إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

علم اللاهوت الرعوي (6): المجمع الڤاتيكاني الثاني

0 962

المجمع الڤاتيكاني الثاني حدَثٌ كبير في حياة الكنيسة، ومُنعطف خطير في تاريخها الحديث، قادها بهدي الروح القدس إلى وعي ذاتها وطبيعة رسالتها وعيًا أعمق كما أعلن البابا يوحنا الثالث والعشرون في افتتاحية المجمع: “إن هدف المجمع الجديد أن يُعيد إلى وجه الكنيسة بهاءَه الأول الأصيل، وأن تحافظ على الإيمان المقدس وتُعبِّر عنه بطريقة أكثر ملاءمة للعصر”.[1] غيَّر المجمع تاريخ الكنيسة البشري ولا يزل يؤتي ثماره بالرُّغم من مرور أكثر من خمس عقود على انتهاء أعماله: راجع قراءة اللاهوتي چيل روتييه التي ظهرت حول »المدرسة الكاثوليكية«[2]، ودراسات اللاهوتي كريستوف ثيوبالد[3].

لَقدّ أصبح المجمع الڤاتيكاني الثاني مدرسة تعلمت فيها الكنيسة كيفية تعاملها مع مؤسستها وهويتها فأتاح للكنيسة أن تعيد بناء تواصل حيوي مع تراثها واستعادة حيازته بطريقة حيوية. تحتَّم على آباء المجمع التمسُّك بالجذور أي تقليد الكنيسة البالغ عمره ألفي عام وإعادة اكتشاف بعض جوانبه (بفضل الانتعاش القوي لحركات الكتاب المقدس، والآباء والليتورچيا التي شهدها القرن العشرين، والاتصالات الأوثق التي تمت استعادتها مع مسيحيي الشرق)؛ بل وكان يجب عليهم معًا أن يلتفتوا إلى الوقت الحاضر وإلى ظروف العالم الجديدة. لذلك، كان التحدي، على الأقل في الغرب، يكمن في كتابة الخبرة المسيحية بالشكل الجديد للثقافة التي كانت ناشئة ويمكن استشعارها لكن ملامحها لم تكن واضحة. حينئذ، التقليد لم يعد يُنظر إليه كمجرد “كنز ثمين” أو “وديعة” يجب “الحرص عليها كما لو كنا مهتمين فقط بالماضي”، ولكن كـ “عملية حيّة”، كفعل نمو مستمرّ يساعد على الاختيار الجيّد، دون خوف، لنوعية العمل المناسب الذي يناسب العصر الذي تعيشه الكنيسة، ويمكنها في الوقت ذاته من متابعة المسيرة التي خاضتها طوال عشرين قرنًا.

كانت مُهمّة المجمع، باختصار، مُهمّة راعوية، ولكن ليست لهذا السبب أقل عقائدية: فالأمر يتعلّق بتجديد تقديم العقيدة، والتعبير عن الإيمان والخبرة المسيحية[4]. يُمكِّن ذلك تفُّهم الصعوبات والتحديّات التي اكتنفت عملية التجديد التي شهدت الصراع بين تيارين لاهوتيّين:

  • التيار التقليدي: الذي يرتدي ذهنية القرن الثامن عشر، من غير أن يتّسم البتّة بتناغم الإنسان المعاصر وعقليّته، بسبب تزمّته المتشدّد وانغلاقه على نفسه.
  • التيار المُتجدِّد: الذي يعتمد على التجديد بما يتناسب مع الثقافة المعاصرة، والمتمثِّل بنوع خاصٍّ باللاهوتيّينِ موهلر ونيومن. فهو تيارٌ يلجأ إلى الأساليب الإيجابية التي تبتعد كلّ البعد عن التحيّز الفئوي والسلبي في منحاها، كما يمتاز ببعده الروحيّ العميق وانفتاحه على الحركة المسكونية والحوار مع الكنائس الأُخرى.

