علم اللاهوت الرعوي (3): البدايات حتّى النصف الأول من القرن العشرين
الفصل الأول
تطور اللاهوت الرعوي في الكنيسة الكاثولكية
يُعتبر إنّ تاريخ علم اللاهوت الرعوي، كمادة تعليمية، تاريخًا حديثًا للغاية. بيد أنّ هذا لا يعني أن المسيحية لم تكُن قد قامت بصياغة فكرة عن ممارساتها وعملها قبل ظهوره[1]. وعلاوة على ذلك لو عدنا للوراء، كان العالم اليهودي يعرف بفعل التفكير النقدي بشأن طريقة تنظيم شعب الله، وكيفية إدارة العلاقة مع الله والعلاقة الدينية، وكيفية معايشة التزاماته الأخلاقية، الخ[2].
كما عرف آباء الكنيسة تأملات مفيدة جدًّا ولها ثقلها في هذا الصدد (القواعد الرعوية، للقديس غريغوريوس الكبير)[3]، ولكن كل هذه الأفكار لم تدفع أبدًا السياق الكنسي إلى تنظيم الفكر حول هذه المواد في علم تخصصي محدَّد، بكيانه المادي والشكلي، ومنهجه، وصلاحياته وأهدافه[4].
ترجع أصول علم اللاهوت الرعوي إلى “الإصلاح الكاثوليكي” الذي تمَّ إقراره في المجمع التردينتيني، خاصة في جلسته الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين في إعادة تنظيم هيكلية الكنيسة ورُتّب الكهنوت واختيار الأساقفة وتحديد واجباتهم الرعوية، وضروة عيش كل أسقف في إيبارشيته الخاصة، كذا واجبات الرعاة وتأسيس مدارس اللاهوت لتدريب الإكليروس على واجبات الراعي الرعوية.
بعد إنتهاء أعمال المجمع التردينتيني زاد الاهتمام بالتكوين الكنسي للرعاة، وعلى كافة الدراسات اللاهوتية التي تُحقَّق التنشئة الجيّدة لرعاةٍ جديرين بخدمة الإنجيل، واعتمدت برامج التكوين تلك على الاهتمامات اللاهوتية في تلك الحقبة التاريخية، خاصة لمواجهة التيار البروتستانتي. العودة إلى ينابيع المصادر الكتابية والآبائية وإلى تاريخ الكنيسة والعقائد الراسخة بذلك التاريخ، ومن خلالها تمَّ استخلاص البرامج الرعوية التي عملت على توفير المعرفة الكاملة للرعاة المستقبليين وطرق حل المشكلات، والاستفادة من العلوم المختلفة.
ظهر بذلك أول كتاب خُصِصَ لبحث واجبات الكهنة الرعوية: l’Enchirdion theologiae pastoralis للمطران Pietro Binsfeld في العام 1591، مظهرًا “للقواعد الواجب تَوفُّرها في الكهنة المنوط بهم الخدمة الرعوية”، والتي تم الاعتماد عليها في امتحانات المتقدمين لسرَّ الكهنوت. هي قواعد قانونية لممارسة الأسرار المُقدَّسة.
هناك محاولة أخرى لتبويب واجبات الكهنة ظهرت في دليل الكاهن الذي أصدره Ludwig Engel في العام 1661 والذي عُدَّ دليلَ الرعاة في القرن الثامن عشر، والذي أعيدت طباعته خمسة عشرَ مرَّة في مائة عام. كذلك دليل Johannes Opstraet (1651- 1720)، مدرس اللاهوت بلوفان والذي حقَّق نجاحات كبيرة في أوساط الرعاة، والذي تمت طباعته في عام 1698م، والذي اعتمد عليه ستيفان راوتنستراوخ في وضع التصوُّر الأوّل لعلمٍ عن اللاهوت الرعوي.
الأسباب التي أدَّت إلى ظهور علم اللاهوت الرعوي
حدث التنظيم الراهن لفكر علم اللاهوت الرعوي بدافع من عوامل خارجية في نهاية القرن التاسع عشر. فقد نُسِّق شكل محدَّد جدًا لعلم اللاهوت الرعوي، استمرَّ بدون انقطاعات كبيرة حتى القرن العشرين، عندما ظهرت أربعة عوامل رئيسية في داخل تاريخ المادة التعليمية، فأحدثت فيها تأثيرًا وتعديلًا، وطورتها بطريقة مفيدة حقًا.
هذه العوامل الأربعة هي:
- إدراج العلوم الاجتماعية في التفكير اللاهوتي-الرعوي (التي أتت من هولندا من خلال “حركة الاهتمام الرعوي” وتعليم علم المعارف عن علوم الأنشطة)؛
- خبرة إرسالية فرنسا كمعمل اختبار للرعوية (الشجاعة في مناقشة أساسيات التنشئة الاجتماعية التي تدعم الكيان الكنسي)؛
- المجمع الڤاتيكاني الثاني بدوره الترويجي لتجديد الفكر على الصعيد الرعوي (الإصلاح: تصوُّره المرتبط بفكرة تحديث شكل الكنيسة ووجودها في المجتمع)؛
- وضع اللاهوت الرعوي ضمن نطاق التخصصات اللاهوتية (صدور كُتيّب اللاهوت الرعوي، الذي يعتبر أول انفتاح للاهوت الكلاسيكي تجاه هذا الفهم الجديد للتاريخ والمجتمع).
قبل أن نتفحَّص هذه العوامل الأربعة، سنُخصِّص الفصل الأول للفترة الممتدة من بداية اللاهوت الرعوي (1774-1777) حتّى النصف الأول (تقريبا) من القرن العشرين.
البدايات حتّى النصف الأول من القرن العشرين
- فرانز ستيفان راوتنستراوخ (1734-1785)
بعد قمع جمعية رفاق يسوع، ظهر على الساحة فرانز ستيفان راوتنستراوخ (1734-1785)، الراهب البندكتي، فقد تلقى تكليفًا من ماريا تيريزا ملكة النمسا وچوزيف الثاني، ليقوم بمهمة تنظيم مسار الدراسات اللاهوتية للإكليروس. وفي إطار إعادة التفكير في شكل علم اللاهوت تصدَّر الساحة في البداية تعليم عشوائي للغاية (في إطار مشروع من أجل تنظيم أفضل للمدارس اللاهوتية في عام 1774)، صار فيما بعد متخصِّصًا وتنظميًا (إنشاء المنهج التعليمي العملي في عام 1777) ” لواجبات الخادم الرعوي وتفعيلها”، وفقًا لمواصفات خدمته الثلاثية (الكهنوتية، النبوية، الملكية).
