المقصود بالصحة النفسية
الصحة النفسية
ما هو المقصود بالصحة النفسية؟ ماذا نعني بأن بالقول بأن الإنسان صحيح نفسيًا؟ نقصد بالصحة النفسية هي تلك الحالة الدائمة نسبيًا للفرد يكون فيها متوافقًا نفسيًا مع نفسه وبيئته، ويكون قادرًا على تحقيق ذاته واستغلال قدراته وإمكانياته إلى أقصى حد ممكن، وأن يكون ما يريد بالفعل أن يكون.
فالفرد الذي يتمتع بالصحة النفسية هو من لدية علاقة صحية وسليمة مع نفسه، أي يكون في وعي وإدراك وفهم لما يكون في الحياة، ولما يحدث ويعتمل بداخله من تفاعلات، مما يجعله مهيئًا لأن يكون في حالة تصالح واتساق وسلام مع ذاته وهو الهدف النهائي للعلاقة الصحية مع الذات.
الصحة النفسية هي إذن ليس خلو من الاضطرابات النفسية والسلامة من المرض، بل هي حالة توافق مع النفس مفداها الرضا عن الأمور التي لا يستطيع الفرد تغييرها، وتتناسب قدرات الفرد مع مستوى طموحه. هي حالة توافق أيضًا مع البيئة والأشخاص المحيطين وتفاعله مع واقعه الاجتماعي. أعلى درجات الصحة هي حالة الفاعلية التي يحققها الإنسان باستغلال قدراته وإمكانياته إلى أقصى درجة ممكنة بصورة تزكي شعوره بالقيمة.
تتحقق الصحة النفسية متى كانت العلاقة مع النفس تحتوي على قدر مناسب، لا يصل بالطبع إلى حد الكمال، من أمور ثالث:
- الشعور بالكفاية (القيمة)
- الشعور بالتفرد ومقاومة الامتثال
- الشعور بالرضا في الحياة
نقصد بالكفاية (الجدارة/القيمة): الشعور بملائمة الفرد للحياة الشخصية التي أعطيت له (أي أنه وبمفرده كفواً لهذه لحياة) في أن يكون قادرًا على إدراة ومعالجة تحديات الحياة والشعور بأنه جدير بالسعادة، بما يسمح له بالإحساس بقيمته كإنسان وبما لا يسمح له بالشعور بالدونية والعجز أو الظلم بالرغم من وجود الضعف والقصور البشري الطبيعي فيه كإنسان.
نقصد بالتفرد احتفاظ الشخص بشخصيته وهويته مستقلة ومتمايزة عن كل من هو غيره، بمعنى أن يكون له لونه وبصمته الخاصة المختلفة عن الآخرين وأن يقاوم الامتثال، أي التشبه بالآخرين ومحاكاتهم، لديه هوية متفردة مستقلة ومختلفة أمام قوة ضغط الآخرين لتشكيل الفرد على شاكلتهم.
أما الرضا فهو قبول الفرد واقتناعه بالحياة الشخصية التي أعطيت له ولا يستطيع تغييرها، وتكيفه معها بدرجة تكفي للشعور بالرضا وهدوء البال وعدم التذمر، بما لا يتعارض مع وجود الطموح نحو التغير فيما يستطيع تغييره.
يمكن للفرد أن يُقيم حالته النفسية بالتفكير التحليلي والمتعمق في أمور حياته وملاحظة تصرفاته وأعماله. وفي حالة وجود اضطرابات زائدة في علاقاته أو معوقات نفسية يستشعرها في داخله فمن الممكن طلب مشورة أحد الأخصائيين.