لم يلبث آباء المجمع بغالبيتهم الساحقة أن تحمسّوا لتيار لاهوت التجديد، خاصّة مع تأكيد البابا يوحنّا الثالث والعشرين إنَّ شرارة التجديد قد اشعلت ثورة كبيرة في الكنيسة لن تنطفئ حتّى تُحقِّق كلّ غاياتها وكامل أهدافها.

إن تبنِّى آباء المجمع التيار الإصلاحي لا يّعني إلغاء التقاليد الإيمانية المتوارثة عبر تاريخ الكنيسة -كما أعلنَ البابا بندكتوس السادس عشر في خطابه المؤرخ 22 ديسمبر 2005 أمام الكوريا الرومانية في وصفه لأعمال المجمع الـﭭاتيكاني الثاني[5]– ولكن تغيير النظرة إلى الكنيسة التي أعطاه الرب لشعبه، من حيث كونها مؤسسة تنمو وتتطوَّر مع الزمن، وفي الوقت ذاته تبقي في أصالتها كشعب الله في مسيرة نحو الملكوت السماوي.

أشار اللاهوتي الكندي Gilles Routhier چيل روتييه أن المناقشات التي دارت حول أهمّيّة المجمع كثيرة، لكن القليل منها يتناول “أسلوب” الوثائق والتعاليم. بيّن روتييه إن مسألة التفاعل المتبادل بين الشكل ومضمون الوثائق أظهرت طريقةً جديدة (أسلوبًا وطريقة عمل) في طرح التعليم العقائدي وإعلان الإنجيل، تحمل في طياتها طريقة مختلفة لتفكير الكنيسة ودورها في العالم، وفي خطَّة الله، فضلًا عن طريقة مختلفة للتفكير في العلاقات بين المعمدين وجميع شعب الله[6]. وهذا الطرح ما سنستخدمه في تحليل نصوص المجمع.

    • الهدف: الطابع الرعوي، انتباه جديد للكنيسة كلّها

ما هو “الأسلوب” الذي تبناه المجمع؟ عبَّر البابا يوحنّا الثالث والعشرون في إفتتاحية المجمع عن ذلك الأسلوب المُقترح بقوله: “من الضروري أن تكون هذه العقيدة المؤكَّدة وغير القابلة للتغيير، والتي يجب أن تحترم بأمانة، متعمَّق فيها ومقدَّمة بطريقة تلبي احتياجات عصرنا. في الواقع وديعة الإيمان، أي الحقائق الواردة في عقيدتنا شيءٌ والشكل الذي به يتمُّ التعبير عن الحقائق الإيمانية شيءٌ آخر. علينا أن نولي أهمّيّة كبيرة للشكل الذي يُعبِّر عن العقيدة مع ضرورة الإبقاء على مضمون الحقيقة الإيمانية ومعناها. يجب علينا أن نولي أهمية كبيرة لهذا الشكل، وإذا لزم الأمر، يجب علينا أن نُصّرَ بصبر على صياغته؛ وسوف نضطر إلى اللجوء إلى وسيلة لتقديم الأشياء التي تتطابق أكثر مع السلطة التعليمية، التي يبرز طابعها الرعوي. (يوحنا الثالث والعشرين، خطاب افتتاح المجمع، عدد 55)[7]. وجه البابا نظر الكنيسة إلى “أسلوب” جديد يعمل على التوافق بين ما يُراد توصيله (المضمون) وطُرق توصيله (الشكل) الذي يتناسب مع ثقافة واحتياجات العصر الذي تعيش فيه الكنيسة.

تعني الرعوية في هذا السياق الاهتمام الموجّه لشكل البشارة، لأشكال عرض الرسالة المسيحية، وبالتالي الاهتمام بالمتحدث، ومستلم الرسالة (العالم المعاصر). إنّه شكلٌ جديد يُقصد به نمط مُختلف من الحضور، من العمل والوعي الذاتي للكنيسة، نهج جديد قائم:-

  • على الحوار وليس على المواجهة الدفاعية مع العالم؛
  • على القدرة على قراءة واقع الكنيسة والإلمام بالبعد المؤسسي والتاريخي والاجتماعي فيها؛
  • على تعلُّمِ طريق مختلفة لإدراج الكتاب المقدس كمصدر لفهم التاريخ والإنسان، ولكن قبل كل شيء كخطة الله للخلاص؛
  • على محاولة العثور على طريقة لقراءة التاريخ والتدخل فيه ( ينظر- يحكم- يعمل، فكرة “التمييز”).