- أولا، واجب التعليم، وهذا يعني هنا ليس مجرَّد تدريس الحقيقة العقائدية، بل وتدريس الإنجيل كمفتاح أخلاقي، أي كقاعدة الحياة تؤدّي إلى السعادة؛
- ثانيا، واجب الإدارة وتوزيع الأسرار المقدسة، مع توجيهاته الليتورچية والتنفيذية؛
- وأخيرًا واجب التنوير، المقابل لتنشئة لا المسيحي الصالح فقط، ولكن أيضًا (في ضوء إصلاح الدراسات) المواطن الصالح (كان الكاهن لديه أيضًا صلاحيات مدنية حكومية).
يتطلَّب واجب التنوير أن يكون الراعي أكثر استعدادًا لفهم كيفية تطبيق الحقائق العقائدية في الحياة الاجتماعية والبيئة الثقافية التي يعيش فيها. فلا يقتصر دوره على الناحية الروحية فقط، ولكنه يمتدُّ ليشمل الناحية النفسية والاجتماعية، مما فتح الباب أمام أهمية دراسة العلوم الاجتماعية المختلفة التي من شأنها مساعدة الرعاة في تنشيئة إنسان مسيحي صالح في مجتمعه.
يأتي تركيز راوتنستراوخ على إعادة تنظيم منهج اللاهوت ليشمل الصبغة التطبيقية في الحياة الاجتماعية والرعوية، ليدلَّ على التَّصادم بين القيم المسيحية والتيارات السائدة في المجتمع في تلك الحقبة الزمنية. ازدهرت بعد المجمع التريدنتي تيارات تستهدف توطيد دعائم خطة الإصلاح التي جاء بها المجمع، والتي تركزت بالتحديد على واجبات الإكليروس في رعاية النفوس، وساد الاعتقاد بأن مِن شأن تحديد تلك الواجبات الرَّدّ على أزمة تنامي التيار البروتستنتي وحِصارها، عن طريق تكريس اهتمام خاصّ بالخادم الرعوي (الإلزام بإقامة الأساقفة في إيبارشيتهم وكهنة الرعايا، وإقامة المعاهد الإكليريكية وغيرها)[5]. تضمَّنت قرارات المجمع التريدنتي بشأن الإصلاح (الجلستان 23و24) في الواقع تخطيطًا متناسقًا يهدف إلى إعادة تأسيس مبادرة كنسية للخروج من الأزمة التي تتعرض لها الكنيسة.
حتّى وإن كان مفهوم اللاهوت الرعوي قد بدأ مختزلاً في فكر راوتنستراوخ، من حيث ارتكازه فقط على مجال الخدمة الرعوية، إلا أنّنا يجب أن نعترف أنّه قَّدمَ تصوُّرًا للصورة “المثالية” التي يجب أن يكون عليها الراعي، بصورة حدَّدَت كثيرًا هُويَّة اللاهوت الرعوي، تلبية لمطالب الزمان الذي عُقد فيه المجمع التريدينتيني.
في هذه المراحل المبكرة، انّحصر الخطاب اللاهوتي الرعوي -بلا صواب ولا حق- في هُويَّة/وتنشئة/وممارسة خدمة الراعي. ولم يكن ممكنًا صياغته إلا انطلاقًا من المُعطى التاريخي والكنسي والاجتماعي السائد في تلك الحقبة. لذلك حاولت المقترحات والقرارات المجمعية الاستجابة لموقف، يضع الممارسة الرعوية على الفور في موضع تساؤل، وبشكل أعمق يتعرّض لدور الراعي وهُويَّته ومستوى تكوينه اللاهوتي والثقافي. وضعت قرارات المجمع مارسات الكنيسة ككل في موضع تحليل وتساؤل في مدى ارتباطها بالإنجيل الذي يجب أن تُبشِّر به وبالعالم الذي تُبشِّر فيه.
بدأ واضحًا صعوبة هيكلة هذه المادة التعليمية سواء من حيث كيانها الشكلي أو من حيث كيانها المادي: كيف نتأكَّد من توصّل هذا العِلم لفهم المفاهيم اللاهوتية المحتجبة خلف الأشكال الاجتماعية للبشارة بالإنجيل، أو تلك الحبيسة في الصورة الجماعية والاجتماعية للكنيسة؟
في الفترة التي تلت مباشرة إنشاء كرسي أكاديمي لعلم اللاهوت الرعوي ظهرت سلسلة من الكُتّيبات، بالإضافة لبعض مجلدات، مُكرَّسة لهذا الموضوع، وتأثرت بأشكال مختلفة بالإصلاح الذي حدث في ڤيينا. يُمكن أن يشار إلى هذا الانتاج بأنّه “أوائل الكتب الإرشادية” لعلم اللاهوت الرعوي (راجع التعميق أدناه)، من بين هذه الكُتّيبات الإرشادية كانت هناك تلك ذات التوجّه “الكتابي-اللاهوتي”. الممثل الرئيسي لهذا التوجه هو اللاهوتي يوهان مايكل سايلر (1751-1832) من مدرسة توبنجن، وقد يحاول أن يعطي أساسًا كتابيًا لعمل راعي النفوس، وبهذه الطريقة، يمنح الصفة اللاهوتية للعِلم الرعوي، متجاوزًا ما عرضته كتيبات دليلية أخرى اقتصرت على تركيبة منظمة من التعاليم أو الدروس الموجهة للراعي أو الكاهن الذي يعتني بالنفوس[6].
فريدريك دانيال إرنست شليرماخر (1768-1834)
الطريقة التي تفاعل بها عالم كنائس الإصلاح مع هذه العملية لإعادة هيكلة المعارف اللاهوتية كانت مختلفة. فالمخطط الذي يفرض نفسه هو ذلك المرتبط بإعادة التنظيم التي قام بها فريدريك دانيال إرنست شليرماخر (1768-1834) الذي يُعتبر أبا علم اللاهوت العملي، وقد ارتبط بفكر لوثر (الذي قال: “اللاهوت الحقيقي هو العملي”)، وفي عمله “عرض موجز لدراسة اللاهوت، لغرض إعداد محاضرات تمهيديّة” (1810) استهدف إعطاء أساس علمي للمادة العلمية.
نقطة البداية هي مفهوم علم اللاهوت باعتباره “علمًا إيجابيًّا”، من الدرجة الثانية مقارنة ب “العلوم البحتة” (والتي وفقًا لشيلينج هي موضوع الفلسفة): فيهدف الأول إلى تحقيق أهداف ملموسة تملك الوجود الإنساني، والآخر إلى الحقائق المطلقة.
