إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

تاريخ الحياة المكرسة (16): الفرنسيسكان، الرهبان المتسولون

0 1٬247

القديس فرنسيس والإخوة المتسولون

لقد أحس فقير أسيزي الصغير بأن الله يكلفه بإصلاح بيته (كنيسته). فعمل بأمانة على حب الكنيسة ورجال الإكليروس أيًّا كانت حالتهم: قديسين أو مساكين[1]. فهو الذي أخذ على عاتقه العيش بحسب إنجيل ابن الله، فلَمْ يُنَصِّبْ نفسه حاكمًا على أحد، بل كان يصنع رحمة مع الجميع بلا تفرقة. إنه لا يساوم بل يحيا حسب تعاليم الإنجيل فتصبح مواقفه هي القاضي الذي يشجب الشر الموجود في الكنيسة: ففقره يدين، في صمت، ثروات كبار رجالها، وتصميمه على أن يعيش أصغر الكل متضامنًا مع أفقر الناس يعلن عدم نفع سيطرتها على الساحة السياسيّة، وتسلحه بالسلام والوداعة والمودة لمن يختلف عنه في العقيدة وَينتصر على العنف والحروب الصليبيّة والحركات التي جعلت مَن يحارب ويقتل الآخر، دفاعًا عن الأماكن المقدسة راهبًا، وغيرته على التبشير وإعلان كلمة الله تخزي العمل الرعويّ المُنحصر في وظيفة تُؤَدّى، والعيش في جماعة الكل فيها إِخوة تنتقد الشكل الهرميّ الذي يحياه المجتمع الإقطاعيّ بأسره.

  • سيرة القديس فرنسيس

ولد فرنسيس فى مدينة أسيزى عام 1181أو 1182 في أسيزي، .كان والده بطرس برناردوني تاجرًا ثريًا للأقمشة، أما أمه فهي سليلة لأسرة فرنسية نبيلة، لذا أراد أن يُدعى باسم فرنسيس، أي الفرنسيّ الصغير، نظرًا لحُبه الشديد لفرنسا، سوق تجارته الرابحة. تعلّم القراءة في كنيسة القديس جورج، ولم يكن لديه أيّ تعليمٍ آخر. ويؤكد هذا وصف فرنسيس لذاتِهِ، عندما يقول عن نفسه إنه “جاهِلٌ وغَيرُ مُتَعَلِّم”[2].

كان طموحه أن يُصبح فارسًا، فشارك في الحرب ضد مدينة بيروجا، ثم انضم لموكب من فرسان أسيزي متوجهًا إلى بوليا، لمحاربة الألمان، ضمن صفوف الجيوس البابوية، ولكنه تخلى عن حلم الفروسية بعد فترةٍ أَسر، سمع خلالها نداء الله له بإتباعه لمساندة كنيسته. فكر في البداية بطريقة مادية لترميم كنيسة العذراء سلطانة الملائكة، والتي تُعرف بالبورسيونكلا. ولكن ها هو صوت العلى يَهُزُ صميم كيانه ثانية، عندما سمع الكاهن يقرأ الإنجيل وهو يقول: “اذهبوا، وأَعلنوا أنه قد اقترب ملكوت الله…؛ لا تحملو للطريق شيئًا، لا عصًا ولا مذودًا ولا خبزًا ولا مالًا…”[3].

اعتبر فرنسيس هذه الكلمات برنامجًا لحياته، فنفذها حرفيًّا وبدأ يبشر في أسيزي، فانضم إليه برناردو من كوينتافاللى، وبيترو كاتّاني وعشرة أخرين، فتوجه إلى روما،  لمقابلة البابا إينّوشنسيوس الثالث (1198 – 1216)، سنة 1209، وحَظِيَ فرنسيس والجماعة الأولى في السادس عشر من أبريل، بالاعتماد الشفهيّ، من قِبَل الحبر الأعظم.

جاهد فرنسيس وتلاميذه في عيش تعاليم الإنجيل في الفقر، كما تم التعبير عنها في إنجيل متى 10: 9- 10، بطريقة حرفية تقريبًا. فتجولوا في القرى طالبين للصدقة، واثقين إن الله سيشملهم برعايته. اتخذ فرنسيس ثوبًا بسيطًا، كان يستعمله الفلاحون البسطاء، متمنطقًا بحبلٍ يشد به وسطه، منتعلًا الأرض كحذاء له، متجولا للتبشير بالملكوت، داعيًا الناس للتوبة. انضم إليه مجموعة من التلاميذ ومايلبث أن ازداد عددهم حتى وصل إلى خمسة ألاف راهب قبل وفاته. عاش الرهبان الفرنسيسكان في فقر حقيقي في بادئ الأمر، فلم يمتلكوا شيئًا بصورة فردية أو جماعية، عاشوا في الكنائس المهجورة، أو في مغاور الجبال، كما أن اعتمدوا على العمل البدني في الحقول، خاصة في أوقات الحصاد، لسد احتياجاتهم، وفي أوقات كثيرة تسولوا غذائهم، لذا أطلق عليهم “الرهبان المتسولون”.

