إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

علم اللاهوت الرعوي (7): ملامح المشروع الرعوي للمجمع الڤاتيكاني الثاني

0 937

ملامح المشروع الرعوي للمجمع

نقطة الانطلاقة الأساسية للمشروع الرعوي للمجمع الڤاتيكاني الثاني هو ما نصَّ عليه في ديباجة الدستور الرعائي “الكنيسة في عالم اليوم” من خلال تعريفه للكنيسة بأنها مجتمعٌ منظور وجماعةٌ روحية في وقت واحد تواكب البشرية كلها وتختبر مع العالم نفس المصير الأرضي وهي خميرة وروح المجتمع البشري الذي مصيره التجديد بالمسيح والتحول إلى أسرة الله.

تطلَّب التعريف أن تتبّنى الكنيسة موقفًا جديدًا بالنسبة للعالم بأن تغيّر مسارها بإيجاد أشكال جديدة للحضور والعمل. حثَّ المجمع الكنيسة على القيام بعملية تأسيسية جديدة لأنظمتها وممارستها وتغير مفهوم حضورها وسط العالم فهي لا تمنح الإنسان الحياة الإلهية فقط، بل تنشر بطريقةٍ من الطرق على العالم كله، النورَ الذي ينبعث من هذه الحياة الإلهية وهذا يتمُّ من خلال مقترحات المجمع في الأعداد 40-45: “عندما تشفي الشخص البشري وترفع كرامته، وتُوثق تلاحم المجتمع وتوفر معنى أعمق لنشاط البشر اليومي وتنفحه بمفهومٍ أسمى. وهكذا تعتقد الكنيسة أن بإستطاعتِها، من خلال كل فرد من أعضائها ومن خلال الجماعة التي تؤلف، أن تساهم مساهمةً واسعة في المزيد من “أنسنة” العيلة البشرية وتاريخها”.

تَغيِّر مفهوم حضور الكنيسة أو “شهادتها” من كونها عملاً يؤدَّى، أو نشاط يُنظَّم كالتزام باعلان الرسالة المسيحية من خلال أعمال مُحددة، إلى شهادة “حياة” تتخذ موقف الدفاع عن القيم الأساسية للحياة البشرية، شهادة تتعرف على المسألة الأنثروبولوجية كجبهة تبدأ منها تنفيذ مهمة التبشير بالحقيقة المسيحية وتمسّ أبعاد التعليم والسياسة والعلوم والاتصالات. شهادة تنتبه لإعطاء الأولوية للشخص ولحياته اليومية باعتبارها أبجدية لتوصيل الإنجيل.

عرض “نَعَمْ” الله يمس أساس الكنيسة ذاتها، فهي لهذه ال “نعم” ابنة، وتلميذة ومسؤولة. لهذا، الطريق الأنسب لرسالة الكنيسة في الوقت الحاضر والأكثر قابلية لفهم معاصرينا يأخذ شكل الشهادة، الشخصية والجماعية: شهادة متواضعة شغوفة، متأصلِّة في روحانية عميقة ومجهزة ثقافيًا، مرآة تعكس صورة الوحدة التي لا غنى عنها بين إيمان صديق للفكر ومحبة تجعل من ذاتها خدمة سخية مجانية. إنّ  الشاهد الذي يتواصل بخيارات الحياة، مما يدل على كونه تلميذ المسيح ليس أمرًا ممكنًا بالنسبة للإنسان فحسب، ولكنه يُثري إنسانيته أيضًا. فهو عندما يتحدث، لا يفعل ذلك لواجب مفروض عليه من الخارج، ولكن لحاجة داخلية، يغذيها الحوار الدائم مع الرب ويُعبر عنها بلغة مفهومة للجميع. وبالتالي فإنّ الشهادة هي الخبرة التي تتجمع فيها الحياة الروحية، والمهمة الرعوية والبعد الثقافي. يجب أن تحفِّز مجتمعاتنا اللقاء الحقيقي بين الناس، تلك المساحة الثمينة للتواصل مع الحقيقة التي تجلت في الرب يسوع، لأنّ الحياة النموذجية لا تُقلل من واجب البشارة بالكلمة أيضًا: يجب على كل مسيحي أن يعرف أن يعطي سببًا لرجائه الشخصي، بسرده لعمل الله في حياته وفي تاريخ البشرية (من “وَلدَنا ثانِيَةً لِرَجاءٍ حَيٍّ” (1 بط 1: 3): شهود ل ” نَعَمْ” الله العظيمة التي قالها للإنسان).

