غنيا دعا كثيرين إلى وليمة فى بيته لكى يأكلوا ويشربوا ويفرحوا وبينما هم جالسون على المائدة، إذ بهم يلقون الأواني على الأرض ويكسروها عمدا. فيغضب ذلك الغنى عليهم ويوبخهم ويقول لهم: “أيها الأشقياء غير الشاكرين، لقد دعوتكم إلى منزلي لتأكلوا وتشربوا، فلماذا تعبثون هكذا، وتلقون بالآنية على الأرض، وتأكلون فى غير شكر أو وقار؟” فهكذا كل من يحيا تحت نير الحياة الرهبانية، ويتكلم كلاما رديا، فإنه يجلب على نفسه غضب الله. وتذكر جيدا مدى المجد الذى ينتظر أولئك الذين عاشوا فى حياة الشركة وسلكوا حسنا مع بعضهم وتحملوا كل صنوف الآلام التى قبلوها طوعا بإرادتهم، وأيضا مدى الخسارة التى تنتظر أولئك الذين سلكوا رديا لأن الراهب يشبه البحار الذى يخوض البحار فإنه حتما سيكسب كثيرا ويصير غنيا جدا، ولكن إذا غرقت المركب، فإنه ليس فقط سيفقد كل ثروته بل أيضا سيفقد حياته كلها. هكذا الحال أيضا بالنسبة للراهب الذى يسلك بكل طهارة وطاعة واتضاع وخضوع، ولا يعثر أحد من الأخوة بكلمة يقولها أو فعل يأتيه، فأنه لا شك سيصير غنيا فى الملك الإلهى الذى لا يفنى ولا يضمحل. أما الراهب المتواني الذى يتسبب فى عثرة الآخرين، فالويل له لأنه سيخسر نفسه، وضيقات كثيرة ستحل عليه، علاوة على أنه سيحاسب أيضا عن النفوس التى تسبب فى عثرتها وسقوطها. أما بخصوص القادة فى حياة الشركة فإنهم يشبهون من يبيع الخضروات أو الخبز أو شيئا من ذلك فى السوق فإنه لن يصير غنيا من مجرد ربح يوم واحد فقط، هكذا أيضا مع النساك الذين يقودون الآخرين فى حياة النسك، فهم مسئولون على الدوام عنهم، بالقدوة الصالحة الدائمة، وبذلك تصير لهم مكانه كبيرة فى ملكوت السموات، ليس بسبب رتبه أو مركز ولكن بسبب الطهارة والنقاوة التى مارسوها وسلكوا فيها. لأن مكافأة الصوم والصلاة والتداريب التى يسلك فيها الإنسان بسبب حبه للمسيح هى النصيب الصالح فى ملكوت السموات.
أما عن أولئك الأخوة المتضعين والمحتقرين الذين يسلكون بطهارة قلب، فحتى لو لم يمارسوا تدريبا كثيرة أو نسكيات عديدة، ولم يصلوا بعد إلى الكمال المنشود، إلا أنهم يشبهون الخدام الذين يعملون لدى الملك، ولهم حرية التنقل داخل القصر والوقوف كل حين أمام الملك، بخلاف أولئك الذين هم فى المناصب فى المملكة، فإنهم لا يمثلوا أمام الملك ما لم يدعون لذلك. فهكذا أيضا المتواضعون والمزدرى بهم فى حياة الشركة، هم كاملون فى ناموس المسيح بسبب ثباتهم وخضوعهم للكل من أجل الرب فهم لذلك معتبرون أحسن من أولئك السالكين فى كمال النسك، لأنهم يتممون وصيه الرسول القائل: “أطلب إليكم أن تسلكوا… بكل تواضع. وكذلك قوله: “كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض متسامحين كما سامحكم الله أيضا فى المسيح.
تمييز الغير طاهرين:
106. فى أحد الأيام بينما كان آبا باخوميوس يصلى فى أحد الأماكن، إذ به يرى فى رؤيا عذاب أولئك الذين يحلون نذر بتوليتهم ويصيرون زوانا، كما هو مكتوب فى الإنجيل: “والزوان هو بنو الشرير أولئك الذين دنسوا صورة الله ولطخوها بالنجاسة. قد كان آبا باخوميوس يتصرف مع مثل هؤلاء بحكمة، إذ لم يكن يعزلهم عن الحنطة فى الحال، بل كان يحاول معهم لكى يردهم إلى طريق القداسة ويقودهم إلى حياة التوبة، وبذلك يختطفهم من شراك الشيطان، متمما قول الرسول: “أيها الأخوة أن إنسبق إنسانا فأخذ فى ذله ما فاصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة ناظرا إلى نفسك لئلا تجرب أنت أيضا. أما إذا رفض أولئك الأشرار التوبة ولم يقبلوا نصائحه ومحاولاته لردهم وأصروا على عنادهم وسلوكهم الرديء فقد كان ينزع عنهم ثياب الرهبنة ويلبسهم الملابس العلمانية ويطردهم من وسط الأخوة عالما أنهم قد صاروا أبناء للهلاك.
107. فى أحد الأيام ذهب الأخوة إلى الإسكندرية، ومعهم بعض القفف لكى يبيعوها هناك ويشتروا بثمنها ما يحتاجه الأخوة المرضى. وحدث بينما هم فى طريقهم للعودة، قابلهم ثلاثة أشخاص يرغبون فى الرهبنة. فأركبوهم معهم فى السفينة وجاءوا بهم إلى دير فابو.