إنّ الصياغة التي يعطيها للمعارف اللاهوتية ثلاثية الجوانب:
- هناك أولًا “اللاهوت الفلسفي”، الذي يتناول طبيعة العقيدة المسيحية؛
- ثم “اللاهوت التاريخي”، الذي يعود من الجوهر إلى الأصول التاريخية؛
- وأخيرًا، “اللاهوت العملي”، الذي يُعرّف بأنّه المعارف المتصلة بمزاولة نشاط قيادة الجماعة المسيحية في الكنيسة.
إذًا، المعارف اللاهوتية ثلاثية الجوانب، تاريخي وتنظيمي وعملي على غرار النهج التفسيري التقوي للكتاب المقدس (الفّهم الدقيق، التفسير، التطبيق)، وهو النمط السائد في كنائس الإصلاح في القرن السابع عشر.
فيندرج اللاهوت الرعوي إذن تحت تقسيم “اللاهوت العملي” لكونه مادة تبحث في مجال تطبيقات علم اللاهوت كما اعتبرها شليرماخر، وهي “تاج” علم اللاهوت (فقد رأى فيها علم يندرج تحته اللاهوت الأدبي). كما أنّ التوجه العملي، وفقا لشليرماخر، أمر أساسي في علم اللاهوت بكامله.
بهذه الطريقة يَّتخذ هذا العلم خاصية وظيفية أساسية:
- فهو علم إيجابي في خدمة المعارف العملية؛
- يهتم “بقيادة الجماعة الكنسية” (كاستراتيجية لاهوتية تُطبّق على الكنيسة بالفعل أو تجريبيًّا).
- النطاق المُحدَّد لاختصاصات اللاهوت العملي هو تحديد الإجراءات أو المعايير العملية التي يجب تفعيلها من أجل التنفيذ الفعَّال للمهام الكنسية (وبهذا المعنى تكون “تقنية”)، ويكون تعريفها منوط باختصاصات اللاهوت الفلسفي والتاريخي.
وضَّحَ شليرماخر، في الطبعة الثانية لعمله البحثي، المقصود بمصطلح “قيادة الجماعة” الذي أراده بمعناه الواسع، بخلاف المعنى السائد القاصر على “النخبة” المنوط بها قيادة شعب الكنيسة وفقًا للمفهوم اللاهوتي الكاثوليكي، يبدو توضيح شليرماخر تنديدًا على استحواذ الإكليروس على الخطاب اللاهوتي بصفة عامّة وخطاب اللاهوت الرعوي بصفة خاصّة، غير أنّه يجب أن نُدرك أيضًا أنّ “هذا التفسير مرجعه إلى قراءة جزئية لفكر شليرماخر، الذي يعطي وزنًا خاصًّا للجميع في دائرة العلاقة نُخبة – جماعة”[7].
إنّ تصنيف “التقنية” الذي تُصنّف به مهمة اللاهوت العملي هو أيضًا مصدر صعوبة، لأنّه مُعَرَّض بشدة أيضًا إلى أن يُفسّر بمعنى تطبيقي في الغالب، على الرغم من اختلاف قصد شليرماخر. ففي الواقع:
- من ناحية إنّه يُّحدّد بأنّ اللاهوت الرعوي ليس مجرد ممارسة بقدر ما هو “نظرية للتطبيق العملي”.
- ولكنه من الناحية الأخرى، يُسند مهامًا نظرية للاهوت الفلسفي، تلك المهام التي بالعكس ستكون من اختصاص اللاهوت الرعوي، وبالتالي فهو يحلّها بمعنى عملي- تطبيقي. بهذه الطريقة تظلّ الحالة المعرفية للاهوت العملي بلا تحديد.
زد على ذلك، كونه لم يُحدد كيفية أن يكون هذا العلم هو “تاج الدراسة اللاهوتية” يفتح الطريق إلى ثنائية قطبية في تعريفه:
- فمن جانب إنّه يُبّرز بشكل غير مريح طبيعته العلمية، وعمليًا، يُقلل من شأنه فيجعله مجرّد تطبيق لنتائج علوم لاهوتية أخرى؛
- أمّا من الجانب الآخر، فإنَّ الطابع النظري الذي يزعمه يُشكِّل صعوبة عند صياغة علاقة مقبولة خاصّة به مع الممارسات.
أنطون جراف (1811-1867)
اختلف كثيرًا وبحسم أنطون غراف (1811-1867)، الذي ينتمي إلى مدرسة توبنجن وتلميذ يوهان آدم مولر[8]، عن شليرماخر في تصوره لعلم اللاهوت الرعوي، كما أنّه بيّن المخاطرة التي ارتكبها شليرماخر، لمحاولته تركيز مهام اللاهوت العملي على مشاكل القيادة الكنسية، “فقصر اللاهوت بأكمله على مجرد وسيلة محضة واستبعد تمامًا الفائدة العلمية البحتة”.
في رأي جراف، شليرماخر نجح بالتأكيد في تجاوز الرعوية ما قبل العلمية، ولكن بدون إنجاز بنيان عِلم لاهوت عملي قائم على أُسس علمية حقيقية، بل على العكس من ذلك: “ترك اللاهوت العملي على حاله السابقة، العملية البحتة، كمجرَّد تعليمات بسيطة للخدمة في الكنيسة، وخَفَضَ اللاهوت النظري إلى ذلك المستوى، فقضى على الجوهر والاستقلالية العلمية لعلم اللاهوت الرعوي”.
لقد سلك جراف الطريق المعاكس، ففي بحثه المنشور عام 1841، تحت عنوان “عرض نقدي للموقف الحالي للاهوت العملي”، حاول رفع علم اللاهوت العملي إلى المستوى النظري. وبهذا عكس مفهوم النظرية والتطبيق: “إنّ علم اللاهوت العملي لا وجود له لأنّ هناك اهتمام عملي غالب في علم اللاهوت، ولكن هذا وذاك موجودان لأنّ الكنيسة هي واقع يبني نفسه”. وردًّا على تجريبية رعوية معينة أكّدَ بأنّ الشأن العملي موجود بالتأكيد في علم اللاهوت الرعوي – بقدر أكثر صلة مقارنة باللاهوت العقائدي – من حيث إنّه يهتمّ “بالبنيان الذاتي” للكنيسة وبأن “نكون فعّالين فيها”، ولكن هذا لا يعني التنازل عن المصلحة العلمية، فبذلك ينتهي أمره فلا يعود فيما بعد علمًا لاهوتيًا.
ينعكس التفكير في المحورية اللاهوتية لفكرة الكنيسة بمجملها المتجانس ككيان فاعل ومتطور على المفهوم اللاهوتي الذي يطرحه اقتراح جراف.
