عيد القيامة المجيد 2016
تعكس أحداث هذه الليلة أعظم سر في حياة البشر وأكثرها غموضًا… لقد قام المسيح!! يؤمن البعض بهذا الحدث، ويدلون عليه ببراهين كثيرة. لكن يبقي هناك الكثيرين أيضًا لا يؤمنون بالقيامة. فكيف يمكن لشخص أن يقوم من بين الأموات، كيف يمكن أن يترائ للناس بعد موته ويتحاور معهم، كيف يمر والأبواب مغلقة بالرغم من إن له لحم وعظم (لوقا 24: 39)، كيف يأكل مثل البشر. فيخبرنا لوقا مرتين إن المسيح طلب من تلاميذه، الخائفين والغارقين في الحّيرة، شيئًا يأكله، فتناول قطعة من السمك المشوي. وفي سفر الأعمال يتقاسم معهم المائدة لمدة أربعين يومًا قبل أن يصعد إلى السماء (أعمال 1 : 3 – 4 ).
لا يمكن لعقلنا البشري أن يستوعب القيامة، لأنها شيء خارج نطاق معرفة الإنسان الحسية. هي كالحياة والعالم بالنسبة لجنين في طور التكوين في بطن أمه، لا يستطيع أن يتصور جمال الشمس الدافئة، وصفاء الأنهار، ألوان الورود والأشجار، وتنوع أشكال الكائنات على الأرض. هي ولادة لحياة أخرى مختلفة تمامًا. المسيح القائم ليس شبحًا ينتمي إلى عالم الأموات، لكنه يستطيع الظهور، بطريقة ما، في عالم الأحياء. وليس تجربة صوفية، حين تسمو روح البشر في لحظة، فترى العالم السماوي والأبدي، ثم ترجع إلى واقعها الطبيعي، مثل تجربة بولس وارتفاعه إلى السماء الثالثة، كما وصفها في الرسالة الثانية إلى الكورنثيين (12: 1- 4). بولس يكشف عن لقاء مختلف تماما مع المسيح القائم، لقاء مع شخص حيّ، يأتي من عالم مختلف، عالم الله.
كيف لنا أن نفهم سر القيامة؟
كشف يسوع القائم سر قيامته للصغار، لثلاث نسوة، ثلاث مريمات، في حين بقي الرجال محبوسين من الخوف في العلية. “دَخَلْنَ القَبْرَ فأَبصَرْنَ شَابّاً جَالِسًا عنِ اليَمينِ عَلَيه حُلَّةٌ بَيضاء…” (مر 16، 5). كانت النسوة أُوّل من رأى هذه العلامة العظيمة: القبر فارغ؛ وكنَّ أول من دخله… بقيت النسوة ساهرات طوال الليل، في انتظار الفجر، للذهاب إلى القبر. كُشف لهن السر، لأنهنّ كنّ مستعدات، ساهرات، يملء قلبهم رجاء قوى بالقيامة.
القيامة ليست شيء يمكن فهمه بالعقل أو بالمعرفة… هي أكثر من ذلك بكثير. هي الدخول إلى سر الله، يقول الكتاب ” دَخَلْنَ القَبْرَ”. “الدخول في السر” يعني القدرة على الاندهاش، وعلى التأمل؛ القدرة على الإصغاء للصمت وعلى سماع همس صمتٍ لَطيف، ذاك الذي من خلاله يكلمنا الله (را. 1 مل 19، 12).
الدخول في السر يتطلب عدم الاستسلام للكسل والراحة واللامبالاة التي تمنعنا من البحث عن الحقيقة. فالحياة ليست بسيطة كما نتصور، لم نُخلق لحياة روتينية، هناك معنى قوي لحياتك على الأرض، أنت مدعو لشيء عظيم، يتخطى حدود هذا العالم، إلى حياة أخرى مختلفة تمامًا، تتحول فيها المادة التي نعرفها إلى مادة ممجدة. يقول بولس عن القيامة: “ما لم تره عينٌ وما لم تسمع به أذنٌ ولا خطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يحبّونه” (1 كور 2 : 9 ). “للذين يحبّونه”، فالحبّ هو سرّ خلودنا وقيامتنا، والعلاقة والإتحاد مع الله .
كُشف السر العظيم فقط لنسوة سهرنّ طوال الليل، مع العذراء الأم، التي ساعدتهنّ على عدم فقدان الإيمان والرجاء، فخرجن مع نور الفجرِ، ووجدن القبر مفتوحا، فدخلن. سهرنَّ، وخرجن ودخلن في السر. دعونا نتعلم منهن السهر مع الله ومع مريم، أمنا، كي ندخل في السر الذي يَعبُرُ بِنا من الموتِ إلى الحياة الجديدة.