وقد سلم المجمع للكنيسة ثلاث أدوات لتجسيد علاقة الكنيسة والعالم المُشار إليها من خلال شكل شهادة الحياة وللدفاع عن القيم الأساسية للحياة البشرية. تلك الأدوات هي: التمييز والمصالحة والكرازة

  • التمييز

اتبع المجمع في صياغته للدستور الرعائي “الكنيسة في عالم اليوم”، وفي أغلب الدساتير الأخرى، منهج (النظر- الحكم- العمل) الذي نضج في سياق خبرة الحركة العمالية “الشبيبة العاملة – أرسالية فرنسا” كما سبق الاشارة. النظر إلى الواقع المحيط بالكنيسة في الحياة اليومية في ضوء عناية الله، والحكم على القيم المستمدة منها وربطها بمصدرها الإلهي وتطهيرها من كل عوامل الفساد ثم العمل على بناء مجتمع بشرى أكثر إنسانيةً يُحقِّق قصد الله من خَلق الإنسان في الكون.

يتطلب تحليل الوضع الكنسي في البداية  القدرة على التمييز الجماعي الأصيل، والذي يمكن الوصول إليه من خلال العناصر التالية: الطواعية للروح والبحث المتواضع عن إرادة الله؛ الاستماع المُخلِص للكلمة؛ تفسير علامات الأزمنة في ضوء الإنجيل؛ تقدير المواهب في الحوار الأخوي؛ الإبداع الروحي والتبشيري والثقافي والاجتماعي؛ طاعة الرعاة الذين تقع عليهم مسئولية تنظيم أبحاث التمييز الجماعي لتحليل وضع الكنيسة في حقبة زمنية معينة. إذ تمَّ فَهم التمييز الجماعي بهذا الشكل، يصبح مدرسة للحياة المسيحية، وسبيل لتنمية المحبة المتبادلة والمسئولية المشتركة، والإندراج في العالم بدءًا من المجال الشخصي. ويبني الكنيسة كجماعة من الأخوة والأخوات، ذوي كرامة متساوية، ولكن بهبات ومهام مختلفة، ويخلق منهم شكلًا بدون الجنوح إلى مبادئ ديمقراطية واجتماعية غير لائقة، ينتج أنّها ذات مصداقية في المجتمع الديمقراطي المعاصر. الأمر يتناول ممارسة يجب نشرها على مستوى المجموعات والجماعات التعليمية والعائلات الرهبانية، والإيبارشيات، والمناطق الرعوية، والأسقفيات لأوسع نطاق.

إنّ أداة التمييز لا تزال تبدو خيارًا للمستقبل بل بالأحرى ركيزة صلبة بُني عليها حاضرنا الكنسي. »التمييز بالنسبة للأساقفة هو ذلك الموقف الروحي الذي يسمح لكنائسنا المحلية باتخاذ الموقف الصحيح بأن تتعلم “نظرة نقدية وواثقة في آن واحد”، أو تتعلم موقفًا جديدًا حيال العالم، أن تتعلم أن تعترف (وتضع في حسبانها عواقب هذا الاعتراف) بأنّه قد انتهت، وبشكل حاسم تلك الصورة الكلاسكية والتقليدية للكنيسة التي تسلمتها من الماضي، بأنظمتها، ودرجاتها السلطوية وممارساتها؛ وهناك حاجة لتصور أشكال جديدة للكنيسة، تدفع الأفراد المسيحيين والجماعات المحلية في طرق جديدة لتفهم ذواتهم وللعمل«[1].

  • المصالحة

الإجراء الثاني لتجسيد علاقة الكنيسة بالعالم، وفيه تنظر الكنيسة بشكلٍ خاص للمجتمع الذي تعيش فيه وتُعيد صياغة العلاقة معه استنادًا على مبدأ المصالحة. فالعلاقة مع عالم العمل والسياسة، والعلاقات الثقافية التي تحولت إلى صدامات، والمشكلات الطائفية والعرقية، والمشكلات الاقتصادية والفجوات الموجودة بين السكان في المناطق المختلفة في المجتمع (الحضر والريف) تتطلب التصالح والاعتراف بالأخطاء التي وقعت فيها الكنيسة في الماضي في كل المجالات السابقة. دون الاعتراف بالخطأ والاعتذار عن ممارسات سابقة وعلاقات حملتها التقاليد الكنسية المتوارثة في الكنيسة لا يمكن تجديد علاقة الكنيسة بالعالم.