ولما وصلوا إلى الدير استقبلهم آبا باخوميوس وقبلهم جميعًا، وبعد أن استفسر منهم عن حال الكنيسة المقدسة الجامعة التى للمسيح وسلامها، سأل مقدم الأخوة قائلًا: “لماذا أتيت بالزوان إلى هنا؟” فأجاب الأخ المسئول باتضاع شديد: “يا أبى القديس، وهل أنا مثلك أعطيت موهبة التمييز بين الصالح والشرير؟” عندئذ استطرد آبا باخوميوس قائلًا: “إن هذا الإنسان بسبب أعماله الأثيمة التى اقترفها منذ صبوته، وبسبب النجاسات التى ارتكبها أمام الله قد صار زوانًا، وعسير على مثل ذلك الإنسان أن يحيا فى البر، مالم يجاهد فى أصوام عديدة وصلوات كثيرة ونسك عظيم وسهر دائم وعلى العموم ما دمت قد أحضرته معك فإننا سنقبله مع الاثنين الآخرين لئلا لو رفضناه، نثبط همة الآخرين فيرحلا هما أيضًا. وبخصوصه فإننا سوف نلاحظه باستمرار ونوضح له الطريقة التى بها يسلك لكى يخلص، لئلا يسلك هنا فى الشر الذى كان يحيا فيه قبل مجيئه، فإذا هو تاب ورجع فإننا سنقبله راهبًا بيننا ونجعل له مكانًا فى وسطنا، وإن لم يرجع فإننا نطلقه إلى المكان الذى جاء منه. لكننا لن نطرده الآن لئلا نحزن الاثنين الآخرين فتتأذى نفساهما وعندئذ يلومنا الله على ذلك، لأنه ما الحاجة أن نبقى هنا معنا أناسًا أشرار لم يضعوا فى قلوبهم أن يتوبوا أمام الله؟ وإن كنا فى الواقع قد طردنا هذا العام ما يقرب من مائة أخ، رغم أن عدد الأخوة جميعًا بالكاد قد وصل إلى ثلاثمائة وستين.” وعندئذ سأله الأخ المسئول: “ولكنك يا أبى لو لم تطرد أولئك الذين تحدثت عنهم، أما كان عدد الأخوة قد تزايد، وصارت الشركة أكثر وفرة؟” فأجابه آبا باخوميوس: “كلا على العكس، فإننى لو أبقيتهم، لقل عدد الرهبان، لأنه عندما يزداد عدد الأشرار، فإن غضب الله سيحل على المكان بمن فيه من أبرار وأشرار، والكل سيصير تحت اللعنة.” فاستمر الأخ فى أسئلته قائلًا له: “إننى أود أن أعرف منك ماهو المقصود بالكلمة التى قلتها عن ذاك الأخ أنه زوان؟ وهل نفهم من ذلك أنه ولد بطبيعته شريرًا؟ وإن كان الأمر كذلك، فما هو ذنبه؟” فأجابه آبا باخوميوس: “إن كل إنسان قد خلقه الله يملك القدرة على أن يختار بين الخير والشر رغم وجود الطبيعة الشريرة فى طفولته التى ورثها عن آبائه، لأن الإنسان يملك حرية الإرادة التى بها يستطيع أن يتغلب على ذاته ضد الشهوات التى تحاربه. فإن كانت توجد نساء كثيرات قد استطعن أن يتغلبن على طبيعتهن، ومارسن حياة النسك والبتولية، حتى نهاية حياتهن رغم طبيعتهن النسائية الضعيفة، فكيف يكون الحال مع الرجل الذى خلقه الله على صورته ومثاله وذوده بالقوة الطبيعية فهو لا شك حتى لو غلب من شهواته، فهو قادر، بإرادته وقوة عزيمته أن يسيطر على تلك الشهوات ويغلبها ويطردها بعيدًا. إن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله قد خلق الإنسان على أكمل صورة، ولكنه بإرادته قد اتجه نحو الأفكار الشريرة وأغضب الله الذى خلقه، وبإرادته أمال قلبه إلى الأثم والنجاسة والرغبات والأحاديث الباطلة والهزء والسخرية، كما قال سليمان الحكيم: “الله قد صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا مخترعات كثيرة، فالإنسان حتى لو ورث الشر من والديه، فإنه يعمل بعمل النعمة وإرادته الحرة يملك إمكانية التغيير مهما كانت طبيعته. وحزقيال النبى يؤكد ذلك فى قوله: “فإن ولد ابنًا رأى جميع خطايا أبيه التى فعلها فرآها ولم يفعل مثلها.. ورفع يده عن الفقير ولم يأخذ ربا ولا مرابحة بل أجرى أحكامى وسلك فى فرائضى فإنه لا يموت بإثم أبيه حياة يحيا. وهكذا متى سلك الإنسان بطهارة قلب فإنه سيعود حتمًا إلى القوة التى خلقه الله عليها، وعندئذ لن يسقط فى أية خطية أو إثم، وكذلك هو متى أراد أن يسلك فى خوف الله، فإنه يستطيع أن يحيا الحياة الزوجية الطاهرة، بعيدًا عن النجاسة والدنس قانعًا بزوجته فقط، أما إذا كان هناك إنسانًا شغوفًا بحياة الكمال كقول بولس الرسول: “جدوا للمواهب الحسنى. فإنه يستطيع أن يعيش الحياة الملائكية الطاهرة، فيصير راهبًا يخدم الرب كل حين فى نقاوة وبر، وحينئذ سيملأه الروح القدس، ويقدسه بالتمام.”
فلما أكمل آبا باخوميوس أقواله تلك، قال له الأخ: يا سيدى الأب، بعد أن أجبتنى على أسئلتى مبرهنًا عليها من الأسفار المقدسة، فإننى الآن أود أن أسألك، لماذا رفضت الأعداد الكبيرة التى جاءت للرهبنة ولم تقبلهم؟ ما الذى دعاك لرفض هذه النوعيات؟ قائلًا عنهم: “أنه لا توجد لهم توبة. وأنهم لم يأتوا بكل قلوبهم لكى يصيروا رهبانًا؟” فأجابه باخوميوس: “هل تعتقد إننى أحتقر صورة الله؟ ليس الأمر كذلك، بل وحاشا لى أن أقلل من قدر الناس وأسئ الظن بهم. لكن أولئك الذين رفضتهم هم مثل الزوان كما قلت عن ذاك الذى أحضرته معك، لأن هذه النوعية من الناس من العسير عليهم حقًا أن يخلصوا فى حياة الشركة، بسبب الشهوات الجسدية المسيطرة عليهم، حيث أنه من المستحيل على إنسان ما أن يصلح من شأنهم ويحولهم عن طريق الخطية والدنس التى سلكوا فيها، ما لم يكن الله ساكنًا فى ذاك الإنسان. ومثل هؤلاء لو أنا كشفت خطاياهم وسلوكهم للأخوة حتى يصلوا عنهم أمام الله، أخشى ليس فقط عدم الصلاة لأجلهم، بل وأيضًا أن يحتقرهم الأخوة ويزدروا بهم، ويرفضوا الأكل والشرب معهم. كما أنه من أسباب رفضهم، هو خوفى من أن يسقط أحد الأخوة فى الخطية بسبب تأثره بهم، فيتقسى قلبه بالخطية ويقع حينئذ فى شباك إبليس.
ومن جهتى فإننى أحيانًا أقبل من تلك النوعيات واحدًا أو اثنين على الأكثر، وأظل أجاهد معه بشدة حتى أخلصه من يد العدو، فأذهب إليه دائمًا وافتقده الليل مع النهار حتى يخلص أو يفتقده الرب وينتقل من هذا العالم. وذلك إتمامًا لوصية الإنجيل أن يحمل بعضنا أثقال بعض حتى نخلص. ومن الأسباب القوية الأخرى لعدم قبولى للبعض، إنني خشيت أن أعمل مثل الفلاح الذى أراد أن ينقى كل أرضه البور والرملية والشوكية، فانشغل بها وترك الأرض الجيدة مهملة فى حالة بوار، لعدم قدرته على الاهتمام بالجميع فى آن واحد، هكذا أنا أيضًا قد عزمت فى قلبى ألاَّ أشغل ذاتى بهؤلاء القوم الذين يعيشون فى النجاسة، لأنه قد يقودنى ذلك إلى إهمال الأخوة الآخرين الذين يعيشون فى الطهارة، فيؤدى هذا الإهمال إلى جنوحهم نحو النجاسة وحياة الخطية. ولكننى بنعمة المسيح أدرب النفوس الطاهرة على السلوك فى وصايا الملكوت والحياة الأبدية، كما إننى أبذل الجهد مع أولئك الذين استطعت أن استردهم للحياة حتى أعبر بهم من الطرق الردية إلى طريق الصلاح الإلهى.