هذه المثل الفرنسيسكانية تحمل بعض أوجه الشبه الواضحة مع أسلوب الفالدويون، السابق الإشارة إليهم، لكن ما مَّيّز فرنسيس إنه كان مطيعًا للكنيسة وسلطتها. كان راسخ الإيمان بسلطة القساوسة وكفاية الطقوس الكنيسة، حتى إذا قام بها قسيس في حالة خطيئة. وهذا جوهر الاختلاف بينه وبين مجموعة فقراء ليون. لذا وافق البابا إينّوشنسيوس على تأسيس جماعة فرنسيس الصغيرة، باسم الإخوة الأصاغر، واعتمد قانونها. أتّاح هذا الاعتماد لأولئك الرجال العلمانيون، بأن يُشبعوا عطشهم الروحي للإقتداء بنمط حياة يسوع المسيح، الذي كان يجول يصنع خيرًا، وليس له مكانٌ ليسند فيه رأسه، والبقاء في الوقت ذاته في حضن الكنيسة[4].

التحدي: ازدهار الرهبنة وجدالية الفقر

حين بدأت جماعة فرنسيس تزداد عددًا، ظهرت جدالات حول درجة الفقر الممكن في رهبنةٍ مكرسة للرسالة. وحين استُعمِلت حجّة الضروريات الأساسية لتبرير استرخاءٍ من الفقر الشديد، حذر فرنسيس قائلا: “سيبتعد العالم عن الإخوة الأصاغر بمقدار ابتعادهم عن الفقر”. وعلى الرغم من معارضة فرنسيس، وأمام وطأة انتشار الرهبنة في أوربا بسرعة كبيرة ظهرت التساؤلات: هل يمكن اتباع التفسير الحرفي لتعليم الإنجيل في مسألة الفقر؟ هل تصور فرنسيس منذ البداية مجموعة من الواعظين المتسولين بدون استقرار وبدون انتماءٍ إلى مجتمع منظم؟ هل أخطأ فرنسيس بإلحاحه على الفقر حتى أن بعض الإخوة جعلوه هدفًا بدل أن يجعلوه وسيلة؟

من الواضح أن الكاردينال أوغولينو قد نصح فرنسيس بتعديل نص القانون قبل تقديمه للكرسي الرسولي للمصادقة عليه. استجاب فرنسيس لهذا الطلب، وصادق المجمع العام للرهبان على “القوانين الثانية” في العام 1223. وصادق البابا إينّوشنسيوس الثالث عليها في نوفمبر من السنة نفسها. وكانت المواضيع الرئيسة للقوانين النهائية هي الفقر والعمل اليدوي ورسالات الوعظ لغير المؤمنين والتوازن بين التأمل والعمل.

كرس القديس نفسه بعدها كليا للوعظ والتوبة والصلاة، وفي 17 سبتمبر 1224 نال نعمة جراحات المسيح في جبل لا فرنا، مسجلاً بذلك أول حالة في تاريخ الروحانية المسيحية، وفيها تظهر بوضوحٍ علامات آلام المسيح في جسد فرد. وفي أبريل من العام 1226، كتب فرنسيس وصيته، ووضع فيها نداءه الأخير من أجل الحفاظ على الفقر الشديد والإخلاص للقوانين. وبعد وفاة القديس وزيادة عدد الرهبان وكثرت احتياجاتهم ومتطلباتهم الأساسية والضرورية للحياة والمعيشة والعمل الكرازي. تدارس الرهبان في المجمع المنعقد سنة 1227 أمر هذه الوصية المتشددة في نذر الفقر وطلبوا رأي الكرسي الرسولي، فحل البابا غريغوريوس التاسع عشر المشكلة في آخر الأمر، وأعلن بمرسومه في العام 1230 أنه لا يمكن اعتبار الوصية قانونًا، ولكنه حدد “إرشادرات رسولية” ينبغي لها أن تتحكم بكل المسائل المادية للرهبان الفرنسيسكان، فتمكنهم بالتالي من المحافظة على الفقر الشديد. أسند البابا الاهتمام بالأمور الماديّة إلى “وسيط” بين الرهبان والمحسنين[5] Muntius، وذلك لتحاشي تعامل الرهبان المباشر مع المال كمسألة لا يقبلها فرنسيس في تعاليمه.