فعلم اللاهوت، وفقًا لجراف، يجب أن يتفهَّم ذاته على أنّه “الوعي الذاتي العلمي للكنيسة” (وليس فقط قيادة الكنيسة، وكل أساليب وتقنيات القيادة)، الذي موضوعه اللاهوتي أيضًا هو الكنيسة . الآن الأبعاد الموجودة في الكنيسة ثلاثة، وهي تشير إلى ماضيها، وإلى جوهرها الإلهي غير القابل للتغيير الذي يُقيمها، وإلى المستقبل التي هي مدعوة لبنيانه. بالتالي من هنا تنبثق الفروع الثلاثة لعلم اللاهوت:
- لاهوت الكتاب المقدس والتاريخي، الذي موضوعه الجانب الكتابي والتاريخي للكنيسة.
- اللاهوت المنهجي (العقائدي والأدبي)، الذي يدرس الجانب النظري، أو الجوهر غير القابل للتغيير الذي للكنيسة؛
- اللاهوت العملي الذي يتعامل مع الجانب العملي، أو الذي يُحرِّك الكنيسة، ويعمل على بنيانها الذاتي.
إن كان من الممكن تعريف علم اللاهوت بأنّه “المعرفة من خلال الكنيسة وعن الكنيسة”، بالتالي حينئذ يكون تعريف اللاهوت الرعوي هو “عِلم ونظرية الكنيسة التي تتشكّل، وتتحرك، وتُبنى في المستقبل”.
في ضوء هذا النهج لعلم الكنيسة الذي يستردّ الموضوع الشامل لعمل الكنسية في العالم، يحاول جراف أيضًا تجاوز المفهوم الإكليروسي لعلم اللاهوت الرعوي (المؤشر على هذا المعنى هو استخدام مصطلح اللاهوت العملي وليس اللاهوت الرعوي). لكن الواقع يقول بإنّ جراف عندما عمل على صياغة المادة، طرح لاهوتًا رعويا لأولئك الذين يشغلون المناصب الكنسية، ومع ذلك تبقى قيمة النظام الكنسي، الذي على الأقل له منظور أوسع: إذ يتعلَّق الأمر بتعلُّم قراءة حركية بنيان الكنيسة وتطوُّرها باعتبارها حدثًا لاهوتيًا. لذا ينبغي التساؤل قبل التفكير في مهام مجموعات معينة داخل الجسم الكنسي (مهام الكاهن أو الأسقف)، بشأن التنمية الشاملة للجسد الكنسي بأكمله. إنّ بنيان كنيسة المستقبل هو مسألة لاهوتية في نفس مستوى دراسة مصادر الوحي الإلهي والتخطيط النظري للفكر المسيحي؛ وهو من الطبيعة الفائقة الطبيعة والسامية للكنيسة، باعتبارها رمزًا، التي يمكن منها استنتاج خصائص الكنيسة التاريخية.
يظلُّ اللاهوت الرعوي بمثل هذه الطريقة من التفكير معزولًا بالرغم من ذلك، لعدم وجود من يقوم بتنفيذ هذه الطريقة في التفكير الذي يبدو:
- من جهة متطرفًا جدًّا ومكلفًا بالنسبة لعلم لا يزال يُنظر إليه على أنّه استرشادي، ومجرَّد مُلحق تطبيقي لعلم الكنيسة الكلاسيكي.
- ومن الجهة الأخرى لا يزال ضئيل المقدرة في قراءة التاريخ كموضع لاهوتي يُظهر المعنى الحقيقي للممارسة المسيحية وكذلك موضع لتجلّي الكنيسة.
بيد أنّ فكر جراف ظلَّ في طي النسيان حتّى استرجعه كارل راينر، فعاد اللاهوت الرعوي ليكون، من بعد جراف ففيما بعد، دليلًا استرشاّديًا قانونيًّا- إداريًا يتضمن مهام الراعي القائم على “رعاية النفوس”.
تعميق الموضوع: الكُتّيبان الاسترشاديان الأول والثاني[9]
أ) التناول “العملي” تناول اللاهوت الرعوي، في الفترة التي أعقبت تأسيس القسم الخاصّ به مباشرة، مهمّة إجراء التنفيذ العملي للبرنامج المُحدَّد، في سلسلة من الكُتّيبات التي أُعدَّت كأداة تعليمية مساعِدة في عملية التدريس، القواعد التي استهلّت “المنهج التعليمي العملي” اشترطت أن يُراعى مخطط راوتنستراوخ عند تجميع النصوص. في غضون عشرين عامّا تمّ نشر أحد عشر كُتّيبًا استرشاديًّا، أُعيد طبعها عدَّة مرات. بل وبلغ الأمر أيضًا إلى توصية رسمية بواحد منها للأخذ به في جميع كليّات اللاهوت. تضمنت هذه الكُتّيبات نظامًا مشتركًا إلى حدٍّ كبير. ويجوز أن نُشير لهذا الإنتاج كأول الكُتّيبات الاسترشادية في اللاهوت الرعوي. ولقد غطّى الفترة المُمتدة من 1780 إلى 1850. كما أنّه في الواقع قد رسم شكلًا محددًّا للاهوت الرعوي، الذي بصرف النظر عن بعض المتغيرات المتعلّقة بثقافة ذلك الزمن، يُقدّم ذاته على أنّه قراءة محدَّدة للهدف اللاهوتي الرعوي. ترتكز الخصائص التي تتضمنها هذه الفكرة في اللاهوت الرعوي على شخص الراعي كمسئول عن النشاط الرعوي، وعلى ما يمكن تسميته “إضفاء الصبغة العلمية”. يُضاف إلى هذا الهدف المُعيّن الخاص بالرعوية، الذي يُمكن تعريفه بمصطلح الاستخدام “المدني” للخدمة الرعوية. تُحدّد الخاصيتان الأولتان شكل علم اللاهوت الرعوي؛ وتنُصّ الثالثة على الاشتراطات الاجتماعية الثقافية التي تعمل بموجبها الخدمة الرعوية. يضع أول كتيب عن الرعوية مركز الثقل في شكل الراعي. في أعقاب اقتراح راوتنستراوخ، تأتي في المُقدِّمة ضرورة تزويد الكنيسة برعاة ذوي تنشئة جيدة. وكافة الكُتّيبات لم تجد أيّة مشكلة في مسألة موضوع الرعوية. ومن الواضح وبلا منازع أن “الراعي” يجب اعتباره الموضوع الوحيد والحصري للنشاط الكنسي. أي أنّ حصر عمل الكنيسة في نشاط الراعي هي مسألة سلمية وبدون تحفظ. كذلك نجد غيابًا للاهتمام بأساس لاهوتي لخدمة الكاهن الرعوية حيث يسود وصف وظائفها ضمن هيكل النظام المدني والكنيسة. إنّ وصف الواجبات المرتبطة بالمهمّة الرعوية يستنفذ التعامل