بعد المجمع نهجت الكنيسة الكاثوليكية إلى المصالحة مع العالم والثقافات المُختلفة ولعل زيارات البابا يوحنا بولس الثاني والبابا فرنسيس تعكس بوضوح هذا التوجه للكنيسة. لقد انتقلت الكنيسة من حالة النزاع مع الكثيرين إلى حالة الشركة. بحثت الكنيسة عن نقاط التلاقي التي تجمعها مع المختلفين معها من السياسيين وأصحاب الأعمال والمثقفين والمنتمين إلى الطوائف الأخرى. شهدت الحركة المسكونية تغييرًا جذريًا واعترفت الكنيسة الكاثوليكية بالأخطاء التي ارتكبتها في الماضي. اعترفت الكنيسة بأن المسكونية تقود إلى توبة القلب وعيش المحبة الأخوية، والغفران المتبادل بين المسيحيين المنقسمين. لقد مرت قرون عدة على الخلافات الحادة، والعنيفة أحيانًا، بين الكاثوليك والإنجيليين، وأثّرت على تاريخ أوروبا بشكل كبير، كما على جميع البلدان التي انتشرت فيها الإرساليات الكاثوليكية والإنجيلية حول العالم، بما فيها الأميركيتان الشمالية والجنوبية وآسيا وأفريقيا، كما في الشرق الأوسط. وقد تركت هذه الانقسامات جروحًا عميقة بين الكنيستين لم يكن شفاؤها هيّنًا. إلى أن ظهرت الحركة المسكونية بعد المجمع الـﭭـاتيكاني الثاني فقرّبت الكنائس بين بعضها البعض.

  • الكرازة

أعطى المجمع الأولوية للكرازة كتجسيد لعلاقة الكنيسة وشهادتها في العالم. فالكرازة هي وسيلة لتجديد الكنيسة، وسيلةٌ قادرة على إعادة هيكلة العمل الرعوي التقليدي أمام المجتمع عن طريق إحياء الذاكرة المسيحية بهويتها الأصلية، وإعادة التفكير في الأساليب الرعوية وتنشيط الإجراءات التي تتعلّق بالكنيسة. لجعل الرسالة المسيحية مسموعة وذات مصداقية، لا يمكن للمؤسسات أن تقتصر على تكرار الموجودات، فتقتصر ربّما على زيادة حرارة الحماس المنبعث من  الأنشطة المحقَّقة؛ إنّما يجب بدلاً من ذلك أن تعمل على تصوّر أشكالاً راعوية جديدة، أشكالاً جديدة تستثمر جميع مجالات الممارسة الكنسية: البشارة، الاحتفال، الشهادة. يحدث التفاعل العميق بين هذه الأبعاد الثلاثة الأساسية لسرّ الكنيسة ورسالتها متى كان سر المحبة يُحتفل به بفرح وانسجام في الليتورچيا، فيظهر ويتواصل من خلال أعمال المحبة في الأعمال الخيرية والخدمات المُقدمة للشعب. كل انفصال عملي أو تناقض بين الكلمة، والسرّ المقدس والشهادة يُفقِر ويخاطر بتشويه وجه محبة المسيح.

يُبين هذا المثلث: البشارة، الاحتفال، الشهادة، جيَّدا المحتوى الذي تعطيه الكنيسة لمفهوم الكرازة في المسار الرعوي.  إنّها كنيسة تعيش تلك الكلمة التي تُغذي، والتي تجعل من الاحتفال لحظة الفيض بالأعمال التي من خلالها تشهد بالإنجيل الذي تؤمن به، إنّها كنيسة مبشِّرة بالإنجيل.