خففت السلطة الكنسيّة طريقة تطبيق نذر الفقر، فسمحت بإمكانيّة وجود ملكيّة في الرهبنة، فكان لمثل هذه التفسيحات دورٌ كبيرٌ في تنميّة الإتّجاه المُعاكس لإرادة المؤسس وعلى سبيل المثال، ما قرره البابا مرتينوس الرابع Martino IV (1281 – 1285)، سنة 1283 في الوثيقة “افرحوا في الرّبّ” Exultantes in Domino، والذي بمقتضاها أكدّ من جديد على أن الكرسي الرسوليّ هو المالك لما تستخدمه الرهبنة ولكن الجديد كان في أن يقوم رؤساء الرهبنة بالدور الذي كان يقوم به الوسطاء فيما يخص التعامل المباشر مع المال، ومَن ثمّ أصبح هناك إمكانيّة الامتلاك في الرهبنة، الأمر الذي يتعارض تمامًا مع ما أوصى به القديس فرنسيسن سواء في القانون أو في الوصيّه عندما يشدّد: “على الإخوة ألاّ يمتلكوا شيئًا: لا بيتًا، ولا مكانًا، ولا أي شيء. وكحجاج، وغرباء، في هذا العالم، يخدمون الرب في الفقر والتّواضع.”[6].

أصدر البابا نيقولو الثالث في العام 1279، وثيقة “خرج الزارع” Exiit qui seminant، والتي حاول فيها تحديد شكل الملكية التي أتاحها سلفه، وذلك بإجازة استخدام الرهبان الأشياء والتّصرف بها باعتبارها ملكيّة الكرسي الرسوليّ وليس ملكية الرهبان.

أفرز هذا الوضع شكلاً مغايرًا لشكل الرهبنة الأصلي، يمكننا أن نميّز فيها بين ثلاث طُرق لحفظ ومعايشة القانون: المتساهلون (Osservanza larga)، وهم أغلبيَّة الجماعة الرهبانيَّة؛ والمعتدلون (Osservanza moderata) ومنهم كان بونافنتورا؛ والمُتشدّدون (Osservanza stretta) وهم قلّة من حيث العدد، ويريدون العودة للأصل ولروح فرنسيس المتواجدة في القانون والوصيّة الَّلذَيْنِ تركهما.

 تطور العلوم الفلسفية واللاهوتية للفرنسيسكان

تزامن ازدهار الرهبنة الفرنسيسكانيّة مع ازدهار العُلوم الجامعيّة في العصر الوسيط. وجديرٌ بالذّكر أنّ عددًا كبيرًا من المثقفين الجامعيين انضموا للرهبنة قبل موت القديس فرنسيس. وتفهّم القدّيس فرنسيس واقع الرهبنة الجديد، لذا أراد أن يُدَرَّس اللاهوت للرهبان، لحاجة الكرازة والدفاع عن الكنيسة. التحق الرهبان بالجامعات كدارسين ومدرسين استعدادًا للرسالة وحمل الإنجيل وتم الاعتراف بهم كأساتذة في جامعات باريس وبولونيا وأوكسفورد. إلا إن هذا التوجه لم يكن مقبولاً من الكهنة الإيبارشيين والأساقفة وذلك ناتج عن رغبتهم في الحفاظ على حقوقهم الطبيعية التي يمنحهم إيّاها القانون الساري في ذلك الوقت.