تتحقق الصحة النفسية متى سُددت بصورة صحية ومتوازنة احتياجات الإنسان. تتدرج تلك الاحتياجات من الحاجات الفطرية (الأساسية أو الفسيولوجية) إلى حاجات عليا يؤدى إشباعها إلى الشعور بالسعادة والرضا عن الحياة. والأخيرة أكثر أهمية لتحقيق الصحة النفسية. البعض يرتب هذه الحاجات ترتيب هرمي كإبراهام ماسلو، الذي خَص الطفل بتحليله، والبعض الآخر يرى إنها مترابطة ومتشابكة تضغط على الإنسان في جميع مراحل عمره ككارل روجرز وإيرك فروم.
أولاً: الشعور بالكفاية (القيمة)
القيمة هو أمر في غاية الأهمية بالنسبة للفرد، طفلا أو بالغًا. فلا تستقيم شخصية الإنسان أو يحصل على التوازن النفسي بدون الشعور بالكفاية والثقة بالنفس. تبدأ المشاعر الأولية لتقدير الذات عند الطفل استنادًا لاستجابة العالم من حوله لاحتياجاته الجسمية والانفعالية، ومقابلةسلوكياته باستجابة إيجابية ومشجعة. هناك ثلاث ظروف أساسية تسهم في رفع مستوى تكوين تقدير الذات وهي: الحب الغير مشروط، وجود قوانين محددة بشكل جيد ويتم تطبيقها بتوازن، إظهار قدر واضح من الاحترام للطفل.
تصب الظروف الثلاثة في إشباع مستويات أولى من الحب التي تخلق لدى الفرد مشاعر من الكفاءة لدوره في المجتمع والذي من خلاله يحصد النجاح لامكاناته وقدارته ومواهبه. لذا يجب أن نتناول في البداية إشباع المستويات الأولى من الحب لندرك المقصود بالشعور بالكفاية والقيمة.
الشعور بالحب (محبوب وقادر على الحب)
لنتفق في البداية إن الحاجة إلى الحب هي أهم احتياجات الإنسان، وإذا لم تُشبع تلك الحاجة، فقد يشعر الفرد بالخواء والوحدة وهي أكبر مشاكل البشر على الإطلاق. فبناء على مقدار الحب الأساسي الذي يحصل عليه الفرد من والديه ونوعية العلاقة معهم، وامتلاء خزان الحب لدىه بصورة تجعله يُدرك إنه شخص محبوب وله قيمة في ذاته، له هوية إيجابية يكون مقبولاً ومحبوبًا من الآخرين على أساسها. في حالة عدم إشباع هذا الاحتياج القوي لدى الإنسان فإنه سيعاني من مشكلة الوحدة وتبعاتها الخطرة على حياته من احساس بالفراغ الداخلي والخواء وانعدام القمية الذي يظهر في اتجاهات خارجية تملكية استحواذية في العلاقة سواء مع الأشخاص أو مع الأشياء لمحاولة الامتلاء بهم لتعويض الفراغ والوحدة الداخليين.
عندما خلق الله الإنسان قال الرب الإله: “لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ”. فالأصل يكون الإنسان في حالة حب متبادل مع آخر. محبوب وقادر على الحب. ونخطأ كثيرًا متى اعتبرنا إن الحب مشاعر تربط الأشخاص معًا. الحب هو سلوكيات وأفعال إرادية يتعلماها الإنسان. الحب ليس قوة عليا تهبط على الإنسان من فوق، بل هو فن نحتاج أن يتعلمه، كما أوضح إيرك فروم. هو فن يتعلمه الإنسان منذ الصغر ويستمر في تعلمه وممارسته في حياته، لأن أساس وجوده وغايته. هذه الرغبة للاندماج مع شخص آخر هي أكبر توق ورغبة عند الإنسان. إنها أشد عواطفه جوهرية، إنها القوة التي تبقي الجنس البشري متماسِكًا وكذلك القبيلَة والأسرَة والمجتمَع. والفشَل في تحقيق هذا الاندماج يعني الجنون أو الدمار – الدمار للذات أو الدمار للآخَرين. فبدون حب ما كان يمكن للإنسانية أن توجد يومًا واحدًا.