” يجب أن يكون أساس كل شيء بإصرار مؤكّد هو الأولوية الضرورية التي للكرازة، التي تحثّ على قلق صحيّ في مواجهة الظروف المتغيرة، وكذلك في مواجهة أوجه القصور الواضحة لأساليب معينة في الماضي. إذا كنا لا نزال نقتصر على تركيز الانتباه على ممارسة الأسرار المقدسة كأنّه لا شيء سواها، سينتهي بنا المطاف إلى التقليل من شأن السرّ المقدس، المفصول عن مضمونه الإيماني الحيوي، فيصير محض إيماءة ممارسة ظاهرية، دون انعكاسات ملموسة ومثمرة في الحياة. الاقتناع الراسخ بأولوية الكرازة – اقتناع يثبت باستمرار بالتأمّل والدراسة والالتزام اليومي- وحده الذي سينجح في التغلب على العادات والمتاعب، وإعطاء دفعة قوية للنشاط الرسولي للكنيسة في كل قطاعاتها. (الكرازة والأسرار المقدسة 61)”.

محور مفهوم الكرازة، هو “الشخص”، أي العلاقة التي أقيمها أنا مع الآخر، علاقة تقوم على الاعتراف بالآخر كشخص. وهذا الاعتراف هو الذي يفتح قناة الكرازة. فالمهمة التبشيرية للكنيسة ونشاطها الكرازي تُفهم، إذن، على أنها وسيلة لتنظيم العلاقات الإنجيلية بين الناس. للوصول إلى هذا الهدف، فعلى الكنيسة القيام بتغيير عميق في العقلية، عليها أن تُعيد ترتيب الأولويات، وتغيير بعض الإجراءات، وتحويل ما كان حتى وقت قريب مضى هدفًا إلى أداة، وإلى هدف ما كان أولًا معتبرًا مجرد أداة (ولنفكر في العلاقة الكلمة-الأسرار المقدسة، أو تلك التي بين الكرازة والتنمية البشرية). إنّ المكونات اللازمة لفهم شكل الشهادة التي هي الكرازة (المفهومة على أنّها أداة للوصول إلى إنسان اليوم مع رسالة الخلاص التي تركها المسيح لنا) هي التالية:

  • التأصل في كلمة الله، المقروءة داخل الكنيسة في ضوء التقليد؛
  • البحث عن بذور الحقيقة، وعلامات الأزمنة المنتشرة في تاريخ البشرية (حتى الحالي أيضًا)؛
  • تفسير المجتمع والثقافة في ضوء حقيقة أن حدث المسيح هو من أجلنا (وهو الذي يجعلنا قادرين على التعرف على عواقب الخطيئة في تاريخنا جنبًا إلى جنب مع آثار عمل الفداء). الهوية المسيحية (أولوية الشخص وشهادته) تقوم على العلاقة مع المسيح وتُعاد قراءتها بحيوية منذ المعمودية.

يتطلب مفهوم الكرازة القائم على إعطاء الأولوية للشخص أن تعي الجماعة المسيحية أنّ مهمتها هي المساعدة في إيجاد أساليب للقاء والتواصل في داخلها أولًا، من خلال العلاقات بين الاشخاص التي تحرص فيها على كل شخص. وأنّ تتعهد الجماعة الكنسية  بعدم التضحية بنوعية العلاقة الشخصية في سبيل كفاءة البرامج، وأن تعتبر تعزيز العلاقات الناضجة بمثابة شهادة لمحبة الله، وأن تكون قادرة على الاستماع والمعاملة بالمثل. بصفة خاصة، العلاقات بين الدعوات المختلفة يجب أن تجدد نفسها بالقدرة على التقدير المتبادل، والتزام الرعاة بالاستماع للعلمانيين، وتعزيز مهاراتهم واحترام آرائهم.  من ناحية أخرى، يجب على العلمانيين أن يتقبلوا بروح الأبناء تعاليم الرعاة كدليل على اهتمام الكنيسة بالوقوف بجانبهم وتوجيه مسيرتهم. ففي الواقع، هناك رباط وثيق بين الرعاة والعلمانيين، عن طريقه وحده ينمون معًا أو يسقطون معًا بالمنظور المسيحي الأصيل. فطابع الشركة الذي تختبره الجماعة هو بمثابة تدريب لكي يصل روح الوحدة إلى أماكن الحياة العادية. لذا، هبة الشركة التي يمنحها الله يجب أن تعزز، خاصة من خلال العلمانيين المسيحيين، كافة السياقات في الحياة وتسهم في  تجديد النسيج البشري. (من “وَلدَنا ثانِيَةً لِرَجاءٍ حَيٍّ” (1 بط 1: 3): شهود ل ” نَعَمْ” الله العظيمة التي قالها للإنسان).