أسّس الفرنسيسكان والدمينيكان أديرةً بالقرب من جامعة باريس. وفي العام 1229 تسلم الدومنيكان كرسي اللاهوت فيها، تبعهم الفرنسيسكان في العام 1231. بدأ الكهنة الأبرشيون بقياة وليم دو سانت أمور William de Saint-Amour يهاجمون الإخوة. وكتب وليم منشورًا قاسي اللهجة في العام 1255، سعى فيه كي يُطرَد كل الإخوة من الوظيفة التعليمية. وتابع جييرار دو أبــﭬـيل Gerhard de Abbeville ونيقولا دو ليزيو Nicholas de Lisieux الهجوم من العام 1269 إلى 1272. وبفضل القديسين توما الأكويني وبوناﭬـنتورا، تم الدفاع عن موقف الأخوة، وجعلهم البابا ألكساندر الرابع تحت حماية الكرسي الرسولي. فتحولت الرهبنة من جماعة تعيش في أخوّة، هدفها الأوليّ والأساسيّ إعلان حياة التّوبة والاهتداء والخضوع غير المشروط لكلّ أشكال السُلطة الكنسيّة، إلى رهبانيّة ذات طابع إكليريكيّ، لها امتيازات خاصّة من قِبَلِ الكرسي الرسوليّ يعفيها من الخُضوع لسلطان الأسقف الإيبارشيّ المحليّ، وتتبع نظامًا مُسْتَقِلاًّ. وأصبح لرسالتها أوجه متعددة، مما أدى إلى الحاجة لوسائل كثيرة، قد تُهدد من قريب أو بعيد نذر الفقر كما أراده المؤسس. لم يتباطأ الكرسي الرسوليّ عن تخفيفه مما أدى إلى تأزم الوضع أكثر بين أعضاء الجماعة.

رهبانية القديسة كلارا الأسيزية

وُلدت كلارا عام 1139 لعائلة أرستقراطية ثرية، سمعت يومًا بشهرة فرنسيس فدأبت على الاستماع بانتظام لعظاته، فشعرت برغبة قوية للسير على خطاه فخاطبته برغبتها فوافق فرنسيس. بعد عدة محاولات فاشلة من أسرتها لإرجاعها عما عزمت عليه، اضطرت العائلة أخيرًا لتركها في سلام. نقلها فرنسيس إلى كنيسة القدس دميانوس، التي سبق أن رممها فرنسيس، وأعد لها ولرافيقاتها ديرًا صغيرًا، فعاش فيه كلارا حتى وفاتها في العام 1253. في العام 1212 سلم فرنسيس لكلارا ورفيقاتها قانونًا ينظم لهن حياتهن، وانتشرت هذه الرهبانية انتشارًا سريعًا في كل أنحاء ايطاليا وأوربا.

وضعت كلارا قانونها الخاص في العام 1250، ودمجت في الفصل السادس القانون الذي تسلمته من القديس فرنسيس، ذلك القانون الذي اعتمده البابا إينوشنسيوس الرابع في 9 أغسطس 1253. ثم قرر البابا اسكندر الرابع في العام 1261 في وضع قانون للرهبانية مانحًا تسمية جديدة هي “رهبانية القديس كلارا” وسمح للراهبات بالامتلاك على المستوى الجماعي. واستمرت الرهبانية في الخضوع لهذا القانون حتى القرن الخامس عشر، الذي كثف فيه فرع المحافظون (Osservanti) في رهبنة الأخوة الأصاغر الضغط على الكلاريس حتى يعودوا إلى قانون القديسة كلارا لعام 1253.

الرهبنة الثالثة الفرنسيسكانية (العلمانية)

على إثر اعتماد السلطة الكنسيّة لنمط حياة الأصاغر بشكل نهائيّ عام 1223، أقبل عدد ليس بالقليل للانضمام لهذه الجماعة الرهبانيّة، بهدف العيش بروح فرنسيس الإنجيليّة. وإزاء هذا الطلب، أسس القديس فرنسيس جماعة علمانيّة أطلق عليها في البداية اسم “أخويّة التّوبة” وفيما بعد “الرهبنة الثالثة”. تتفرد هذه الأخوّية بانفتاحها على المؤمنين من كلا الجنسين، مِمَّنْ تُحَرِّكهم الرّغبة في إتّباع المسيح على خُطى فرنسيس الأسيزيّ، لكن مع البقاء في العالم، حيث تربطهم بالمجتمع مسئوليات وواجبات عائليّة، ويتطلّعون إلى مُعايشة الإنجيل والشهادة الحيّة له في الحياة وفي الكنيسة. لقد أضفت هذه الأخويّة لونًا جديدًا على الحياة الاجتماعيّة، حَيْثُ دَعَتْ إلى روح المحبة والسلام وبناء “الأُخُوَّة الشاملة” التي يشعر فيها الجميع أنهم أبناء الله. قدمت هذه العائلة أيضًا للكنيسة العديد من الأشخاص الذين كانت حياتهم شهادة تؤكّد إمكانيّة عيش الإنجيل في الواقع العمليّ وتدعو الجميع للأمانة على القِيَم الإنجيليّة والعيش بمقتضاها[7].