أما من جهة أولئك الذين لم أقبلهم، فإننى بالرغم من ذلك أقول لكل واحد منهم: “رغم أنك ارتكبت هذه الشرور فى جهل وغباوة قلب، فإنه توجد لك توبة، ولكن ليس فى حياة الشركة، ويمكنك أن تذهب إلى مكان منفرد وتمارس هناك حياة النسك والتقشف فى صوم وصلاة أمام الله ليلًا ونهارًا، باكيًا بدموع غزيرة من أجل آثامك الكثيرة التى أحزنت بها قلب الله، حتى يخلصك الرب ويمحو كل آثامك. اسهر على نفسك وراقبها جيدًا حتى لا تعود إلى حياة النجاسة مرة أخرى، ولا تطيع الأفكار الشريرة التى يلقي الشيطان بذارها فى قلبك. هذه الكلمات وضعتها فى أذن كل واحد منهم حتى أكون بريئًا من دمهم أمام الرب فى يوم الدينونة، وحتى لا يتهمونى بأننى لم أعطهم مكانًا للتوبة أمام الله.”
أما عن الأخ الذى جئ به من الإسكندرية والذى قال عنه آبا باخوميوس أنه من الزوان، فقد سمح له أن يكون له مكانًا بين الأخوة، وبعد أن وضع عليه تداريبًا روحية متنوعة فى النسك والرياضات الروحية، حتى يستطيع أن ينجو من العذاب الأبدى. وأوصاه بشدة أن يصوم كل يوم حتى المساء وألا يأكل طبيخًا قط، وقال له: “إذا شعرت يومًا ما بضعف، فلا تصدق نفسك أنك مريض إلا بعد أن تخبرنى، وأنا سوف أبحث الأمر حتى أعرف هل هذا الضعف من الله أم هو فخ من الشيطان قد نصبه لك حتى يقتنصك لذاته من خلال سقوطك فى الخطايا التى سقطت فيها قبلًا فى العالم قبل مجيئك. فمتى اتضح لى أنه مرض من قبل الرب فإننى سآمر الأخوة المسئولين عن المرضى أن يعتنوا بك حتى تعافى. ولكن فقط عليك من اليوم فصاعدًا أن تحفظ جسدك ونفسك طاهرين، ولا تعطى للشرير فرصة أن يلقى الأفكار الدنسة فى قلبك. ابذل كل جهدك فى السهر والصلاة وذرف الدموع الغزيرة أمام الرب، وبذلك لن يجد الروح النجس الذى جعل منك مسكنًا له، مناصًا من الرحيل عنك. كن متواضع القلب وقل لنفسك متى أتممت كل الوصايا التى أوصيت بها فإننى بالكاد استحق أن أحيا وأنجو من النار التى لا تطفأ والدود الذى لا يموت. ومتى رأى الأخوة نسكك وجهادك ومدحوك على ذلك، وهم لا يعرفون ماضيك والآثام التى اقترفتها، ارفع قلبك وصلى قائلًا: “ياربى يسوع إنهم لو علموا مدى الأعمال النجسة التى فعلتها أمامك ليلًا ونهارًا، ومدى الأدناس التى أخطأت بها إليك، فلن يكفوا فقط عن مديحى بل وأيضًا لن يفكروا أن ينظروا حتى إلى وجهى، بسبب رائحة الخطايا الكريهة التى عملتها قدامك.” واستمر آبا باخوميوس يوصيه قائلًا: “راقب نفسك جيدًا ولا تسمح لأفكار الغرور والكبرياء أن تدخل إلى عقلك، لئلا تزود رصيد خطاياك وتطرح بعدئذ فى العذاب الأبدى، وإذا أهانك أحد أو سبب لك ضررًا، فاحتمل ذلك فى شكر وقل فى نفسك: “إننى كثيرًا ما أغضبت الله بأدناسى وأعمالى الأثيمة.” كذلك أيضًا عليك أن تكون خاضعًا لكل الأخوة سالكًا بكل وداعة. ولا تكن متذمرًا قط بل كن ملتزمًا بكل قوانين الشركة المرسومة لنا. ومتى نظر الله دعتك وجهادك فحينئذ سيتحنن عليك ويمحو كل آثامك، ولا يعود يذكر أدناسك ورجاساتك التى صنعتها أمامه وعندئذ ستنجو من العذاب الأبدى. وكل ما تفعله ليكن دافعه خوف الله، ولا تعمل شيئًا من أجل كسب مجد من الناس، لئلا يضيع كل تعبك باطلًا. ويملك عليك الشيطان ثانية وترجع وتصير خادمًا له.”
فلما سمع الأخ هذه الوصايا من آبا باخوميوس، بذل قصارى جهده فى حياة التقشف والنسك حتى تعجب الأخوة. على أن أحدًا لم يكن يعرف أن هذا النسك كان بناءًا على وصية الشيخ له. بل كانوا يظنون أنه يفعل ذلك من ذاته. كما لم يكن هناك أحد يعلم شيئًا عن حياة النجاسة التى عاش فيها قبل مجيئه للدير، سوى آبا باخوميوس ومقدم الأخوة الذى جاء به من الإسكندرية، وكان الأول قد أوصى الأخير ألا يخبر أحدًا بماضى هذا الأخ.
وقد كان ذاك الأخ شابًا قوى البنية، وهو قد استمر فى حياة النسك والتقشف لمدة تسع سنوات، ولكن للأسف لم يكن دافعه هو التوبة وخوف الله، لذلك ظلت الشهوات والأفكار الشريرة تملأ قلبه. وكان أنه بعد هذه السنوات التسع النسكية، مال قلبه نحو النجاسة، ووقع مرة أخرى فى حبائل الشيطان الذى أراد أن يسقطه فى نفس الخطايا السابقة، ولكن رجل الله آبا باخوميوس الذى علم بالروح ما نوى الأخ على ارتكابه بعد أن أطاع الشيطان الذى أصبح مسيطرًا عليه لأنه قبل أفكاره الرديئة، وبدأ فعلًا فى تنفيذ تلك الخطيئة الكريهة منفذًا خطة الشيطان أبيه، أن قام باستدعائه وسط جميع الأخوة وسأله عن الأفكار الدنسة التى تدور فى قلبه ليتممها دون خوف من الله. فاضطرب ذاك الإنسان وملأ الخوف قلبه لا سيما لما رآه على وجه آبا باخوميوس من هيبة ومخافة، وللحال أقر بخطيته التى عزم على إتمامها بلا حياء. فما كان من آبا باخوميوس إلا أن قام بطرده من وسط الأخوة، الذين لما علموا بذلك انتابهم خوف عظيم، متعجبين من نعمة الله الساكنة فى أبيهم وانصرفوا وهم يمجدوا الله.