الرعوية إذًا هي شكل لإعادة تشكيل الكنيسة وهي مهمةٌ ليست سهلة ولا فورية. فمهمة الدساتير الأربعة كانت رسم حدود ومسار هذه العملية، التي سوف تتضح أكثر فأكثر لفهم مضمون الحقيقة الإيمانية وأشكال عرضها بصورة تتناسب مع العصر الذي تعيش فيه الكنيسة. لنقرأ نصوص المجمع التالية في محاولة لتفسيرها وفقًا للمنهج الجديد:

الليتُرجيا المقدسة 21: “إن الأمَّ القديسة الكنيسة، في حرصها الشديد على أن ينالَ الشعبُ المسيحي في الليتُرجيا المقدسة وفرةً من النِعم، تريد أن تعمل بجدٍّ على إحيائها إحياءً عامًا. ففي الليتُرجيا قسمٌ لا يقبلُ التغيير، أي قسمٌ مِن وضعٍ إلهيٍّ، وأقسامٌ تقبلُ التغيير ويمكنُ بل يجب إجراءُ التغيير فيها مع تقلُّب الزمان، وذلك إذا داخَلَها ما لا يتّفقُ إتفاقًا كاملًا والطبيعة الخاصة لليترجيا نفسها، أو إذا أصبحت تلك الأقسامُ غيرَ ملائمة” .

نور الأمم 8: “وإنّ المسيح، الوسيط الواحد، قد أقام على هذه الأرض كنيسته مقدّسةً، شركة إيمان ورجاء ومحبة، هيكلًا عضويًّا منظورًا، وهو يسندها على الدوام، ويفيض بها على الجميع الحقيقة والنعمة. بيد أنّ هذا المجتمع المجهّز بأعضاء ذوي سلطات، جسد المسيح السرّي، الجماعة المنظورة والشركة الروحية، كنيسة الأرض والكنيسة الغنيّة بنعم السماء، يجب ألاّ يعدّ حقيقتين، بل هو حقيقة واحدة مركبة، ذات عنصرين بشريّ وإلهيّ. ومن ثمّ فليس من قبيل العبث في القياس أن يشبّه بسرّ الكلمة المتجسّد.فكما أنّ الطبيعة التي تدرّع بها الكلمة الإلهيّ يستخدمها أداةً حيّةً للخلاص متّحدةً به اتّحادًا لا ينفصم، كذلك أيضًا المركب العضويّ المجتمعيّ الذي تتألّف منه الكنيسة يستخدمه روح المسيح، الذي يحييه، سبيلًا إلى نموّ الجسد (أف4: 16). تلك هي كنيسة المسيح الواحدة التي نعترف بها في قانون الإيمان بأنّها واحدة مقدّسة جامعة رسوليّة،والتي سلّمها مخلّصنا بعد قيامته إلى بطرس لكي يكون لها راعيًا (يو21: 17)، والتي أناط ببطرس وسائر الرسل أمر نشرها وقيادتها (متّى 28: 18وما بعده)، والتي أقامها على الدّوام “عمودًا للحقيقة وقاعدةً لها” (1تيم 3: 15). هذه الكنيسة التي أنشئت ونظّمت كمجتمع في هذا العالم إنمّا تستمرّ في الكنيسة الكاثوليكيّة التي يسوسها خليفة بطرس والأساقفة الذين هم على الشركة معه، وإن تكن عناصر عديدة للتقديس والحقيقة لا تزال قائمةً خارج هيكلها العضويّ المنظور، من حيث هي مواهب خاصة بكنيسة المسيح، إلى الوحدة الكاثوليكية.