مع الشأن الرعوي، يتأثر تنفيذها بالتالي حتمًا بالروح التنويرية للعصر الذي تعيشه الكنيسة، يعالج الراعي النفوس، أي يهتمّ بقيادة النفوس إلى السعادة الأبدية، وفي حدود الممكن، إلى السعادة الدنيوية أيضًا”. إنّ راعي النفوس هو “مُعلِّم الدين”، الذي يسعى جاهدًا للتوصية والنُصْحِ بدوافع دينية، تنتج انطباعًا أكثر عمقًا ودوامًا في الناس، أي بالأحرى تلك السلوكيات التي يجب على الدولة الحصول عليها بدلًا من ذلك بقوة القوانين والعقوبات الجنائية. فإذا كان الشأن الأخلاقي يتطّلب الاهتمام عن كثب “براعي النفوس” وواجباته، فإن هناك قصدٌ معيّن من الاقتصار على المفهوم الأخلاقي للدين: “نحن لسنا في المُقام الأوّل مُعلّمين فوقيين للشعب بل ببساطة مجرَّد معلِّمين يقومون بوصف الحكمة والفضيلة ( حتّى وإن كان من الممكن في بعض النواحي أن نُسمّى مُعلّمي أصدق الحكمة وأنبل الفضائل) … بيد أننا بدلًا من ذلك نحن مُبّشرون بالوحي الإلهي، وسيلة مُثلى للتنشئة وتعليم الأخلاق والدين”. علم اللاهوت الرعوي لا يركِّز إذن على الراعي فقط، ولكنه يجعل من الكاهن كمرسل حصري ومُبشر بالوحي الإلهي. اللاهوت الرعوي إذن “يُعلِّم رجل الكنيسة كيف يُطوِّرُ بشكل مناسب وبأمانة مُهمّته الخاصة، وبالتالي يُربّي الناس على كمال الروح والقلب بنحو متزايد دائمًا”. إنّ مناقشة الشأن الرعوي هي على مستوى إعادة تناول الخبرة بشكل توصيفي، إنّه بحث عن أفضل تنظيم للنشاط الكنسي الحالي، دون الانشغال المفرط بمناقشته مناقشة نقدية. لذلك يتمُّ تصفُّح واجبات راعي النفوس كما هي مُعاشة وفقًا لأنماط الزمان، التي تتكرّر، يشمل الدليل، في الواقع، المادة التي كانت بالفعل موضوع الممارسات الرعوية السابقة. إلّا أنّ الجديد نسبيًا هو البحث عن فهرسة منظمة للمادة الرعوية برمتها، فقد عّمد الدليل على وصف واجبات الراعي ومحاولة إعادة تنظيم الممارسات الجارية في هذا المجال، دون الاهتمام بالفهم الكامل للتفاصيل الكامنة وراء هذه الممارسات الرعوية. إنَّ تحقيق غرض الاكتمال الماديّ في عرض الواجبات الرعوية يتطلَّب توضيح ما يتعلَّق بالواجب الثالث: الفَهم الكامل للتفاصيل الكامنة وراء الممارسات الرعوية، وفقا لتوجيهات راوتنستراوخ إن هذا الواجب يتعلق، أولا، بشخص طبيب النفوس وأخلاقيات المهنة (واجب إعطاء المثل الصالح)، ثم تُنسََّق، بعد ذلك، كُلّ القضايا المتعلِّقة بالمستفيدين من المعالجة الرعوية. غَيَّر راوتنستراوخ أيضًا اسم الواجب الثالث، الذي أطلق عليه: “رعاية النفوس” (الكلمة الألمانية تعني علاج النفوس)، “قيادة الجماعة”، “المهمة الرعوية”. في الوقت نفسه، اعتبر القضايا المتعلقة بشخص الراعي، في المرحلة المبدئية، مُقدِّمة عامة عن اللاهوت الرعوي. الغرض من النقاش والتعليم هو غرض عملي- تفعيلي بحت، بل هو “تمهيد لطريق” الراعي نحو التنفيذ الصحيح لواجباته في رعاية النفوس. يضعنا هذا على المستوى التقني البحت لتعليمات تنفيذ الواجبات الرعوية، وبالتالي فإنَّ “علم رعاية النفوس” أو “اللاهوتيات الرعوية” هو “توجيه عقلاني لتنفيذ المُهمّة الرعوية بشكل لائق” أو تمهيد الطريق لتنفيذ لائق لواجبات رعاية النفوس. بالتالي بهذا التعليم ينتج أنّ مُسمّى “لاهوت رعوي” هو مُسمّى غير دقيق وغير لائق. بل يجب أن يُقال من الأفضل “تعليمات الرعوية”، من حيث إنّه يوفر لرجال الإكليروس مسارًا تمهيديًا لتنفيذ المُهمَّة بالشكل الأمثل الموافق لجماعته بحسب القوانين والوصايا الإلهية، والتنظيمات الكنسية والمدنية المحلية. بالتالي ينتج عن ذلك التقليل من الطبيعة اللاهوتية لهذا العِلم، التي سعى راوتنستراوخ إلى تأكيدها. هذا التعليم، لطبيعته الفنية، لا يُشكّل بُعدًا أساسيًّا في المسيحية أو في الكنيسة. لذا لا يمكن وصفه بالصفة اللاهوتية، ولعل هذا مرجعه إلى أن هدفه غير لاهوتي: “قيل إنّ هذه المادة التعليمية هي أيضًا عملية أو تطبيقية أو رعوية-لاهوتية. لكن كٌلّ هذه الأسماء هي تسميات غير مُحدِّدَة للمضمون، حيث إنّ مهنة رجال الإكليروس لا تُشكِّل فرعًا معينًا من علم اللاهوت، ولكنها تطبيق للاهوت الشامل، فبدلًا من ذلك ينبغي أن يُطلق عليها ‘ممارسة لاهوتية‘”. كونها ليست ذات طبيعة لاهوتية يعتمد أيضًا على الخاصية العملية للتعليم، التي لا يُمكن أن تدَّعي الكرامة النظرية للعِلم اللاهوتي. التعليم الرعوي هو في الواقع بيان لواجبات ومهام المسئولية الرعوية، جنبًا إلى جنب مع تعليمات لتنفيذها بشكل صحيح. لذلك، فيما يتعلق بعلاقتها “باللاهوت العقائدي”، “فإنّها ليست مادّة تعليمية مختصة من العلوم اللاهوتية، وإنّما تعليم حول كيف يجب أن يؤدَّي علم اللاهوت إلى التطبيق والممارسة بالطريقة الأكثر إثمارًا. إنّه يُدخِل في الحياة العملية الدارِس الذي لديه بالفعل معرفة بالمواد العلمية اللاهوتية ويُبين له كيفية استخدامها بالطريقة الأفضل في خدمة مفهوم ما قد منحه له العلم لإدارة المسئولية الرعوية