نشأت “رهبنة التوبة” مع اعتراف البابا هونوريوس الثالث في العام 1221 بها. ويجب الاعتراف إن هذه التسمية “رهبنة التوبة” لم يصغها القديس فرنسيس أو أحد من رهبانه. ففي العصور الوسطى كانت هذه التسمية تشير إلى منظمة من العلمانيين على شكل “أخوية”، وكان لها جذور متأصلة في القرون الأولى لتاريخ الكنيسة. ترتبط هذه الرهبنة بزوجين هما “لوكيزي” وزوجته، التي لا يُعرف اسمها، من بلدة بوجيبنوسي Poggibonsi، وبشخصيات مثل القديسة أليصابات المجرية والقديس لويس التاسع ملك فرنسا.

انقسام الرهبانية الفرنسيسكانية

أصبح وضع الرهبنة بعد وفاة بوناﭬـنتورا صعبًا، فتمسك الروحيين أو المتشددين بما علمه القديس فرنسيس في قانونه ووصيته بشأن الفقر الإنجيلي بطريقة كاملة وحرفيّة، دون أي شرح أو تفسير، ولا أيَّة امتيازات حبرية، لأنه لا سُلطة للبابا على الإنجيل الذي اتبعه فرنسيس، فبالغت في مفهوم الفقر الفرنسيسكاني واعتبرته القيمةالمُطلقة لبُلوغ الكمال الإنجيلي. في حين كانت الأغلبيَّة العظمى من الرهبان تعيش حياتها الرهبانية وتعمل بقانون القديس فرنسيس حسب تصريحات السلطة الكنيسة وتفسيرها، الذي أتاح نمط حياة يسمح بإعداد الرهبان للوعظ والرسالة والتبشير، واستخدام الأشياء الضرورية لقوتهم وملابسهم ومظاهر العبادة.

أدت تلك الرغبة في العودة لروح المؤسس إلى خلق كيانات جديدة داخل الرهبنة الفرنسيسكانية الواحدة. انقسمت إلى ثلاث كيانات، حتى وإن احتفظوا كلهم بنفس الاسم وهي: الإخوة الأصاغر الديريون (الكونفنتوال) Frati minori Conventuali، والإخوة الأصاغر المحافظون Frati minori Osservanti، وأخيرًا الإخوة الأصاغر الكبوشيون Frati minori Cappuccini[8].

  • “الديرين” الكونفنتوال

هي جماعة الرهبان الذين قبلوا الاقامة بالأديرة  والكنائس التي، بتصريح بابويّ، تم إعلانها ديريّة وبالتالي يقبلون إنعامات وإعفاءات تُخفف معايشة نذر الفقر. وبالتالي يسهل التمييز بينهم وبين باقي الإخوة (المُتشددون) الذين يقيمون في المناسك خارج المدن، ويحفظون حياة الفقر بشكل أصوليّ. أطلق عليهم هذه اللفظة لأنهم تبعوا ليس قانون فرنسيس 1209/ 1210، المُكوّن في الأساس من نصوص إنجيليّة فقط؛ ولا قانون 1221، كونه مكوّنًا من ثلاثة وعشرين فصلاً، وطابعه ليس قانونيًّا، إنما قانون 1223[9]، وهو الصّياغة القانونيّة للقانون السابق والذي اعتمده البابا أونوريوس الثالث كما ذكرنا أعلاه.

يُؤسِّس كلّ فرع من الفروع الثلاثَة في الرهبنة الفرنسيسكانيّة هدفه الأساسيّ على نص القانون ذاته، إلا إن طريقة التفسير التي بها تفسر هذه الجماعة أو تلك القانون المعتمد، وكذلك كيفية معايشته أما بنوعٍ من الصرامة أو المرونة يعد الأساس الذي يقوم عليه انقسام الرهبنة الفرنسيسكانية على مدار التاريخ.  أهتم “الديريون” بالرباط ما بين الصلاة والنشاط الرسولي الرعوي.  فقد كان فرنسيس واعظًا متلهفًا على الإرساليّات، ولا ننسى أنه الأول بين كل مؤسسي الرهبانيّات، الذي خص النشاط الرسوليّ بفصل كامل في القانون الذي صاغه[10]. اتخذ الديريون طابعًا إكليريكيًّا، وكذلك انفتحت على الدراسات المُختلفة. أهم شخصيات الديرين: القديس أنطونيوس البدواني، والقديس بونافنتورا والأخ إيليا من كورتونا.