  • الخلاصة

بموقفه الرعوي، بدأ المجمع عملية إصلاح الكنيسة، وهي العملية التي مَسَّت كافة النقاط المؤسسية الرئيسية (الذاكرة، اللغة، السلطات، والحدود)، وبنحوٍ خاص علم اللاهوت الرعوي الذي تسلَّم مجالاً واسعًا وثريًا للعمل، فقد دُعي لمساعدة الكنيسة على تطوير أدوات ولغة معالجة القضايا الرئيسية مثل:-

  • طريقة جديدة للتفكير في الكنيسة كفاعل وطرق جديدة للعيش والتعبير عن كيان الكنيسة الذاتي (التجمع والمشاركة والزمالة)؛
  • مهام ومجالات جديدة للممارسة المسيحية: التمييز، الكرازة (أولوية الكلمة)، الشهادة والخدمة؛
  • التحدي والمصاعب المتأتية من التزام الكنيسة بتفسير ذاتها بنموذج ثقافي مُتغير تمامًا (العلمنة)، وبالتالي بطرق مختلفة لتصور حضور المسيحية في الثقافة (خميرة، حضور)؛
  • التحدي والمصاعب المتأتية من تطور انحراف تاريخي للهوية الكنسية (كيفية مواصلة رؤى نور الأمم 8 و فرح ورجاء 44: الطابع النبوي لمتطلبات الصفح من قبل الكنيسة التي حثت عليها وثيقة إطلالة الألف الثالث و Mea culpa للبابا بولس الثاني).
  • فكرة الذاكرة والتقليد يتم تفسيرها ليس كنص مكتوب ولكن كطريقة لتسجيل خبرة مُعايشة الكنيسة للحقائق الإيمانية وللإنجيل في حقبة زمنية معينة. تُعاد تفسير تلك الخبرات بشكل مستمر وسردها في حقب المسيحية المتتابعة. وبالتالي تغيير طريقة قراءة والاستناد إلى التقليد في الكنيسة: فالتقليد هي خبرة للكنيسة في زمنٍ ما تكون على نفس مستوى عظمة خبرة الكنيسة في الممارسة الحالية في زماننا المُعاصر، وقابلة للمقارنة معها أيضًا. العهد الجديد أو النشاط الكنسي عبر تاريخ الكنيسة، كلاهما يتكون من أفعال ملموسة تمكن من خلالهما المسيحيون مِن فهم رمزية الحقائق الإيمانية وتطبيقها في واقعهم التاريخي. يفتح هذا التأكيد مفاهيم جديدة تمامًا وغير مسبوقة لفهم النشاط الكنسي، والعمل الرعوي.
مفهوم المجمع لعلم اللاهوت الرعوي[2]

صيغة “اللاهوت الرعوي” تكرَّرت مرّة واحدة في وثائق المجمع (المجمع المقدس 16)، ولكن مفهوم هذه المادة التعليمية، ومجالها أو موضوعها وعلاقتها بالعلوم الأخرى يمكن أن نجدهم في مختلف وثائق المجمع، كما أنّها تمثل موضوعًا خاصًّا في المرسوم الخاص بالتنشئة الكهنوتية، حيث نجدها بالطبع في السياق الخاص بتنشئة رعاة المستقبل. وتجدر الإشارة إلى أن المجمع يؤكِّد، في وثائق مختلفة، على الخاصية و الغرض الرعوي لعلم اللاهوت بكامله، وأنّه في هذا السياق يمكننا أن نفهم على نحو أفضل تصريحاته عن اللاهوت الرعوي بالمعنى الدقيق للكلمة.

الطابع الرعوي لعلم اللاهوت

يتطلب الدستور حول الكنيسة في العالم المعاصر أن يكتسى اللاهوت كله بخاصيةرعوية“، بمعنى أنّه يجب أن يكون لاهوتًا يعمل على حلّ المشاكل المعاصرة والتي تنشأ باستمرار، لاهوت يتعلّق جوهريًّا بكلمة الله وإيمان الكنيسة وما تهدف إليه، لكي يكون مفيدًا للعاملين وللعاملات في المجال الرعوي  فيمكنهم استخدامه في أنشطتهم المتعددة الأشكال. وينصّ الدستور السابق ذكره على ما يلي: (فرح ورجاء 44ب)؛ (فرح ورجاء 62ب)؛ (فرح ورجاء 62ي).