بفعالية مُقدَّسة. فهذا العِلم إنّما يهدف إلى تأهيل الدارِس لممارسة المسئولية الرعوية. ولهذا فإنّه يحتاج إلى كل التخصصات اللاهوتية الأخرى؛ ولكن بدون تحديد معيّن”. لذا فإنّ الطابع اللاهوتي لهذا العلم إنّما هو طابع عارِض: “لأنّ دراسته مُعطاة بشكل تنظيم وحيث إنّ اللاهوت متداخل فيه جزئيًا، حينئذ أُطلقت عليه التسمية ‘اللاهوت الرعوي‘”. ب) الاشتقاق”التطبيقي” عاش اللاهوت الرعوي، في الفترة الزمنية المُمتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتّى ستينيات القرن العشرين، في حال من الاستقرار في المفاهيم الأساسية. لم يحدث التغييرات التي تمّت، عبر هذه الفترة الطويلة، تعديلاً جوهريًا في الإطار الأساسي، فكافة محتوياته النظرية مأخوذة من اللاهوت العقائدي ويعتني اللاهوت الرعوي بتطبيقها على الحال الملموسة والواقعية. فالنظرية اللاهوتية هي أساس التطبيق العملي والممارسة. يمكن أن نُقسَّم تلك الفترة التاريخية إلى ثلاثة فصول متتالية، تطور فيها اللاهوت الرعوي بصورة مختلفة ومميزة: الفترة المُمتدة من منتصف القرن التاسع عشر حتّى الحرب العالمية الأولى؛ فترة ما بين الحربين؛ وما بعد الحرب العالمية الثانية. يتميّز النصف الثاني من القرن التاسع عشر بانتعاش في إصدار الكُتّيبات الدليلية الخاصة باللاهوت الرعوي. فقد نُشرت كُتّيبات دليلية جديدة، حلّت محلّ تلك التي سبقتها في التعليم وفي الدراسة الجامعية، بتصورات متبدلة وفقًا للمفهوم الجديد للاهوت الرعوي. نستطيع أن نُطلق على هذه الفترة “فترة الكُتّيبات الدليلية الثانية”. إنّها فترة إعادة الصياغة وتطوير شكل اللاهوت الرعوي، التي سوف تكون مقبولة بالإجماع فيما بعد. توقف في الفترة ما بين الحربين إنتاج الكُتّيبات الدليلية واستكشاف مجالات أخرى لصياغة مفهوم الرعوية. إنّها فترة خلط الأوراق، سواء فيما يتعلّق بهيكلية اللاهوت الرعوي وسواء فيما يتعلق بالتعديلات التي أُدخلت في سياق المرجعية. أمّا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فهي قابلة للتوسيع، من وجهة نظر شكل اللاهوت الرعوي، فيما وراء الحدود التاريخية الضيقة، وصولًا إلى الستينيات، وربّما حتى فيما بعد المجمع الڤاتيكاني الثاني. إنّها فترة مؤقتة أساسها الانتظار، شهِدت اندفاعات لتيارات مختلفة جنبًا إلى جنب بدون استبعاد أيّ منها في إطار للمقارنة المتبادلة بين تلك التيارات. فمن ناحية “مدرسة” اللاهوت الرعوي (الفلسفية) تُكرر بنمطية النموذج الذي أصبح راسخًا، وتتخذه أساسًا وحيدًا وبلا منازع للحديث عن الرعوية، ومن الناحية الأخرى تنتعش نماذج جديدة في الرعوية، من نوعية “الرعوية الشاملة”، التي يجب أن يُقاس بها المفهوم اللاهوتي الرعوي. وُلدَ دليل اللاهوت الرعوي الذي صدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في سياق كنسي تميّز بتغير في المناخ عن الفترة السابقة مباشرة، فقد تغيرت وجهات نظر لاهوتية مع ظهور المدارس الفلسفية الجديدة. كما أنّ الابتعاد عن ثقافة العصر أدى إلى فقدان تواصل الكنيسة مع الظواهر التاريخية وانطوائها واكتفائها الذاتي. في هذا السياق اتخذت مرجعية الكرسي الرسولي ملامحًا أكثر وضوحًا في الكنيسة، حدَّدَ شكل “السلطة التعليمية”، بمعنى ممارسة وظيفة التعليم بسلطة ومسئولية. والمقصود بهذا الشكل عادة هو سلطة البابا التعليمية، فلم تكن بعد قد شملت الأساقفة. لقد انعكس التغيير في الإطار الثقافي والرعوي على إعادة الصياغة اللاهوتية الرعوية، في سياق الكتّيب الدليلي عادة ما كانت تُناقش هذه المسألة في التمهيد، وذلك بتحديد النظام اللاهوتي والرعوي المُتبع. لَخصت مقدَّمات تلك الكُتّيبات على الناحيتين: اللاهوتية والعملية، مع بيان ما يميّز ذلك الدليل عن تلك الكُتّيبات التي سبقته. يجعل الاختلاف في درجة ميول هذين البُعدين نموذج اللاهوتي الرعوي الأساسي مُختلِفًا عن سابقه. يُصنَّف علم اللاهوت الرعوي في سياق علم اللاهوت، بل وكعنصر ضروري في علم اللاهوت. وعلم اللاهوت بدوره يُصنَّف بمرجعية إلى “علم ملكوت الله”، وهناك ثلاث جوانب “لملكوت الله” يقابلها ثلاثة فروع في علم اللاهوت: اللاهوت التاريخي والكتابي، العقائدي والأدبي، العملي. فما هي غاية اللاهوت الرعوي؟ ووسائل بلوغ هذه الغاية؟ غاية اللاهوت الرعوي هي “بناء ملكوت الله وإتمامه على الأرض”. هنا يأتي دور الكنيسة وبنيانها وتشكيلها المستمر في المستقبل”. الكنيسة قائمة “بين السماء والأرض”، إذ تعمل كجسر بين البشر وعرش الله، أمّا وسائل بلوغ هذه الغاية فهي “المُهمّة النبوية، والمُهمّة الكهنوتية والمُهمّة الملوكية”، التي للمسيح. هذه “المُهمّة الثلاثية” يمارسها المسيح من خلال الكنيسة والكنيسة يجب أن تمارسها “من خلال الكهنة باتصالهم الحيوي مع الجماعات”. بالتالي، موضوع اللاهوت الرعوي هو “النشاط الإلهي-البشري للكنيسة”. لذلك، الأمر لا يتعلَّق بالكاهن كفرد، لكنه يتعلَّق بالكاهن باعتباره “عضوًا في جسد المسيح والكنيسة”. وفي “الدوائر الكنسية” هو “ممثل ووسيط لمهمّة الوساطة الدائمة التي للمسيح على الأرض”. إنّ المنهجية تحكمها العلاقة القائمة بين المعرفة، وهي خاصية اللاهوت النظري، والعمل، وهو خاصية اللاهوت العملي. تؤثر المعرفة بالضرورة في العمل، ويجب العمل أن يتطور من خلال المعرفة: “الممارسة يجب أن تكون تطبيقًا للنظرية”. المعرفة من جانبها، وبالتالي النظرية، موضوعها هو الجوهر وليس المحتوى. فاللاهوت الرعوي “النظري” لا يتبع تبدل الثقافات وتغيّر الأزمنة، وإنّما هو قائم بذاته دائمًا، ثابت لا يتغيّر، في كل الأوقات وفي كُلّ الأماكن. في هذه الحالة، “المبدأ التوجيهي” هو إرادة المسيح والكنيسة. وفي سبيل أفضل ترجمة للمبادئ يجب أن نسعى بالتأكيد لمساعدة الخبرة العملية: “البديهيات الحقيقية تظلُّ بلا جدال فيها، لكن طريقة التنفيذ لا بُدّ أن تدعمها خبرة وطيدة بشكل مناسب ومُرضي”. وفي كل الأحوال، الخبرة ليست هي الخبرة الفردية، ولكن خبرة الكنيسة. تبدلَّت الكُتّيبات الدليلية للاهوت الرعوي بعد الحرب العالمية الأولي، ولم يقتصر التغيير على الصيغة التحريرية، ولكنه كان تغييرًا نَجمَ عن مناقشة مستفيضة لموقف اللاهوت الرعوي في إطار الأزمة العالمية وانهيار المجتمعات، الشيء وما يلفت النظر هو تفكيك النظرة الشاملة لعلم اللاهوت الرعوي الأساسي وإفساح المجال لمناقشة التخصصات الرعوية الفردية: “العناية الخاصة بالنفوس” أو “الإرشاد”، “التعليم المسيحي”، “الوعظ”، “الليتورچيا”. تتكَّلم دوافع ذلك التغيير عن التوسع في المسائل الرعوية الذي صار غير قابل للتحكُّم فيه واختلاف الطرق المنطقية بين التخصصات. بالتالي، تفترض الاستراتيچية الناجحة للتنمية المستقبلية في الفكر الرعوي تطويرًا منفصلًا في كل مجال من مجالات الرعوية. حدث كذلك استنكارًا لعدم قدرة نظام الكُتّيبات الدليلية على أن يأخذ في الاعتبار الوضع التاريخي والثقافي. إلاّ أنّ الانتقادات لم توجّه إلى بنية المعرفية المتضمنة فيها. وظلَّ الاعتراف قائمًا بوجود عناصر أساسية ودائمة في علم الرعوية تتضمَّن مساحة للمبادئ المطلقة والثابتة في العلم الرعوي. أمّا وجه القصور فقد تركَّز في التفاصيل غير الكافية للطرق المحدَّدة لتطبيق المبادئ، حيث بدا العرض غير محسوب وإشكالي. تتعلَّق الشكوى بعدم تعليق أهّمّية كبيرة على عامل “الزمن” في النشاط الرعوي، على أساس افتراض يعتبر واضحًا وبلا نقاش بأن القواعد الذهبية للرعوية متوفِّرة دائمًا بالفعل وتحتاج فقط للتنفيذ بطريقة فنّية مثالية. وبالتالي يتطلب تسريع القضايا الرعوية أدوات أكثر مرونة في التحليل والمناقشة لمواجهة القضايا التي يثيرها صدام “رعاية النفوس” مع الظروف الإنسانية الجديدة في الوقت المناسب وبشكل صارم. بالإضافة لذلك عزَّز الفصل بين التخصصات الرعوية التداخل في توجهات “الرعوية” و”اللاهوت الرعوي”. فما كان فرعًا من الرعوية بالمفهوم الشامل انتقل الآن إلى تمثيل الرعوية بمجملها، بل أنّ تغيير المُسمّى في حدَّ ذاته يجلب معه أيضًا تحولًا في المعنى: “الرعوية” تبدو من جديد شيئًا آخر مختلف عن “اللاهوت”فارتباط الرعوية باللاهوت تمّ تمريره من خلال شخص الراعي: أي أنّ اللاهوت يخدم الرعوية بشكل غير مباشر، من خلال التدريب اللاهوتي السليم لراعي النفوس. مهمة الرعوية، إذًا، هي الاسترشاد باللاهوت العقائدي في ذلك العلم اللاهوتي الذي يخدم خلاص النفوس بشكل مباشر. بالمقارنة مع علم اللاهوت، فاللاهوت الرعوي، أو الرعوية، ببساطة، هو مجرد واقع تعليمي. أو محصلة ونتيجة طبيعية عند تطبيق علم اللاهوت العقائدي. الرعوية هي نتيجة طبيعية لعلم العقائد، تستمد منه المبادئ الأساسية التي تبني عليها ما تعرضه: فهي تهتم بتطوير النتائج العملية للثوابت العقائدية. العقلية اللاهوتية السائدة، التي تعترف بسيادة علم العقائد إلى حدّ مطابقة علم العقائد وعلم اللاهوت، احتفظت “للرعوية” باعتراف لاهوتي فقط بالمعنى الاشتقاقي والثانوي. ظهر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية المحتويات المختلفة الكامنة في الرعوية وفي مجال اللاهوت الرعوي. فمن جهة حدثت عودة للاهتمام بالمكانة العلمية واللاهوتية لهذا العِلم، ولكنها قصدت أيضًا اتخاذ الحساسية الجديدة بالواقع التاريخي بشكل موضوعي. بجانب هذا العمل الأكاديمي نوعًا ما، تزايد الاهتمام “بالرعوية الشاملة”، التي تتضمن حوافزًا جديدة لفهم مهمّة الرعوية. كان تنظيم علم اللاهوت الرعوي قد تحوّل حينئذ إلى “علم إرشادي” أو “علم رعوي بالمعنى الدقيق للكلمة”، يستخدم باستمرارية الدعم المفاهيمي الذي توفّره نظرية المعرفة الأرسطية-المدرسية. إنّ مفهوم المعرفة كمعرفة تبدأ بالمبادئ والتمييز بين العلوم التي تنطلق من مبادئ واضحة والعلوم “الفرعية البديلة” التي تندرج مبادئها من العلوم الأرقى منها، أتاح تحديد الطابع العلمي واللاهوتي لعلم اللاهوت الرعوي انطلاقًا من