تقوم جماعة الديريين أساسًا على اختيار فرنسيس للحياة الرسوليّة، بعدما عاش فترة من الزمن مترددًا باحثًا عَمَّا إذا كان عليه العيش في النسك والعبادات التأمليّة أم الحياة الرسوليّة، الصلاة أم الوعظ؟ فاختار الأَخيرة دون أن يهمل الأولى على حدِّ التعبير الذي استخدمه القديس بونافنتورا. كان العمل الرعويّ، انطلاقًا من اختيار فرنسيس هذا، يُمثل لهم أهميّة كُبرى. نتج عن هذا، حتى أثناء وجود فرنسيس بينهم، التّخلي عن المناسك المُتّسمة بالبساطة والفقر وحياة العزلة والتقشف في الجبال، والتوجّه للإقامة في أماكن (كنائس كانت أم أديرة) جيّدة البناء في قلب المدن، وأيضًا الاهتمام بتنظيم الدراسات وتَبَدُّل الشكل العام للرهبنة كي تُصبح ذات طابعٍ إكليريكيّ، والاهتمام بتعدّد الأنشطة الرعويّة واتساعها. ينفرد الديريون في كيفيّة معايشتهم القانون بالمرونة إلى حَدِّ السعيّ للحصول على إعفاءٍ كنسيّ فيما يخص بعض أجزاء من القانون، وبنوع خاص ما يرتبط بمعايشة الفقر.

عمل البابا غريغوريوس التاسع، على أن يَعفي الرهبانَ من الفقر المطلق في جماعة الأصاغر بأنه أقام وسطاء بينهم وبين المُحسنين حتى لا يكون لهم احتكاك مباشر مع المال، وفي نفس الوقت من خلال هؤلاء الوسطاء يستطيع أن يُلبي حاجات الضرورية التي تقتضيها الظروف الجديدة في الرهبنة. كما أنه أتاح إمكانيّة استخدام الرهبان للممتلكات، كونها ملكيّة الكرسيّ الرسوليّ، ذلك لتحاشي إشكاليّة نذر الفقر ومتطلباته بعدم إمكانيّة الملكيّة، خاصّة كانت أم عامّة. وهكذا فعل البابا اينّوشنسيوس الرابع في 1245. فقد سمح أيضًا نفس البابا للقائمين على بناء بازليك القديس فرنسيس بأسيزي بالقبول المباشر للمال.

لم يَرُق هذا جماعة الغيوريين داخل الرهبنة الفرنسيسكانيّة، الذين أرادوا العيش في الفقر المطلق بحسب ما يوصي به القديس فرنسيس في القانون والوصّية، دون أدنى تفسير أو شرح فيما يقدمه الباباوات من مراسيم ووثائق، كونها تساعد على التّساهل والتّهاون وتطفئ حرارة الرغبة للعيش بحسب روح فرنسيس ذاته.

استفاد الديريون بمرسوم البابا اينّوشنسيوس الرابع، “عندما بصفة حقيقيّة” Cum tamquam veri، والذي أعلن رسميًا إن كنائس الأصاغر هي “كنائس ديرية”، وبالتالي لهم الحق في الأعمال التالية: الاحتفال العلنيّ بالأسرار الإلهيّة؛ مهمّة الوعظ؛ ممارسة الأسرار وحِفظ الإفخارستيّا؛ صلاة ليتورجيا الساعات بطريقة الخورس نتج عن ذلك تحوُّل في طريقة الحديث عن أماكن سكن الرهبان[11]، فبينما كان فرنسيس يُسميها مكانًا Loca؛ أو بيوتًا Domus؛ أو مسكنًا Habitacula، سمّاها بونافنتورا، في تشريعات ناربونا، كنائس ديريّة وكنائس غير ديريّة. ترتبط الآخيرة بالمناسك للصلاة والتأمل ومنها إلى العمل الرسولي المُتنقل، بينما الأولى هي في وسط المدن وفيها يتمّ العمل الرعويّ والنشاطات الرسوليّة بشكل مُنظّم ومُقنن، على غرار الإيبارشيين.

  • المحافظين “الإخوة الأصاغر”

هي الفئة التي سعت إلى عودة الرهبنة لمعايشة قانون القديس فرنسيس ووصيته، دون شرح أو تفسير”Sine glossa، وبنوع خاص كل ما يتعلق بنذر الفقر المقدس، غير قابلين على الإطلاق أي تدخل لتخفيفه أو للإعفاء منه، ولو كان هذا التّدخل من جهة السلطة الكنسيّة ذاتها.