الحب هو قوة فعَّالَة في الإنسان، قوة تقتحِم الجدران التي تفصِل الإنسان عن رفاقه، والتي توحِّده مع الآخرين. إن الحب يجعله يتغلَّب على الشعور بالانفصال والعزلة. ومع هذا يسمح له أن يكون نفسه، أن يحتفِظ بتكامله. في الحب تحدث المعادلة الصعبة: اثنان يصبحان واحدًا ومع هذا يظلان اثنين.
لذا فالحب هو نشاط إيجابي تجاه الآخر وليس شعورًا سلبيًا، هو عطاء في ذاته وليس التلقِّي.
نعتقد كثيرًا بفرضية خاطئة فإن الحب هو نشاط يقوم على الإشباع المتبادل للرغبات!! فحتى لا أشعر بالوحدة وآلام العزلة أبحثُ عن شخص يحبني ويُشعرني بأني محبوب، وأن لي قيمة ولا أعود أشعر بالقلة والنقص!! لابد أن نعرف إن هذه العبارة مغلوطة لأن الدافع لها هو شعور بعدم الكفاية والقيمة يدفعني إلى البحث عن علاقات تعويضية بديلة، فيدخل الإنسان في علاقات مبنية على توقعات وانتظارات غير صحية وغير سليمة من رغبة في ملء فراغه الداخلي أو معالجة احساسه بالنفص عن طريقة الآخر، وذلك دون أن يدري بحقيقة تلك التوقعات والانتظارات والتي عندما لا تتحقق يزداد إحباطه وألمه الداخلي أكثر من ذي قبل مما ينعكس بمزيد من السوء وعدم الصحة على علاقته مع الآخر. لذا فالعلاقات العاطفية القائمة على هذا الهدف لا تنتهي حالة الوحدة، متى بحث الفرد عن شخص يعوضه الشعور بأنه غير محبوب ولا قيمة له في ذاته.
الحب هو نشاط ايجابي يهدف إلى عطاء جزء من الذات. هو ليس الحرمان أو التضحية بشيء، وليس “التخلي” عن شيء هو قوة إيجابية تبعث على الفرح أكثر من التلقي، لا لأنه حرمان، ولكن لأن في فعل العطاء يكمن التعبير عن اتقادي بالحياة وشغف العيش.
مَن يكون قادرًا على أن يعطي من ذاته هو الغني، هو يعيش نفسه كإنسان يستطيع أن يعطي نفسه للآخرين. إن أهم مجالات العطاء أن يعطي الإنسان من حياته، يُعطي الشيء الحي فيه، يعطيه فرحه، شغفه، فهمه، علمه، مرحه، وأيضًا حزنه. أي كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيه. وهكذا بإعطائه من حياته إنما يثري ويعزز من شعور الآخر بالحياة وذلك بتعزيزه لشعوره هو بالحياة. إنه يعطي لكي يتلقى، العطاء هو في ذاته فرح رفيع. العطاء يتضمن جعل الشخص الآخر معطاء أيضًا. ويشترك الاثنان في فرح ما تحمله الحياة. في فعل العطاء يولد شيء، وكلا الشخصين يكونان شاكرين للحياة التي تولد لهما كليهما. ويعني هذا بالنسبة للحب أن الحب قوة تنتج الحب.
كيف نتعلم فن الحب هذ؟ الحب، شأن أي فن يتطلب ثلاثة أمور: معرفة نظرية بخصائص هذا الفن، ممارسة عملية وفقا لما تعلمناه من المعرفة النظرية، ثم تكريس الحياة لتحقيق هذا الفن. فالموسيقي مثلا لا يكون ناجحًا متى تعلم نظريًا أو مارس عمليًا العزف على أحد الآلات، لكن متى كرس حياته لهذا الفن، متى لم يكن هناك أي شيء في العالم أكثر أهمية من الفن.
(يتبع) -كيف نتعلم فن الحب