108. حدث فى يوم آخر أن ذهب آبا باخوميوس مع بعض الأخوة جنوبا لجمع بعض نباتات الأسل ولما وصلوا إلى طبانيس أراد أن يزور الأخوة هناك. فدخل مع الأخوة وهم يرددون ما يحفظونه من الأسفار المقدسة. وبينما هو يقبل جميع الأخوة، نظر فرأى أحدهم وقد جرح بسهام الشرير. وفى الليلة التالية صلى إلى الرب قائلا: “أيها الرب الإله القادر على كل شئ، أبو ربنا يسوع المسيح. يا من رتبت هذا المكان المقدس، ليكون مكانا لحياة الشركة المقدسة، هذه الحياة التى تأسست من البدء عن طريق الآباء الرسل الذين أحببتهم واخترتهم. والتي من أجل هذه الحياة أيضا أقمتنا نحن أخيرا لنحيا فيها بكل طهارة، حتى نمجدك ونبارك اسمك إلى دهر الدهور آمين. يا إلهنا الصالح ، المحب ، نسألك من أجل هذا التعس البائس الذى فى وسطنا، الذى تنكر لصلاحك ووجودك، واختار بإرادته أن يصير آنية للهلاك، بدلا من أن يكون آنية للكرامة ومكانا لسكنى روحك القدوس. هذا الذى ألقى معثرة للآخرين، فى بيتك المقدس، محرضا إياهم على قبول الأفكار الدنسة التى ملأ بها الشيطان قلبه هذا الذى صار ابنًا لإبليس، مع أنه لم يكن جاهلا بالأسفار المقدسة، إلى هذه الدرجة، لأنه كان على علم بكل الحقائق الإلهية. وهو نفسه قد علم كثيرين آخرين أن يسلكوا فى طريقك وأن يتمموا مشيئتك الصالحة. وجميع الخطايا والأدناس التى حذر الآخرين منها، قد سقط فيها، وبدون حياء تممها، من أجل ذلك كان هذا الإنسان مستحقا للموت، ولكنني مع ذلك، لن أستطيع أن أفعل شيئا معه والذين تبعوه إن لم تعلن لى إرادتك الصالحة. أيها الرب إله جميع القديسين يا من كشفت شروره وآثامه، أنت القادر أن ترشدني. ماذا أفعل معهم.”
وفيما هو يصلى ظهر له ملاك الرب بهيئة مهيبة وفى يده سيف ناري مسلول خاطبه قائلا: “كما أن الله قد محا أسماءهم من سفر الحياة، هكذا أنت أيضا عليك أن تطردهم من وسط الأخوة لأنهم لم يكونوا جاهلين بما يفعلون، لأن ارتكاب هذه النجاسات، حتى لو كانت بجهل هى بالحقيقة رجس أمام الله.”
وما أن جاء الصباح حتى نزع عنهم ملابس الرهبنة وألبسهم ملابس العلمانيين وقال لهم: “اذهبوا وافعلوا حسب الملابس التى صرتم فيها، لأنكم سرتم وراء ذواتكم.” وهكذا طردهم من وسط الأخوة، وتم فيهم قول هوشع النبي: “من أجل سوء أفعالهم أطرهم من بيتي، ولا أعود أحبهم.
وبعد ذلك جلس مع الأخوة وتحدث معهم بكلمة الله، معلما إياهم خوف الله. واضعا أمامهم مثل الأخوة الذين طردهم، عبرة لهم، الذين صار يذكرهم باكيا بدموع غزيرة من أجل نهايتهم التعسة التى صارت لهم من جراء ارتكابهم الرجاسات أمام الله ليلا ونهارا. ثم قام وصلى معهم. وبعدها عاد كل واحد منهم إلى موضعه بهدوء وهو يردد ما يحفظه من الكتاب المقدس. وكذلك أيضا عاد آبا باخوميوس مع الأخوة الذين جاءوا معه لجمع النباتات. وكل منهم يلهج فى كلمه الله حتى وصلوا شمالا إلى فابو.
شفاء المرضى والممسوسين:
109. وحدث أيضا أن جاءوا له بأحد الأخوة من أحد الأديرة به روح نجس. فلما تكلم معه آبا باخوميوس أجاب الأخ حسنا وكأنه لم يكن به داء قط. فخاطب آبا باخوميوس الأخوة الذين جاءوا معه قائلا: “إننى متيقن أن الروح النجس محتفى فيه ولكنه لا يريد التكلم (حتى لا يظهر) ولكنني مع ذلك سوف أفحص جسده كله حتى يتبين لى فى أى عضو محتفى.” وفيما هو يفحصه، وصل إلى أصابع يديه، وحينئذ قال للأخوة: “أن الروح النجس قد دخل من هنا من أصابع يديه.” وكان أنه لما وصل إلى الرقبة، حيث كان الروح الشرير مختبئا، صرخ الروح الشرير صرخة مدوية، وانتاب الرجل نوبات تشنجية شديدة حتى أصبح من الصعب على الأخوة أن يمسكوه. عندئذ أمسك آبا باخوميوس بذلك العضو، وصلى للرب يسوع المسيح من أجل ذلك الأخ حتى يشفيه. وبينما هو يصلى خرج الروح النجس، وللحال عوفي الرجل وشكر آبا باخوميوس على صلاته من أجله. أما الذين رأوا ذلك فقد مجدوا الله من أجل عظمه أعماله التى يظهرها على أيدي قديسيه.
110. ودفعه أخرى حضر إنسان إلى الدير ليترهب. وقد كان به روح شرير يزعجه كثيرا ويسبب له بعض الأمراض وبالرغم من أن الرجل كان شريف الجنس ذى شهرة واسعة، إلا أنه كان متواضعا جدا. فلما نظر آبا باخوميوس إلى وجهه، علم أن به روحا نجسا، فأخذه على انفراد وصلى للرب من أجله لكى يشفيه. ولكن الروح الشرير أجاب قائلا: ” يا باخوميوس، ماذا تريد منى؟، هل تريد أن أخرج من هذا الإنسان؟ هل منعته أنا من أن يتمم مشيئة الله كاملة؟ إن الرب هو الذى أعطاني هذا الإنسان مسكنا لأبقى فيه إلى أن يموت. وأنت إذا حاولت أن تخرجني منه فاعلم جيدا أننى لن أطيعك، بل سأقتله وحينئذ أخرج منه ولدى القوة التى أحقق بها ذلك”. فلما سمع آبا باخوميوس ذلك، بدأ ثانية فى الصلاة لأجله لكى يشفيه الرب. وبينما هو يتضرع إلى الله لكى يتحنن على ذلك الإنسان ويطرد الروح الشرير إذا ملاك الرب يظهر له قائلا: “يا باخوميوس كفى صلاة من أجل هذا الإنسان، فإن الرب قد سمح له بهذا الداء لأجل خلاصه. لأنه لو نال البرء والشفاء فانه سيرتد ويرجع إلى الوراء.” عندئذ قال باخوميوس لذلك الإنسان: “لا تحزن من أجل ذلك المرض، لأن الرب قد أرسله لك من أجل خلاص نفسك. والآن اشكره على كل شئ قائلًا: “حي هو الرب ومبارك صخرتي ومرتفع إله خلاصي. ومن ذلك اليوم فصاعدا كان متى جاء إليه بعض المرضى بهذا الداء وعلم انهم لن ينتفعوا من الشفاء، كان يقول لهم: “إن ذلك من أجل خلاصكم فقدموا الشكر لله حتى تنالوا الحياة الأبدية.”