الوحي الإلهي 7: ” لقد أعدَّ الله بحلمه الفائقِ ما كان قد أوحى به لخلاصِ جميعِ الأممِ كي يدومَ بكُلِّيَتِهِ مدى الدَّهر، ويُسَلَّمَ للأجيالِ كلها. ولهذا فإن السيّدَ المسيحَ، الذي فيه يتمُّ وحيُ الله العلي بكاملِهِ (راجع 2 كو 1 / 30؛ 3 / 16 – 4 / 6)، بعد أن كمَّلَ وأعلن بنفسِهِ البشارةَ التي كان الأنبياءُ قد وعدوا بها، أَمَرَ رسلَهُ وأعطاهم المواهبَ الإلهيَّة ليكرزوا بها على الجميعِ ينبوعًا لكلِّ حقيقةٍ خلاصيَّةٍ ونظامٍ أخلاقي. ولقد تحقَّقَ ذلك بكلِّ أمانةٍ إما عن يَد الرسلِ الذين لم تكن كرازتهم الشفوية ومثالهم ومؤسساتهم سوى نتيجةً لأقوالِ المسيحِ أو لصُحبَتِه أو لأعماله أو لِما تعلَّموه بوحيٍ من الروح القدس الذي به دوَّنوا بشارةَ الخلاص. بَيد أنَّ الرسلَ تركوا خلفاء لهم الأساقفة “وسلَّموهم مكانتهم التعليميّة” لتظلَّ البشارةُ دائمًا تامَّةً وحيَّةً في الكنيسة. بناءً عليهِ أصبح التقليدُ المقدَّسُ والكتابُ المقدس في عهدَيه بمثابةِ مِرآة تتأمل فيها الكنيسة، في غُربتها على الأرض، في الله الذي يَمنحها كلَّ شيء إلى أن تَصِلَ إلى معاينته كما هو وجهًا لوجه (راجع 1 يو 3 / 2)”.

الكنيسة في عالم اليوم 44: إن الكنيسة تسفيد أيضًا من خبرة الأجيال الماضية وتقدم العلوم، وما تحويه الثقافات المختلفة من ثرواتٍ خفية تسمح بمعرفة الإنسان ذاته معرفةً أعمق، وتشقّ للحقيقة طرقًا جديدة. فمنذ بدءِ تاريخها، عكفت على إستخدامِ لغات الشعوب المختلفة وكلماتها للتعبير عن بشارة المسيح، كما أنها اجتهدت، فضلًا عن ذلك، أن تبّين قيمتَه، مستخدمةً حكمةَ الفلاسفة: وذلك حرصًا منها لتجعل الإنجيل، ضمن الحدود اللائقة، مفهومًا من الجميع، موفِقة بينه وبين مقتضيات الحكماء. وبالحقيقة يجب أن تبقى هذه الطريقة الخاصة لإعلان الكلام الموحى، قاعدةً لكل تبشير. وعلى هذا المنوال يمكن أن تحضّ كلَّ أمة لكي تتمكن من التعبير عن البشارة المسيحية وفقًا للطريقة التي تناسبها، فينمو هكذا التبادل الحي بين الكنيسة والثقافات المختلفة. ولتقوية هذا التبادل، خاصة في أيامنا التي يسير فيها كل شيء بسرعة، وتتنوع طرقُ التفكير تنوعًا كثيرًا، تحتاج الكنيسة إلى مساندةِ الذين يعيشون في العالم ويعرفون أنظمته المتنوعة وقوانينه المختلفة ويفكرون كما يفكر، سواء كانوا من المؤمنين أم من غير المؤمنين. إنه يعود إلى شعب الله، وبالأخص إلى الرعاة واللاهوتيين، أن يتفحصوا بمساندةِ الروحِ القدس، ويميزوا ويشرحواالكلامَ المتنوع الذي يتداوله عصرنا، وأن يحكموا عليه على ضوء الكلام الإلهي. وما ذلك إلاّ لتُدرَك الحقيقة الموحاة وتُفهَم فهمًا متزايدًا فتُعرَض بشكل أكثر ملاءمة. وبما أن للكنيسة تركيبًا إجتماعيًا منظورًا يدل على وحدتها في المسيح، تستطيع أن تغتني، وفعلًا تغتني، من سياق الحياة الإجتماعية: لا لأنه ينقص شيء في الدستور الذي ركّزها عليه المسيح، ولكن لكي ترسخه وتعبر عنه تعبيرًا أصدق ليتناسب مع عصرنا بطريقة موفقة. إن الكنيسة لَتُقِرُّ شاكرةً بأنها تقبل مساعدة متنوعة، من قِبَلِ أُناسٍ ينتمون إلى كل الطبقات والأوضاع. وهذه المساعدة تعود بالنفع إلى الجماعة التي تؤلفها، وإلى كل من أبنائها. فكل الذين يساهمون في إزدهار الجماعةِ البشرية على المستوى العائلي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي والسياسي (على الصعيد الوطني أو الدولي) يقدّمون هكذا، ووفقًا لمخطط الله، مساعدةً لا يُستهانُ بها إلى الجماعة الكنيسة، بقدرما تربط الكنيسة بالعالم الخارجي. أضف إلى ذلك أن الكنيسة تعترف بأنها إستحصلت على منافعَ جمة ولا تزال، من مخاصمة أعدائها ومضطهديها بالذات.