أمّا وثيقة إلى الأمم فتقول بأنّ مهمة البحث اللاهوتي هي مساعدة الكنائس المحليّة على اتخاذ العناصر الصالحة الموجودة في العادات والتقاليد، في المعرفة والثقافة، في فنون وعلوم الشعوب التي تضرب بجذورها فيها، بطريقة نقدية. هذه هي المهمة التي سُميت فيما بعد الأقلمةالإنثقاف. ينص المرسوم على ما يلي: (إلى الأمم 22ب).

الغرض الرعوي من منهج الدراسات الفلسفية واللاهوتية الدراسي بأكمله، والدراسات اللاهوتية، بصفة خاصة، تؤكده بشكل لا لبس فيه وثيقة المنشود للكنيسة كلها (14ب؛ 16أ). التوجُّه الرعوي لكافة الدراسات الكنسية يرتبط بمقتضى “أن تسهم متفقة في تفتح عقل الطلاب… ” (14أ).

إذًا الغرض الرعوي للعلوم اللاهوتية مرتبط  بأن ” ينهل الطلاب بإهتمام العقيدة الكاثوليكية من الوحي الالهي.. ” (16 أ). كما هو واضح، فإنّ الغرض الرعوي الدراسات الكنسية التي تهدف إلى تنشئة كهنة المستقبل يقدمها المرسوم لا بمعنى النهل من الصرامة العلمية التي تميز هذه التخصصات المطلوبة للتنشئة الملائمة (16أ؛16ج؛16د)، بل بالأحرى بمعنى إصلاح مضمونها، بحيث تتركز على سرّ المسيح وتاريخ الخلاص، الذي هو سياق الخدمة الكهنوتية. وبعبارة أخرى، فإن الغرض الرعوي من هذه الدراسات يفترض ويتطَّلب أن تكون التخصصات فرادى فيها في حد ذاتها بُعدًا أو نوعية راعوية مرتبطة بالمحتوى الذي تقدمه.

البُعد الرعوي للتخصصات اللاهوتية المختلفة

المرسوم نفسه، في توضيحه لكل تخصص من التخصصات اللاهوتية، يقدم معلومات تنويرية حول الموضوع قيد النظر.

يرتبط البعد الرعوي في دراسة الكتاب المقدس بالتفسير واللاهوت الكتابي لأهميتها في الحياة الروحية والوعظ (16ب؛ كلمة الله 23، 26أ).

ترتبط النوعية الرعوية في اللاهوت العقائدي مع توجهها الكتابي-الآبائي و التاريخي-العقائدي أساسًا، المطلوب من أجل الدخول بشكل أعمق في أسرار الخلاص ومعرفة صلة وساطة الكهنوت؛ بالإضافة إلى الانتباه الخاص بوجود مثل هذه الأسرار في الليتورچيا وحياة الكنيسة؛ وأخيرًا، بحثه عن حلٍّ للمشاكل البشرية في ضوء الوحي، وتطبيق الحقائق الأبدية على الظروف المتغيرة لهذا العالم واكتشاف الأساليب المناسبة لتوصيلها للناس المعاصرين (المنشود 16ج).

أمّا الخاصية الرعوية للاهوت الأدبي فترتبط <<بالعرض العلمي…>> (16 د).

أيضًا، البُعد الرعوي للتخصصات الأخرى مثل الحق القانوني، والتاريخ الكنسي، الليتورچيا، المسكونية، والأديان غير المسيحية، يرتبط بتقليدها الخاص على أن يستلهم من التجديد الذي أحدثه المجمع في العلوم الكنسية، وفيما يتعلق بالحق القانوني والتاريخ الكنسي، والعقيدة وتوجّهات وثائق المجمع المتعلقة بكل منها، فيما يتعلق بغيرها من المواد المدرجة (المنشود 16 د ه و).

حول بعض التخصصات اللاهوتية، أشار مرسوم إلى الأمم أيضًا إلى الجانب التبشيري المندرج بطبيعة الحال في تلك الخدمة الرعوية، وبطريقة ما، يحدد مواصفاتها. <<في تدريس المواد..>> (39 ج).