111. فى دير فابو كان يوجد أخ يداهمه المرض فى كل ثالث يوم. فجاء إلى أبينا باخوميوس وتوسل إليه بدموع قائلًا: “إنك تشفى كثيرين، يأتون إليك من العالم ولكنك لم تصلى من أجلى قط لكى أشقى من هذا الداء العسير.” فأجابه: “إن أولئك الناس تشفى أجسادهم من أجل إيمانهم. ولكنهم يرجعون للخطية لأنهم قد نالوا راحه من أمراضهم. أما خدام الله فإنهم ينالون الراحة الأبدية فى الدهر الآتى، الراحة التى بلا مرض أو حزن. لأنهم ساروا بإرادتهم بكل شجاعة فى طريق الصليب متممين قول الإنجيل: “من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلى فهذا يخلصها. فلما سمع ذلك الأخ المريض هذه الكلمات من فم أبينا باخوميوس، تشجع وتعزى جدا ولكن لما اشتد عليه المرض بعد ذلك، ذهب ومعه بعض شيوخ الدير إلى أبينا باخوميوس يلتمسون منه الصلاة لأجله، حتى يمن الله عليه بالشفاء، فلما وجد آبا باخوميوس أنه مضطر للصلاة لأجله أراد أن يطيب خاطرهم فللحال أخذ معه أحد الشيوخ الكبار الذين ترجوه وكان مملوءا من محبة الله وذهبا معا إلى مكان ما للصلاة من أجل الأخ المريض. فلما ابتدئا فى الصلاة، جاء صوت من السماء قائلا: “لا تطلبوا من أجل شفاء الأخ المريض. فإن الرب أرسل له هذه التجربة لكى يخلصه من الشهوات الشبابية التى يحاول الشيطان أن يسقطه فيها.” عندئذ كف أبونا باخوميوس عن الصلاة ورجع ومعه الشيخ. وقد ظن آبا باخوميوس أن الأخوة الذين بالخارج قد سمعوا الصوت السمائى. فقال له الأخوة: “لماذا رجعت هكذا سريعا ولم تصل من أجل الأخ المريض؟” فأجابهم: “ألم تسمعوا الصوت الذى جاء من السماء.” فقالوا: “لا.” وقال أيضا الشيخ الذى كان معه: “وأنا أيضا لم اسمع ذلك الصوت.” فأخبرهم آبا باخوميوس بجميع ما حدث وكيف أن ذاك الصوت قد جاء له وهو يصلى. فلما سمع الأخوة ذلك تعجبوا قائلين: “عظيمة هى أعمال الله لأنه صالح ويهتم بكل طالبيه وبدونه لا يحيا كائن قط.
رؤية مضللة:
113. حدث فى أحد الأيام، بينما كان آبا باخوميوس جالسا يعمل فى ضفر الخوص ظهر له الشيطان بنفس الهيئة التى اعتاد الرب أن يظهر له فيها ولما حياه الشيطان تعجب آبا باخوميوس وفكر فى نفسه، “من عسى أن يكون هذا يا ترى؟” ولكنه لما بقى فكر آبا باخوميوس كالعادة ثابتا بدون تغيير، عرف عندئذ أن هذا هو الشيطان فلما رأى الشيطان أن فكره ما زال ثابتا، بدأ فى انتزاع أفكاره منه ولكن باخوميوس قال فى نفسه ثانيه: “كيف إننى لم أعد أفكر؟ بل وأن أفكاري جميعها قد تلاشت؟ وفى الحال نهض واقفا كما أرشده الله، ونفخ فى وجه الشيطان عندئذ بدأ الشيطان يختفي تدريجيا حتى تبخر مثل الدخان، ولما اختفى الشيطان قام آبا باخوميوس للحال وصلى إلى الله قائلا: “مبارك أنت أيها الرب إله القديسين يا من خلصتني من التجارب ومن كل فخاخ العدو.
رحلة إلى الملكوت:
114. ذات مرة مرض آبا باخوميوس وتألم كثيرا. وفى أثناء ذلك اختطفت روحه لتعاين العالم الآخر فلما اقترب من باب الفردوس، أمر الله أن ترجع روحه إلى جسده مرة أخرى فحزن جدا. لأنه لم يرد أن يعود مرة أخرى إلى جسده إذ رأى النور العجيب والجمال البهي غير الموصوف. وفيما هو حزين، اتجه إليه شخص كان على الباب، وكان وجهه مشرقا جدًا ومضيئا وجسمه كله ملتحفا بالنور. وقال له: “يا ابني، أذهب وارجع فقد بقى لك شهادة قليلة فى العالم حتى تكمل جهادك.” فلما سمع ذلك فرح جدا لأنه كم كان مشتاقا أن يصير شهيدًا من أجل اسمه القدوس وأما الملائكة الذين كانوا معه وفرحوا لفرحه فقد أخبروه بأن الذى كان يتكلم معه هو بولس الرسول. ولما أحضروه إلى حيث جسده نظرت النفس إلى جسدها وإذا هو ميت ولكن بمجرد أن اقتربت إليه انبسطت جميع الأعضاء بطريقة سرية ودخلت النفس إلى جسدها مرة أخرى، وعندئذ دبت الحياة فى الجسد وقام حيا. أما الأخوة الذين كانوا معه فقد كانوا جميعا نياما. وفى الواقع ما أكثر المرات التى اختطف فيها آبا باخوميوس إلى الفردوس، ولكن بآيه كيفيه؟ الله يعلم كما قال بولس الرسول: “أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة… أنه اختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها. هكذا أيضا أبونا باخوميوس فقد حمل إلى ذاك الموضع ورأى مدن القديسين والتي من بهائها وعظمتها لا يمكن وصفها. كما هو مكتوب: “ما لم ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه. ولما رأى تلك المدن تذكر ما قاله الرب لعبيده فى مثل الوزنات، للذي تاجر وربح عشر وزنات والذى ربح خمسه وزنات: “ادخل إلى فرح سيدك. وكذلك ما قاله لآخر:” وأنت فلتكن على عشر مدن””ولآخر وأنت كن على خمس مدن.
وهذه المدن تتسم بالهدوء والطمائنينة وأما عن اتساعها فهي بلا حدود ومن جهة أشجار الفاكهة والكروم فهي ذات أثمار روحية، غير فاسدة، وهى إذا ما قورنت بثمار أشجار هذا الدهر فالأخيرة تعد من الحقارة بمكان بحيث أنها لا تساوى شيئا. وليس فى الفردوس شجرة أو نبات قط خاليا من الثمر، بل الجميع يثمر بوفرة والثمر ذو رائحة ذكية عطرة. بحيث لا يستطيع إنسان أن يتحمل شذاها إن لم يكن قد أخذ نعمة من الله.
وأن الحياة فى العالم الآتى تفوق الحياة هنا، وهى تبعد عن الأرض وعن الفلك وأن كل نور الأرض ونور الفلك (الشمس والقمر والنجوم)، لا يساوى شيئا بالمقارنة مع نور الملكوت كما قال اشعياء النبي: “لا تكون لك بعد الشمس نورا فى النهار ولا القمر ينير لك مضئيا بل الرب يكون لك نورا أبديا، وإلهك زينتك. لا تغيب بعد شمسك وقمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورا أبديا وتكمل أيام نوحك.
كما أنه لا يوجد هناك ليل أو نهار حيث هناك النور الكامل الذى لا يغيب قط ومتى قورن هذا العالم به فانه يعتبر لا شئ بالنسبة للعالم الآتى. وخارج الفردوس قليلا توجد أشجار فاكهة وكروم وعنب تشبه تماما تلك الموجودة فى هذا العالم. ولما أبصر آبا باخوميوس تلك الأشجار تذكر الأشجار التى زرعها نوح بعد الطوفان وانه ربما يكون قد أخذ بعضا منها وزرعا فى الأرض ثانية بعد أن غرقت الأرض بالطوفان. حيث تذكر ذاك المكتوب فى سفر التكوين: “وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما وكذلك كان هذا الفردوس محاطا من الخارج بطبقة كثيفة من الظلمة المليئة بأنواع الحشرات المختلفة، حتى أن أحدا لا يستطيع الدخول (إلى الفردوس) ما لم يسمح له الرب بذلك.