كُشف السر العظيم أيضًا لأصحاب القلوب التي يملؤها الرجاء: عندما رجعت المريمات إلى التلاميذ بالخبر، ماذا فعل التلاميذ: “لم يصدِّقوا شهادة النساء وإعلانهنَّ الفصحي. لا بل “بَدَت لَهم هذه الأَقوالُ أَشبَهَ بِالهَذَيان” (لوقا 24: 11). إلا إن قلب بطرس كان يملئه الرجاء، بالرغم مما حدث. لم يستسلم بطرس لمشاعر الاحباط والخيبة لإنكاره سيده ثلاث مرات. لم يبق جالسًا يُفكّر، لم يبق منغلقًا في البيت كالباقين. لم يسمح للجو المُظلم لتلك الأيام بأن يحبسه، ولا لشكوكه بأن تستحوذ عليه؛ لم يسمح بأن يستولي عليه الندم والخوف التي لا تقود إلى شيء. بحث عن يسوع وليس عن نفسه. قام وأسرع نحو القبر الذي عاد منه “مُتعجِّبًا” (لوقا 24: 12). لقد كانت هذه بداية “قيامة” بطرس، قيامة قلبه. وبدون الاستسلام للحزن والظلام، أفسح المجال لصوت الرجاء: سمح لنور الله أن يدخل إلى قلبه، دون أن يخنقه.
نحن على مثال بطرس لا يمكننا أن نُدرك القيامة إذا بقينا تعساء وبدون رجاء، إذا انغلقنا على أنفسنا. نقص الرجاء يغلقنا على أنفسنا. لقد سقط بعض التلاميذ في هذا الفخ، كتلميذي عماوس، الذي ملئت الكأبة قلبيهما، بالرغم من كلام النسوة بأن الرب قد تراءى لهنّ، إلا انهم استسلما للاحباط فهربا إلى خارج المدينة.
قوة رجاء بطرس، ليس في غياب الأزمات الإيمانية، ولكن في اليقين بأن المسيح يحبنا ويغفر لنا على الدوام. لن ندخل في سر القيامة العجيب، إلا إذا كان لدينا هذا الرجاء، في إن الله يحبنا ولا يريد هلاك أحد، حتى الخطأة: “فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة” (يوحنا 3: 16). لقد أحب الله العالم والإنسان: هذا هو عمق رجاؤنا. لكي يبعث الملاكان الرجاء في النسوة قالا لهنَّ: “أُذكُرنَ كَيفَ كَلَّمَكُنَّ [يسوع]” (لوقا 24: 6). أساس الرجاء أن نتذكر كلمات يسوع، ونتذكر كل ما قام به في حياتنا.
يُكشف سر القيامة إذن للبسطاء اليقظين مثل المريمات، ولمن يملكون الرجاء كبطرس، بالرغم من كل شيء. لا يُكشف السر لمن يفقد الرجاء ويسقط في الشك واليأس بسبب المشكلات أو سيطرة الشر على العالم اليوم. يقول البعض كيف قام المسيح وكل ما حولنا يبشرنا بالموت والعنف والدمار؟ كيف أومن بالقيامة حين أرى صديقًا يموت وقريبًا يعاني مرض لا علاج له؟ كيف اؤمن بالقيامة والحروب تملأ الكون، والخصام يعمّ كلّ العالم، وحولي عنف ودمار وإرهاب وطنين السلاح يفتك بالأبرياء.
الحقيقة إننا نخاف أن نؤمن بالقيامة، فخوفنا من القيامة هو أكبر من خوفنا من موت يسوع. فيسوع الميت يسهل دفنه، نضعه في زاوية ما من زوايا قلوبنا، ندفنه هناك، نخفيه في قبر ما في نفوسنا، ونحيا حياتنا. لأن منطق قبول المسيح القائم من بين الأموات هو صعب، لأنّه يتطلّب التزامًا، وإيمانًا وتضحية، يتطلب سهر وخروج من سجن أنانيتنا. قبول المسيح القائم يعني أن أقبل في حياتي منطق القيامة: أرفض العنف وحضارة الموت، وأعلن منطقًا لا يتلائم ومنطق ما يحيط بي. منطق القيامة يجعلني أبدو مجنونًا أمام الآخرين، مجنون لأنّي آحيا المصالحة مع الذات ومع الآخرين، مجنون لأنّي أقبل المغفرة وأغفر لمن أساء لي، مجنون لأنّي أقف الى جانب المحتاج والمريض والمتألّم، وأقول لمن يجد نفسه وحيدًا: لا تخف، فأنا بقربك، أحمل اليك يسوع القائم. مجنون لأنّي اؤمن أن الخير لا بدّ أن ينتصر، وأن الموت ما هو الاّ انتقال تليه القيامة. نعم، قبول منطق القيامة صعب عليّ، ومن الأسهل لي أن أترك يسوع مدفونًا في أعماق نفسي.
هل تؤمن بالقيامة؟ أم الأفضل أن يظل المسيح في القبر، لأن القيامة ملزمة؟ القيامة وحدها القادرة على هزيمة الشر من حولك.. كن رسول منطق القيامة، كن الشمعة المنيرة ظلام العنف وقلّة العدالة. لا تقل، ماذا يمكن لشمعتي الصغيرة أن تغيّر، فالنور الّذي تحمله أنت هو نور القيامة الّذي دحرج الحجر الثقيل عن قبري وأنار العالم. لا تخف، فالرب معك. هو يسير بجوارك لكي تؤمن كتلميذي عماوس.