اللاهوت الرعوي

وكما هو موثق في السابق، أنتجت السلطة التعليمية المجمعية، رغم الحدود المُشار إليها، فكرًا لاهوتيًّا- راعويًّا، عامًّا وذو نمط أساسي. إلا أنّه لم يقدم في تصريحاته، نصوصًا صريحة في هذا الشأن. وهذا أمر مفهوم إذا ما أخذنا بالاعتبار الأحداث التاريخية التي رافقت هذه المادة التعليمية ووضعها في الكنيسة الكاثوليكية عشية انعقاد المجمع.

ما يقوم بتعريفه أولًا وقبل كل شيء هو المجال الخاص باللاهوت الرعوي، مفهومًا على أنّه نظرية التقدم في الحياة الكنسية، مع إشارة واضحة إلى الكهنة المرتسمين ومهام العاملين الآخرين في الحقل الرسولي. في هذا الصدد، وضحت وثيقة المنشود للكنيسة كلها صراحةً، في الجزء المخصص تحديدًا للتنشئة الرعوية الوثيقة، القطاعات التالية التي تتداخل في اللاهوت الرعوي الخاص: <<التعليم المسيحي،…>> (19 أ).

هذا المرسوم، يقصد بالصيغة النوعية “سائر المهام الرعائية”، الإشارة إلى التوجيهات الواردة في الوثائق المجمعية الأخرى بشأن سلوك الجماعة (LG 28bd; PO 4-10; CD 11-18.28)، الخدمة الرعوية لفئات معينة من الناس، و”الوقت المناسب للخلاص” (PO 3.22; CD 12bc.16e; GS 4-10.19-21.43-44.62.76.91)، وعلم الرسالة (AG 26hg.16d.34).

كما تناول المجمع مهمة أخرى للاهوت راعوي مُحدَّث: معرفة نتائج العلوم الأخرى المُسماة العلوم الإنسانية واستخدامها في العمل الرعوي. وثيقة Optatam totius “قرار في التنشئة الكهنوتية” تذكر صراحة التخصصات التربوية والنفسية والاجتماعية (OT 20 e 2d). والجدير بالذكر أنّ هذه العلوم تظهر أيضًا في وثائق مجمعية أخرى (GE 1b; CD 14b.16e; AG 34; GS 62b) ففيها يدور الحديث أيضًا عن البيولوچيا والطب (GS 52d) ، وعن علم الأجناس، وعلوم اللّغة، وتاريخ الأديان وعلم الأديان المقارنة (AG 34). أيضًا وثيقة بين الاكتشافات العجيبة تتناول بشكل عام ضرورة تنشئة الكهنة والرهبان والعلمانيين في علوم الاتصال بالاستخدام السليم لوسائل الإعلام للأغراض الرسولية (IM 15-16).

وأخيرا، تفصل وثيقة Optatam totius “قرار في التنشئة الكهنوتية”  الطبيعة النظرية لعلم اللاهوت الرعوي عن الطبيعة التنفيذية والعملية المرتبطة بالفن الرعوي، الذي ينطوي على تمارين وتدريبات متعلقة بهذا الموضوع (OT 21-22.12).

بالإشارة إلى حقائق هذا التخصص اللاهوتي تفترض تلقائيًّا ملاحظة عامة: المفهوم الذي يقدّمه المجمع عن اللاهوت الرعوي، ونطاقه وعلاقته بالعلوم الإنسانية يستنسخ ما طرحته الكتب الدليلية الكاثوليكية والمحاولات التجديدية في منتصف القرن. إلا أنّه يتجاوزها، بطريقة ما، لأنّه يوسّع مجال الفكر، ليشمل المسكونية والأديان، وعلم الرسالة. في أية حال، مساهمته التجديدية ناجمة من حتمية حقيقة أنه بسلطته التعليمية الرعوية يُغطي مجالًا فكريًّا يتزامن مع  اختصاصات اللاهوت العملي، الذي تطور على مدى القرون الماضية.

[1]  L. Bressan, «“Come mai questo tempo non sapete valutarlo”? (Lc 12,56). Stimoli per un discernimento in tempi di nuova evangelizzazione», in La Rivista del Clero Italiano 1 (2012) pp. 20-33;qui pp. 23-24.

[2]  M. Midali, Teologia pratica, 157-161.

قد يعجبك ايضا
اترك رد