سيرة اثنين من الرهبان:
115. حدث بعد ذلك أن حضر أحد الأخوة إلى الدير لكى يصير راهبا. فخرج آبا باخوميوس لكى يراه ويتحدث إليه. فسأله: “هل تريد أن تصر راهبا؟” فأجاب: “لقد كانت هذه رغبتي فى الماضي، ولكن الإهمال قادني إلى الانهماك والاهتمام بهذا العالم الزائل. ولكن منذ فترة وجيزة بينما أنا سائر فى هذا الطريق، سمعت صوتا يناديني باسمي، فأجبت ماذا تريد يارب؟ فتحدث معي الصوت ثانية قائلا لى: إلى متى ستعيش متوانيا هكذا، وترفض أن تتوب عن شرورك؟ هيا قم الآن لتصير راهبا تحت إرشاد باخوميوس الطبنيسى، وجاهد من أجل خلاص نفسك، حتى لا تلقى فى العذاب بعد موتك، بسبب خطاياك. والآن يا سيدى القديس، ها أنا قد حضرت إليك لكى أصير راهبا.” فقال له أبونا باخوميوس: “الآن نحن نفرح معك لأنك تريد أن تخلص، وأطعت الصوت الذى سمعته من قبل الرب. وأنني كأب للدير سأعتني بك فى كل شئ من أجل خلاص نفسك. ولكن عليك أنت آلا تهتم بأمور هذا العالم، بل ضع فى قلبك دائما خوف الله، وأن تعمل جاهدا لأجل خلاص نفسك.” فأجابه ذلك الأخ قائلا: “حينما تخبرني، فإنني واثق بمشيئة الرب، وبصلواتك. إنك سوف تستريح من جهتي.” وحينئذ قبله أبونا باخوميوس ورسمه راهبا عنده. وكان أنه حينما دخل هذا الأخ فى حياة الشركة، ورأى غيرة الأخوة وحماسهم، وعظمة اتضاعهم ومحبتهم لله، أن شحذت همته، وبدأ فى ممارسة حياة النسك والتقشف والسهر طوال الليل، فى صلاة دائمة، وصوم متواصل وكان متواضعا جدا كالطفل فى براءته وبساطته. حتى أنه إذا وبخه أحد أو أهانه، لم يكن يحزن قط أو يتضايق بل كان يقول فى نفسه: “لقد أغضبت الله كثيرا بأفعالي الأثيمة التى كنت أسلك فيها قبلا، ومع ذلك لم يجازني حسب آثامي، ولم ينتقم منى لكثرة شروري بل على العكس من ذلك غمرني بصلاحه وردني إلى طريق الحياة. فكم بالحرى يجب على أن أحتمل الإهانات والتجارب البسيطة التى تأتى على.” وكان إذا رأى أخوة يتخاصمون أو يتعاركون كان يذهب إليهم ويقول لهم باتضاع: “اغفروا لى يا أخوتي، فأنني أنا الذى أخطأت.” عندئذ يكف أولئك عن خصامهم ويرجع إليهم سلامهم . هكذا عاش هذا الأخ لمدة أربعة شهور ثم تنيح بسلام.
116. كان يعيش وسط الأخوة يوم ذاك، أحد الأخوة النساك، وكانت سيرة حياته أنه يصوم يومين يومين، ويحيا فى الوحدة والسكون، ويلبس الملابس الخشنة جدا، ولا يأكل سوى الخبز والملح ولكن مع ذلك كان إذا ما ضايقه أحد أو أهانه بكلمة، تأججت فيه نار البغضة والغضب، ورد الشر بشر مثله. وحدث أن مات هذا الأخ، وفى حين اختطاف الأنبا باخوميوس إلى العالم الآخر ـ كما روى سابقا ـ رأى ذلك الأخ التائب (الذى لبى الدعوة الأخيرة)، الذى كان قد عاش فى حياة النسك والأتضاع لمدة أربعة شهور فقط ثم مات، رآه يحيا فى فرح وسلام. ولما رأى ذلك الأخ، آبا باخوميوس وهو يتمشى مع الملائكة ليكشفوا له بهاء ومجد العالم الآخر، جرى نحوه قائلا: “تعال يا أبى وانظر الميراث الذى وهبني أياه الرب، بسبب التعاليم الصالحة التى علمتني أن أسير فيها.” فأراه الفردوس الروحى ذا الثمار غير الفاسدة، كما رآه ذلك المكان الذى أعطى له ليسكن فيه، وكان جميلا جدا ومملوءا من مجد الرب. ففرح رجل الله جدا من أجله.
وبعد أن خرج باخوميوس ومعه الملائكة من الفردوس البهي إلى الخارج، رأوا ذلك الأخ الناسك الغضوب، يحيا فى مكان شديد القيظ، وهو ككلب موثق فى شجرة ممتلئة بالثمار، يشتهى الثمر ولا يقدر أن يتحرك من شدة وثاقه، فلما رأوه تفرسوا فيه ونظروا إليه فى حسره وألم، أما هو فقد أحنى رأسه خجلا وحياء حتى عبروا، عندئذ قال ذلك الأخ التائب للأنبا باخوميوس: “ها قد رأيت الشيخ الناسك الذى جاهدت لتعلمه وتهذبه، ولكن لأنه لم يسلك باتضاع، انظر الآن فى أى عذاب وألم يحيا، بسبب عدم طاعته.
مرض باخوميوس:
117. دفعة أخرى مرض أبونا باخوميوس، ولم يخبر أحد بمرضه، بل لشدة عزيمته ذهب مع الأخوة ليعمل فى الحصاد، وبينما هو يجمع الثمار معهم إذ به يسقط وسط الرهبان على وجهه، فرفعه الأخوة، وأحضروه إلى الدير، حيث اكتشفوا أنه مريض بالحمى. وهناك رقد على الأرض رابطًا المنطقة على حقويه. فتوسل إليه الأخوة أن ينام على السرير ويفك المنطقة كبقية المرضى.إلا أنه رفض الإذعان لهم وظل راقدًا على الأرض. فجلس بجواره أحد الأخوة يهوى له بغطاء رأسه (قلنسوته) وكان هذا الوباء شديدًا جدًا، حتى أن كثيرين من الأخوة تأثروا به ورزخوا تحت نيره. ولما جاء أحد الأخوة ليسأل عنه، قال لذلك الأخ الجالس بجواره يهوى له: “ألا توجد هناك مروحة للتهوية، حتى أنك تستخدم القلنسوة؟” فلما سمع ذلك أبونا باخوميوس أشار بيده على الأخوة المرضى قائلاَ: “أليس كل هؤلاء مرضى؟ هل ستجد لكل منهم مروحة، حتى تجد لى أنا أيضًا واحدة؟”
118. طال مرض باخوميوس، وكان ذلك خلال الأربعين المقدسة. ولما جاء الأسبوع الأخير( أسبوع الآلام)، وحضر جميع الأخوة من كل الأديرة إلى فابو، حتى يعيدوا الفصح معًا، جاء له ملاك الرب وقال له : “إن الرب سيقبل منك تقدمة عظيمة، فى يوم القيامة.” فظن أن الرب سيفتقده فى سبت النور السابق للعيد. فاستمر صائمًا طوال الأربعة أيام الأولى فى أسبوع البصخة. متأوهًا حزينًا فى نفسه، حتى لا تنحل الشركة بين أديرته من بعده.