تكوّنت جماعة المحافظين من عدة جماعات مستقلة تمامًا الواحدة عن الأخرى في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وتعتبر الجماعة الموجودة بإيطاليا هي الرائدة في هذا الطريق.  بدأت الجماعة مع طلب جوفانّي من فاللى[12] Giovanni della Valle في العام 1334 بأن يُقيم هو وبعض رفاقه في أماكن نسكيّة، ليتسنى لهم حفظ القانون ومعايشته حرفيًّا، بعيدًا عن أيٍّ من التصريحات البابويّة. تم الموافقة على طلبه، فعاش أولئك الرهبان في أماكن صغيرة فقيرة نسكية، دون أن يكونوا خاضعيين لسلطان الرئيس الإقليمي، ثم أدخلوا تعديلاً على الثوب الرهباني، مما أثروا حفيظة الديريين.

كان أغلب تلك الجماعات من الرهبان العلمانيين، إلا أنه سينضم لهذه الجماعة أربع شخصيات هامة، سيضفي وجودهم داخل المحافظين لونًا خاصًا على تطورها، مما جعلهم يُلقبون بالأعمدة الأربعة وهم: القديس برناردينو من سيينا، والقديس جوفاني من كابيسترانو، والقديس جاكمو من ماركه، والطوباوي البرتو من سارتيانو. كان لهذا النمو في تغيير طابع الجماعة المُجددة التي كانت تحافظ بشكل كبير على حياة النسك والتأمل في أماكن بسيطة فقيرة، على عكس نمط الحياة الذي تتبعه الجماعة الكبرى بامتلاكها أديرة كبيرة وأصبح رسالتهم شبيه بما يقوم به الكهنة الإيبارشيين من خدمات رعوية. لقد حافظ أعمدة المحافظين الأربع على الرغبة في العودة للمثال والنموذج الأول في الرهبنة، من خلال حياة الفقر الإنجيليّ، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، ولكن يحسب لهم إدخال عنصر الدراسة والعلم وبالتالي العمل الرسوليّ بالوعظ والتبشير.

عانت تلك الجماعات من الإضطهادات الكثيرة عبر فترة طويلة إلى أن سمح لهم البابا أوجنيو الرابع في العام 1446 بعقد مجامع رهبانية خاصة بهم وأن ينتخبوا لهم رؤساء محليين وإقليميين وتكون لهم نفس السلطة القانونية التي للرئيس العام للديرييين. إلا الرئيس العام لكل الرهبنة هو الرئيس المُنتخب من جماعة الديريين، بينما رؤساء جماعة المحافظين ” مُفوضين أو وكلاء” Vicari، له”.

في العام 1517 أصدر البابا ليون العاشر، وثيقة “اذهبوا أنتم” Ite vos، التي أقرت إنه من الآن وصاعدًا يتم انتخاب الرئيس العام لكل الرهبنة من الجماعة المحافظة، وأن رئيس الديريين يكون لقبه “المُعلّم العام. فكان الاعتراف بشكل قانونيّ بجماعة المحافظين، بعد جهود دامت طويلاً بهدف إصلاح رهبنة الأصاغر. فسلّم البابا لجماعة المحافظين الختم الخاص بالرهبنة ليصبح لها “الأوليّة القانونيّة”Primato giridico.

  • جماعة الإخوة الأصاغر الكبوشيون

إن الاسم الشعبيّ لهذه الجماعة هو الكبوشيون، الذي يرجع في الأصل إلى شكل “الكبّوت” Cappuccio، الملتصق بالثوب على عكس الطريقة الطبيعية لدى باقي الإخوة. تتسم حياة الكبوشيين بالفقر الشديد، وحياة التأمل وروح الصلاة نهارًا وليلاً. وكانت تقوم معيشتهم على التصدق والاستعطاء اليوميّ، ولباسهم فقير للغاية، لحاهم طويلة ويقطنون الأماكن المنعزلة. وكان نشاطهم الرسوليّ قَائِمًا في الأصل على الوعظ الشعبيّ والعمل اليدويّ وأعمال الرحمة الروحيّة منها والماديّة. وُلِدَتْ الجماعة الكبوشيّة نتيجة لرغبة البعض لعيش حياة فرنسيسكانيّة أصوليّة، على اعتبار أن الوضع السائد كان مغايرًا لما عاشته الجماعة الرهبانيّة الأولى.

بدأت بذور نشأة هذه العائلة تتفتح بعد سبع سنوات من إعلان المرسوم البابويّ “اذهبوا أنتم” في 1517. وأول من فتح الطريق يُدْعَى ماتّيو من باشو[13] Matteo da Bascio، كاهن من إقليم ماركه التابع للمحافظين مقيم في دير مونتى فالكونى Montefalcone، الذي أراد أن يعيش قانون فرنسيس ووصيته دون تعديل، فعاش في حياة تقشف، واتّخذ له ثوبًا خشنًا وخاط فيه كابّوتًا، مختلفًا عن المستخدم عند باقي الرهبان. وافق البابا كليمنس السابع شفهيًا على نمط حياة ماثيو في العام 1525، إلا إن الرئيس العام للرهبنة، تخوفا من الحركات البروتستانتية، قبض عليه وحبسه في دير فورانو. أُخلى سبيله بعد فترة فكرس حياته للوعظ وعمل الخير.