النصوص الواردة أعلاه واضحة لدرجة أنّها لا تتطلب شرحًا كثيرًا:-

  • تتطلّب العلاقة بين الحياة اليومية وسرّ الكنيسة قراءة واقعها المُركب والمُتَعدّد، الإلهي والبشري، بداية من بعدها المنظور (الروابط والعلاقات الاجتماعية) الذي يجب دراسته لاهوتيًّا بمعونة علم الاجتماع ولكن على ألاّ ننسى أنّ الكنيسة لا تقتصر على البُعد المنظور وحده وإنما حقيقتها قائمةٌ خارج هيكلها العضويّ المنظور. فالمفهوم واسع ومعقد فهي ليست منظمة تتمحور حول السُلم المتدرج للإكليروس، ولكنها مؤسسة “أُنشئت ونظمت كمجتمع في هذا العالم” (نور الأمم، 8) بكل تعقيداته سواء في التاريخ أو الشكل أو الكيان يربطها معًا بإحكام مبدأ ديناميكي، هو مبدأ الشركة (نور الأمم،23).
  • الأهمية البالغة للتبادل الحيّ بين الكنيسة والثقافات والمجتمعات المختلفة لكي تصل البشارة الإنجيلية بصورة تتناسب مع تلك المجتمعات. فالفكرة الواردة في (الكنيسة في عالم اليوم، 44) التي تنص على أن الكنيسة لا تقتصر على التعبير عن البشارة المسيحية وفقًا للطريقة التي تناسب ثقافة المجتمع، ولكن يُمكن أيضًا أن تتلقى شيئًا ما من عالم اليوم. فقانون »كل كرازة إنجيلية«: الاصغاء إلى الثقافة، واستخدام لغتها وأدواتها للنطق بالبشارة الإنجيلية يجعل الكنيسة أكثر قدرة على التعرف على الثقافات وتأثيرها في بناء الوجه التاريخي للمسيحية.
  • أساس كل شيء هو ما ورد في الوحي الإلهي 7، ذلك النص الذي يبين قصد الله الأصلي الذي يُمكن التعرف عليه في تاريخ الإنسان من خلال العلامات التي وضعها (المسيح، الكنيسة [التقليد الكنسي]، والكتاب المقدس).