وفى مساء يوم الجمعة العظيمة، جمع كل الأخوة وتحدث إليهم كما تحدث صموئيل إلى شعبه فى ذلك الوقت، معلمًا إياهم جميع أحكام الرب، وفتح باخوميوس فاه قائلًا : “يا اخوتي وأبنائي، لقد اقترب الوقت، الذى أذهب فيه إلى طريق الأرض كلها. مثل كل آبائي، وها أنتم تعلمون كيف سلكت بينكم بكل تواضع وإنكار ذات، غير مميز نفسى عن أى أحد منكم فى أى شئ، بل على العكس عشنا معًا كفرد واحد، وأنني لم أخف شيئًا عنكم من أحكام الرب فى هذا المكان المقدس. والرب شاهد على ضميرى، إننى لا أتكلم بهذا لكى أتباهى به أو أفتخر، وعلى ذلك فإنني لن أقول لكم عما فعلته، بل سأكشف لكم عن الأمور التى لم تعلن لكم من قبل حتى تطمئن قلوبكم. الرب يعلم إننى لم أتسبب فى عثرة أى واحد منكم، والقوانين التى وضعتها لكم، إن أهملتموها، ولم تمارسوها فلن تكون هناك راحة لنفوسكم قط. وأنا أقول لكم ذلك لأننى لا أعلم ماذا سيحدث لنا. فالإنجيل يوصينا قائلًا: إسهروا لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة التى فيها يأتى ابن الإنسان. وأنتم تعرفون إننى لم أؤنب أى واحد منكم استغلالًا لسلطان، بل من أجل خلاص نفسه، كنت أقومه. ولا نقلت أحد من مكان لآخر، أو من عمل لآخر إلا من أجل فائدة نفسه ومنفعته، كما إننى لم أجاز عن شر بشر، ولا شتمت قط واحدًا يكون قد شتمنى فى لحظة ثورة أو غضب، بل على العكس كنت أعلمه بطول أناة حتى لا يخطئ إلى الله، وكنت أقول له: “رغم أنك قد أخطأت إلىَّ إلا أن هذا لا يهم لأننى إنسان مثلك، ولكن احذر لئلا تخطئ إلى الله الذى خلقك. وحينما كان أحد منكم يوبخنى بحق لم أكن أغضب قط، حتى لو كان أصغر واحد فى الأخوة، بل كنت أقبل ذلك التوبيخ من أجل الله كما من الرب ذاته. وعندما كنت أذهب لمكان ما أو دير لم أكن أطلب حمارًا من أى منكم مستخدمًا السلطان قائلًا: “أعطنى حمارًا لأركبه.” بل كنت أسير ماشيًا على قدمى بشكر وفرح، وإذا ما تعقبنى واحد منكم ومعه حمار لكى أركبه بعد أن أكون قد سرت مسافة، وأدركنى فى الطريق فإننى لم أكن أقبل الركوب إلا إذا شعرت بأن جسدى مريض ولن يقو على مواصلة السير، وفى غير ذلك لم أكن أقبل قط. أما بخصوص الأكل والشرب وكل ما يتعلق بمتعة الجسد، فهى أمور غير خافية على أحد منكم ولستم تجهلونها.”
وبينما كان يقول ذلك، كان تواضروس يجلس بالقرب منه، يبكى واضعًا رأسه بين ركبتيه، كما بكى كثير من الأخوة، متذكرين خدمته الدائمة لكل فرد منهم، واتضاعه العجيب، وسلوكه معهم فى خوف الله، كما قال بولس الرسول: كنا مترفقين فى وسطكم كما تربى المرضعة أولادها. هكذا إذ كنا حانين إليكم كنا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل الله فقط بل انفسنا أيضًا لأنكم صرتم محبوبين إلينا.
وكان أبونا باخوميوس يؤكد هذه الأمور للأخوة، وهو راقد على فراش المرض، صائمًا. لم يذق طعامًا قط والكل من حوله يبكى لا سيما لأن وقت رحيله قد قرب، ولخوفهم من الشدة التى قد تحيق بهم بعد أن يفتقده الرب.
موت بفنوتيوس:
119. كان من جراء انتشار الطاعون. أن مرض أيضًا آبا بفنوتيوس، الذى كان وكيلًا لكل الأديرة وشقيق تواضروس. وقد تنيح فى مساء سبت النور وعندئذ تذكر باخوميوس ما قاله له الملاك من قبل، أن الرب سوف يقبل منه تقدمة فى يوم العيد، وبسبب تفشى الوباء، مات كثير من الأخوة، حتى أنه كان يموت واحد كل يوم، وفى أحيان كثيرة كان يموت فى اليوم الواحد اثنان وفى أيام أخرى ثلاثة وأربعة وقد سمح الرب بذلك لكل أديرة الشركة. وفى هذا الوباء أيضًا مات كثير من القادة، وحينما كانت تجتاحهم الحمى كان لون بشرتهم يتغير قجأة، وتصير أعينهم حمراء كالدم. ويصيروا كمن أصيبوا بصدمة حتى يسلموا الروح، فمات بفنوتيوس الوكيل العام لدير فابو وشقيق تواضروس وكذلك آبا سوروس أب دير فانوم وأيضًا آبا كرنيليوس أب دير طومسون، وقد بلغ عدد الذين ماتوا بسبب هذا الوباء فى دير فابو فقط حوالى المائة والثلاثون.
موت باخوميوس:
120. لما كان آبا باخوميوس مريضًا يرقد فى مكان المرض مدة أربعين يومًا فى المكان الذى يرقد فيه جميع الأخوة المرضى، وكان تواضروس يقوم بخدمته وكان فى تلك الفترة يُخدم مثل بقية الأخوة تمامًا دون تفرقة بينه وبينهم، وذلك حسب التعليمات التى كان قد أعطاها لهم من قبل وبالرغم من أن جسده أصبح هزيلًا جدًا بسبب المرض الطويل، إلا أن قلبه وعينيه كانا يشعان بالنور دائمًا. وقد طلب من تواضروس أن يضع عليه الغطاء الخفيف قائلًا: “ضع علىَّ الغطاء الخفيف بدلًا من ذلك الغطاء لأنه ثقيل ولا أستطيع أن أحتمله. لأن لى الآن فى المرض أربعون يومًا ولكنى أشكر الله على كل حال.” عندئذ ذهب تواضروس وأحضر من الوكيل غطاء خفيفًا قيمًا. ووضعه عليه ولكنه ما أن لاحظ آبا باخوميوس الفرق بين الغطائين حتى غضب وقال له: “أى ظلم هذا الذى فعلته يا تواضروس؟ هل تريد أن تجعل منى عثرة لبقية الأخوة، حيث سيقولون أن آبا باخوميوس كانت حياته مترفهة عن بقية الأخوة. وأكون بذلك مستحقًا الدينونة. والآن ارفع عنى هذا الغطاء وأنا سأحتمل الآخر حتى أذهب إلى الرب.”