اتبع نهج ماثيو مجموعةمن الرهبان، على رأسهم، لودوفيكو من فوسومبرونى da Fossombrone. وأخيه رافائيل ففضلا الانعزال في دير بعيد رغبة في العيش وفقا لقانون ووصيته. وحصلا في النهاية على قرار بابوي من البابا كليمنس السابع في العام 1528 الذي سمح لهم بأن يحيوا حياة نسكية وأن يتجولوا في الحقول للوعظ والتبشير، وأن يرتدوا ثوب مميز، على شكل “الكبّوت” Cappuccio، الملتصق بالثوب على عكس الطريقة الطبيعية لدى باقي الإخوة، وأن يعيشوا القانون في جملته. تم الاعتراف من قبل البابا كليمنس السابع ومنحهم لقبًا قانونيًا: الإخوة الأصاغر النُساك. وفي العام 1619 تحررت الجماعة بشكل تام من رباطها مع الأخوة الأصاغر الديريين.

[1]– الكهنة المساكين في رأي القديس فرنسيس هم الذين بسببهم تكون الشكوك عند المؤمنين كنتيجة لسلوكهم.

[2]  L. IRIARTE, Storia del francescanesimo, Napoli 1982, p. 211.

[3] متى 10: 7، 9-10؛ لوقا 9: 3-6

[4]  K. BIHLMEYER. – H. TUECHLE., Storia della chiesa, II, ed. Italiani a cura di I. Rogger, Brescia 1966, p. 566.

[5]–  تسمي الوثيقة البابوية الوسيط Nuntius، أو Muntius، وهو وسيط علمانيّ بين المتبرعين والرهبان، ويقوم دوره أساسًا على جمع التّبرعات وحفظها والتّصرف فيها.

[6]–  وصيّة القديس فرنسيس، البند 122، واردة في، Fonti Francescane, Scritti e biografie di san Francesco dAssisi, p. 101..

[7] L. IRIARTE, Storia del francescanesimo, Napoli 1982, p. 553.

[8] نعتمد في مبحث انقسام الكيانات الفرنسيسكانية الثلاث على بحث عماد كامل، رهبنة الإخوة الأصاغر، النشأة والتطور، “صوت الحق” 617(2013)، ص 47- 70.

[9]– يُحفظ النصّ الأصليّ للقانون المُعتمد في الدير المقدس بأسيزي Sacro convent d’Assisi، التابع لجماعة الإخوة الأصاغر الديريين.  LOMBARDI, Storia del francescanesimo, p.370.

[10]– نقصد الفصل الثاني عشر من القانون المعتمد.

[11]– G.BOVE., “Luogo”, in dizionario francascano, pp. 901 – 916.

[12]– يُعد جوفانّي من فاللى أول من بدأ حركة الإصلاح في الرهبنة الفرنسيسكانيّة في القرن الرابع عشر. انضم لرهبنة الأصاغر بدخوله دير القديس فرنسيس بفولينو، وكان كاهنًا مثقفًا. طلب سنة 1334 أن يعيش في منسك وذلك ليبتعد عن حياة التساهليّة، فبدأ العيش في دير بروليانو مع أربع رفاق. عاش هناك سبعة عشر عامًا في الصلاة والتأمل مع الإماتات والتقشف. مات سنة الرابع من أبريل سنة 1351. http://www.lamiaumbria.it/scheda_comuni.asp?pag=1673.

[13]– ولد ماتّيو في بلدة باشو سنة 1495، انضم لمنسك (دير طابعه تقشفيّ بحسب نذر الفقر) الأصاغر المحافظين في مونتى فالكونى ونال السيامة الكهنوتيّة سنة 1525. بعدها ترك الدير باحثًا عن موافقة الكنيسة ليستطيع عيش القانون الفرنسيسكانيّ بشكل أكثر صرامة. مات في فينتسيا 1552. راجع، Mariano D”ALATRI, “Matteo da Bascio”, in dizionario degli istituti di perfezione, vol. V, ed. paoline, Firenze, 1978, pp. 1069 – 1071.

قد يعجبك ايضا
اترك رد