يختلف المجمع الڤاتيكاني الثاني عن المجامع الأخرى، حتّى من قبل الأفكار التي طورها، بسبب النهج الرعوي الذي اتخذه، مُتخليًّا عن اللغة القانونية والفنية التي تميّزت بها المجامع السابقة، مُتّبنيًا لغةً تعكس وعيًا جديد بعلاقة الكنيسة مع العالم، وتُحدِّد موقفًا جديدًا تُجاه العائلة البشرية، خاصةً تُجاه الذين لا ينتمون للكنيسة، ونظرة جديدة لحقائق العالم. لغةً جدَّدت علاقة الكنيسة الحيوية والديناميكية مع كلمة الله، التي ستذهب بها، إلى ما وراء صيغ المدارس التقليدية بتفحُّص بعض العبارات الجديدة في كلمة الله لتستخرج من هذا الكنز “ما هو جديد وما هو قديم”.

أصبحت المسألة الرعوية مسألةً محورية في الفكر اللاهوتي الرعوي الذي شهد تطورًا كبيرًا في أعقاب ما أثاره المجمع بشأن “التحديث” ومن بعده مشروع “الكرازة الجديدة”. انشغلَ اللاهوتي الفرنسي كريستوف ثيوبالد بتفسير البعد الرعوي وفقًا لقصد المجمع الڤاتيكاني الثاني، ولا سيّما في ضوء الصيغة التي طرحها البابا يوحنّا الثالث والعشرون في افتتاحية المجمع. انطلاقًا من ضرورة تقديم “الحقائق الأبدية عن الإيمان” بطريقة جديدة، طلب البابا يوحنا الثالث والعشرون، كما ذكرنا سابقًا، من آباء المجمع أن يضعوا في الاعتبار “الطبيعة الرعوية” للمجمع، أي ضرورة جعل رسالة الإنجيل مسألة هامّة من جديد لدي الإنسان المعاصر. تعنى “الرعوية” بالتالي البشارة بالإنجيل مع الأخذ بالاعتبار حال المتلقين الأنثروپولوچية (اللغوية والثقافية والدينية …) لهذه الرسالة. حاول ثيوبالد، باعتباره لاهوتيًّا، وضع أساسًا نظريًا لهذا الافتراض الرعوي الصريح بقصد توضيح اندراج فعل الإيمان في الخبرة البشرية على هذا النحو[8]. أكدَّ ر. ريپول هذا المفهوم بقوله: »إنّ الحقيقة غير موجودة إذا لم تصبح حقيقة بالنسبة لي وبالنسبة لنا؛ وكلمة الله ذاتها لا تكون كذلك إذا لم يكن هناك من يقبلها ويرحب بها«. الحقيقة المتجلية »لا تكون موجودة إلا بالفعل ذاته الذي به يتم الاصغاء إليها وقبولها […]. بل هذا يعني أيضًا أن هذه الكلمة لا نحوزها إلا بفعل التفسير ذاته« (متلقي البشارة [وسياقها] هو جزء من البشارة ذاتها).

    • الدستور الرعويGaudium et spes “الكنيسة في عالم اليوم”

استند الدستور الرعائي “الكنيسة في عالم اليوم”، في قسمه الأول، إلى المبادئ العقائدية بهَدف الإفصاح عن علاقة الكنيسة بالعالم في هذا الزمان، وذلك بتبسيط عقيدة الكنيسة الخاصّة بالإنسان والعالم الذي يُقيم فيه البشر. ثم تناول في القسم الثاني الموضوعات الأشد إلحاحًا في زمّننا الحاضر معتمدًا على منهج: ينظر – يحكم- يعمل.

المفاهيم الرئيسية:

  • “الرعويات”: حسُّ التضامن الحقيقي والوثيق بين الكنيسة ورسالتها الخلاصية من جانب، وبين العائلة البشرية بأسرها التي تُخاطبها الكنيسة من جانب آخر. رسالةٌ تُعرض على جميع البشر بما فيها الكون الذي تعيش فيه البشرية: (1-2)؛
  • الحوار مع جميع الناس بشأن مشكلات الإنسان الأساسية (الغاية الأخيرة هي خدمة الإنسان الواحد والكلّ، النفس والجسم، القلب والوجدان، الفكر والإرادة، وخدمة العالم “تأسيس أُخُوَة شاملة): (3)؛
  • اهتمامٌ عميق باكتشاف “علامات الأزمنة” وتفسيرها في ضوء الإنجيل حتىّ تتمكَّن الكنيسة بأن تُجيب بصورةٍ ملائمة على تساؤلات الناس في كلِ عصر من العصور. ولتحقيق ذلك قدمَ المجمع ملامح للظروف والتغييرات التي يتعرض لها الإنسان اليوم والتي يمكن من خلالها التعبير عن الاحتياجات والتطلعات البشرية وتُثير تساؤلاته العميقة: (4- 10)؛ تُعبر تلك التغييرات والتساؤلات عن علامات الأزمنة التي على الكنيسة قراءتها جيدًّا (النظر) و(الحكم) على القيم المستمدة منها وربطها بمصدرها الإلهي وتطهيرها من كل عوامل الفساد ثم (العمل) على بناء مجتمع بشريٍّ أكثر إنسانيّةً يُحقِّق قصد الله من خَلق الإنسان في الكون. على أن يأتي طرح النموذج الجديد تجاوبًا وتعاونًا بين شعب الله والجنس البشري المندمج فيه هذا الشعب ليتبادلا الخدمات في إطار مُتكامل من التعاون لتحقيق قصد الله (يتبع المجمع منهج راينر “التحليل اللاهوتي للموقف” في هذا الصدد).
  • أول “علامات الأزمنة” والعلامة الكبرى هو الإنسان. هو نقطة الانطلاق لإعلان خطّة خلاص الله المتعلِّقة بالجنس البشري في بعده الشخصي والاجتماعي والاقتصادي. ثُمَّ قراءة لعلامات الأزمنة:
  • كرامة الشخصية البشرية (12 -22)؛
  • الجماعة الإنسانية ومفهوم المجتمع (23- 32)؛
  • النشاط البشريِّ في الكون (33- 39)؛
  • القسم الرابع (40- 45) يندرج كاستجابة للكنيسة لهذه العلامة من علامات الأزمنة، ويأخذ الكنيسة في الاعتبار بشكل مباشرة من حيث إنّها موجودة في العالم، وتعيش وتعمل معه.

[1]  Giovanni XXIII, Discorso di apertura del concilio Gaudet mater Ecclesia, 11 ottobre 1962, in AAS 54 (1962), p. 762s.

[2]  G. Routhier, «Il Vaticano II come stile», in La scuola cattolica 1 (2008), pp. 5-32; G. Routhier, «Sull’interpretazione del Vaticano II. L’ermeneutica della riforma, compito per la teologia», in La Rivista del Clero Italiano, 11 (2011), pp. 744-759; G. Routhier, «Sull’interpretazione del Vaticano II. L’ermeneutica della riforma, compito per la teologia», II, in La Rivista del Clero Italiano, 12 (2011), pp. 827-841.

[3]  C. Theobald, «È proprio oggi il ‘momento favorevole’. Per una lettura teologica del tempo presente», in La Rivista del Clero Italiano, 5 (2006), pp. 356-372. C. Theobald, «Tornare alla sorgente. La recezione del vaticano II», in Il Regno 2 (2012), pp. 27-32.

[4]  G. Routhier, «Pensare oggi la Chiesa di domani», in La Rivista del Clero italiano 6 (2007), pp. 406-425.

[5]  Benedetto XVI, Insegnamenti di Benedetto XVI. I, Libreria Editrice Vaticana, Città del Vaticano 2006, pp. 1018-1032.

[6]     G. Routhier, «Il Vaticano II come stile», pp. 31-32.

[7]  الخطاب الشهير “لتفرح أمنا الكنيسة”، 11 أكتوبر 1962، ف 5 و 6، الذي ذكرت ملحوظة عنه في فرح ورجاء، 62.

[8]  على الأقل من حيث المنطوق، هذه الطريقة لتفسير مفهوم “الرعوية” هي قلب اقتراح اللاهوتي ثيوبالد، لأنّها توصف كمحاولة للتفكير في أن الشمول والعالمية هي مسألة متأصلة في الإيمان نفسه.

قد يعجبك ايضا
اترك رد