121. استمر آبا باخوميوس مريضًا حتى جاءت الخمسين المقدسة وقبل نياحته بثلاثة أيام استدعى جميع المسئولين من بين الأخوة وتحدث معهم قائلًا: “أنتم تعلمون أننى على وشك أن أنتقل إلى الرب الذى خلقنا وجمعنا معًا لكى نصنع مشيئته. والآن قرروا من يكون أبًا لكم بعد انتقالى.” فبكوا جميعًا. وبسبب الحزن الذى انتابهم لم ينطق أحد ببنت شفة متذكرين البؤس الذى ينتظرهم بعد رحيله من وسطهم. وأنهم سيكونون مثل الرعية التى بلا راعى وعندئذ تكلم أبا اورزسيوس. قائلًا له: “تحدث معهم لكى تعرف منهم، من الذى يرغبون فيه أبًا لهم.” فقالوا جميعًا لآبا باخوميوس: “إن كان الأمر كذلك. فنحن لا نعرف إلا الرب وسواك. والذى تختاره أنت نحن نقبله.” فقال لهم: “إن الرجل الذى فى وسطكم والذى أعلنه لى الرب هو بترونيوس أب دير تاسمين وهو يقدر أن يبنى أرواحكم فى مخافة الله، حيث أنه أب مقتدر ويتمتع بنقاوة القلب. وأنا أعلم أنه مريض ولكن إذا عاش فهو سيكون أبا لكم.” ثم أرسل واستدعى بعض الشيوخ ليودعهم وقال لهم: “أنتم ترون إننى ذاهب فى طريق الأرض كلها.” عندئذ ذهبوا جميعًا إلى المجمع واستمروا فى الصلاة لمدة ثلاثة أيام، قضوها فى التذلل أمام الله، لكى يتركه لهم مدة أطول ليبقى فى وسطهم ولكن بعد انقضاء الثلاثة أيام أرسل آبا باخوميوس لهم تواضروس وقال لهم: “كفوا عن البكاء لأن الأمر قد صدر من قبل الرب بأن الحق بآبائى.” ورجع الأخوة والتفوا حوله وهم يبكون بحزن عظيم.
122. ثم التفت القديس باخوميوس إلى تواضروس، وقال له: “حين يفتقدنى الرب، لا تترك جسدى فى المكان الذى سأدفن فيه.” فأجاب تواضروس بحزن عظيم : “سأفعل يا أبى ما تأمرنى به.” ولم يكتف القديس بذلك بل أمسك بلحية تواضروس وقرع على صدره قائلًا: “يا تواضروس، أحذر. لا تترك جسدى فى المكان الذى سأدفن فيه.” فأجابه تواضروس ثانية : “يا سيدى الأب، سوف أنفذ بسرور كل ما توصينى به.”
فتفكر تواضروس فى كلام آبا باخوميوس، ولماذا أوصاه مؤكدًا عليه؟ ألعل هذا بسبب خوفه من أن يأتى بعض الناس ويسرقون الجسد ويبنون عليه كنيسة كما يفعلون مع الشهداء والقديسين، لأنه مرات كثيرة سمع الأنبا باخوميوس ينتقد أولئك الذين يفعلون هذا الأمر قائلًا: “إن القديسين لا يسرون بأولئك الذين يسلكون هكذا مع أجسادهم. حتى لا تستغل أجساد القديسين للربح والتجارة.”
وللمرة الثالثة أمسك القديس باخوميوس بلحية تواضروس وقال له: “أحرص على أن تفعل ما أوصيتك به سريعًا، وإذا توانى الأخوة، عليك أن تنبههم للرجوع إلى الوصايا الإلهية.” فتأمل تواضروس فيما قاله القديس. وهل تعنى هذه الكلمات أنه سيؤتمن على الأخوة بعد وقت طال أو قصر؟ وفيما هو مستغرق فى التفكير. إذ بأبينا باخوميوس يجيبه قائلًا: “لا تكن مترددًا، لا أقصد فقط ما قلته (بخصوص طلب نقل جسدى). بل أيضًا ما أنت تفكر به فى قلبك.” (بخصوص قيادة الأخوة) حينئذ أجابه تواضروس باكيًا: “أمرك يا أبى.”
123. بعد أن فرغ القديس من كلامه مع تواضروس، ذهب فى غيبوبة لفترة من الزمن، ولم ينطق بكلمة أخرى لأحد حوله. ثم رشم علامة الصليب على نفسه ثلاث مرات. ثم فتح فمه وأسلم الروح فى يوم 14 بشنس. فى الساعة العاشرة من النهار. عندئذ اهتز المكان ثلاث مرات، فانتاب الأخوة خوف عظيم، ونظر بعض من الشيوخ الأتقياء وكشف لهم الرب عن أعينهم، فرأوا جندًا من الملائكة يحيطون بالأنبا باخوميوس، ويتقدمون روحه وهم يرنمون ويسبحون بفرح، حتى وصلت الروح إلى مكان راحتها. وانطلقت من المكان الذى فاضت فيه روحه رائحة بخور عطرة. استمرت لعدة أيام.
فتقدم تواضروس وأغلق عينى القديس بيديه، كما فعل يوسف مع يعقوب الذى أوصاه الله قائلًا: “لا تخف من النزول إلى مصر. لأنى أجعلك أمة عظيمة هناك. أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك أيضًا ويضع يوسف يده على عينيك. وبكى عليه الأخوة، واندفع كل منهم يقبل فمه وجسده. وأمضوا بقية النهار وكذلك الليل كله حول الجسد أمام الهيكل. وهم يقرأون فصولًا من الأسفار المقدسة.وحين انتهوا من صلاة المجمع الصباحية، أعدوا الجسد للدفن كما هى العادة مع بقية الأخوة. وقدموا فى صبيحة ذلك اليوم ذبيحة من أجله، وعندئذ تقدم الأخوة الجسد إلى حيث مكان الدفن فى الجبل وهم يرتلون المزامير، ودفنوا الجسد، وكان ذلك فى اليوم الخامس عشر من شهر بشنس. وفيما كان الأخوة راجعين من الجبل حزانى منسحقى النفوس، قال كل منهم للآخر : “بالحق لقد صرنا من اليوم أيتامًا.” وبعد أن نزل جميع الأخوة من الجبل أخذ تواضروس فى تلك الليلة ثلاثة من الأخوة، ونقلوا الجسد من المكان الذى دفن فيه، ووضعوه مع آبا بفنوتيوس شقيق تواضروس والذى كان وكيلًا لكل أديرة الشركة. ولم يعلم أحد حتى اليوم المكان الذى دفن فيه.
وكانت أيام الأنبا باخوميوس على الأرض ستون عامًا. بدأ حياة الرهبنة وله من العمر واحد وعشرون عامًا، ثم قضى فى الحياة الرهبانية تسعًا وثلاثين سنة. ولما رأى الرب أنه قد صلب جسده وسلك بحسب مشيئته أراد أن يمنحه راحة، فضمه إليه حتى لا يسمح له أن يصل إلى حال الشيخوخة التى يعانى فيها من ضعف الجسد أكثر مما يمكن أن يحتمله.