مبدأ خاص به، شامل وضروري، ومن إمكانية المناقشة الاستنتاجية. المحتويات مستمدة من أدب الكُتّيبات الدليلية، أمّا المبدأ الخاص فيكمُن في مضمون تكليف يسوع للرسل بالبشارة في متى 28: 19-20، الذي يعمل بمثابة مادة إيمانية، ويشير التكليف بالبشارة أما إلى مرجعية الحقائق الشاملة والضرورية أو إلى انتباه الرجال الذين عليهم أن يحملوا ويوصلوا الخيرات الخلاصية. وبالتالي فإنه يغطي المجال الموضوعي للرعوية بكامله. تحمل صياغة المبدأ القواعد النظرية لعلم اللاهوت الرعوي. وتتخذ المكاسب المعرفية في التفكير اللاهوتي الرعوي شكل “خلاصة لاهوتية”، في مناقشة استنتاجية الفرضية الكبرى فهي تتأسس من خلال مبدأ إيماني معين في اللاهوت الرعوي والفرضية الصغرى قائمة على مقترح إيماني آخر أو يمكن أن تتكون من اقتراح ذي طبيعة عقلانية. إنّ فرضية “معارف الحياة البشرية” موكولة إلى “استخدام” نتائج العلوم الدنيوية، وخاصّة علم النفس وعلم الاجتماع، واستخدام هذه العلوم “المُساعِدَة” ينبغي، مع ذلك، أن يتم “بارتباط” بالقوانين الأساسية للاهوت الرعوي، المتأتية من المبادئ العليا الموحاة. يقدِّم علم الاجتماع وعلم النفس استنتاجاتهما للاهوت الرعوي، ولكن ضمن حدود صارمة متبعة: فموضوع التحقيق مُقترح عليهما من قِبل اللاهوت الرعوي، والنتائج ليست تنفيذية بشكل مباشر؛ التحليل نفسه ليس ملائمًا لأنّه لا يمكن أن يأخذ في الاعتبار العوامل الفائقة للطبيعة. إنّ اللاهوت الرعوي والعلوم المساعدة يشكّلان بالتالي كُتلتين معرفيّتين متميزّتين. بيد أن تكاملهما يتأتي من خلال “اقتباس مثمر من العلوم الإنسانية، يكون على مستوى اللاهوت”. المادة التجريبية، “المُنسَّقَة علميًا، تُقدم إلى اللاهوت الرعوي الذي يسلط الضوء عليها، ويفسرها، ويستخدمها وفقًا لمبادئ الوحي”. موضِع هذه العملية هو “الوحدة الروحية للعالِم اللاهوتي”، “بالتغلغل في وحدة أعلى” خاصة “بالحكمة”. وبالتالي فإن النهج اللاهوتي الرعوي هو على حد سواء: “تحليلي أو استنتاجي”، فيما يتعلق بمعرفة المبادئ اللاهوتية؛ و”وصفي أو استقرائي”، من حيث جمع وترتيب البيانات التجريبية. إنّ اللاهوت الرعوي يقوم على “حكم مُركَّب” ذو جانبين مترابطين. يطرح التأكيد مجددًا على الطابع العلمي للمادة التعليمية مسألة “تطبيقها العملي”. لأنّها كعِلم هي تعليم عقائدي عن المبادئ، ولسد الفجوة بين مبادئ العلم وخبرة راعي النفوس يتمّ إدخال شكل وسيط من”الفن” الرعوي، “كسبب صحيح” للنشاط الرعوي. هذا الشكل يستمد مشروعيته من التأكيد على استمرارية حضوره في التقليد الرعوي. أمّا مفهومه فيتحرك في سياق فضيلة “الفطنة” ووظيفته متخذة من تحليل المدارس الفلسفية للفعل البشري. يتمّ بتلك الطريقة الحفاظ على كونهما عِلم بمثابة معرفة لمبادئ، وممارسة رعوية كنتاج لخبرة، من حيث خصوصيتهما وتواصلهما معًا عن طريق المقدرة الوسيطة التي” للفن” . |
[1] B. Seveso – L. Pacomio (cur.), Enciclopedia di pastorale. I. Fondamenti, Piemme, Casale Monferrato (AL) 1992, pp. 37-137.
[2] L. Pacomio, Scrittura, in Enciclopedia di pastorale, pp.256-263; L. Pacomio, Teologia Pastorale e azione pastorale, (Manuali di base n. 35), Piemme, Casale Monferrato (AL) 1992; G. Villata, L’agire della Chiesa. Indicazioni di teologia pastorale, EDB, Bologna 2009, pp. 12-17.
[3] G. Magno, La regola pastorale, (Collana dei testi patristici n. 28), Città nuova, Roma 1981²; G. Villata, L’agire della Chiesa, pp. 22-23.
[4] G. Villata, L’agire della Chiesa, pp. 17-34.
[5] من بين الإصدارات التي ظهرت في هذا السياق، يمكن أن نذكر: خلاصة اللاهوت الرعوي التي نشرها الأسقف المساعد في تريڤيري، پييترو بينسفيلد عام 1591، والتي تهدف إلى عرض العقيدة الضرورية للكهنة الذين يديرون رعاية النفوس؛ وعمل لودڤيج إنجل – دليل الكهنة الرعاة عام 1661- الذي يعتبر من بين الأكثر شيوعًا في القرن الثامن عشر؛ دليل الراعي الصالح الذي أصدره يوهانس أوپسترات عام 1698، الذي تُرجم لاحقًا إلى الألمانية وأوصى به راوتنستراوخ كمرجع اساسي (راجع: M. Midali, Teologia pratica, pp. 25-26).
[6] M. Midali, Teologia pratica, 31; H. Windisch, La pastorale come l’autorealizzazione della Chiesa, pp. 153-155; G. Villata, L’agire della Chiesa, pp. 35-36.
[7] M. Midali, Teologia pratica, p. 75.
[8] أستاذ التاريخ الكنسي، الذي انتقل من “تنظيمية” اللاهوت الكنسي إلى “معايشة” اللاهوت الكنسي، بعد بداية في الخط المضاد للإصلاح أو البلارمياني . فقد خرج من اختصاص “النظام” من خلال إعادة اكتشاف التراث الآبائي.
[9] B. Seveso, Appunti per il corso di introduzione alla teologia pastorale, dispense del corso di Teologia pastorale fondamentale tenuto alla FTIS nell’a.a. 2000-2001, pp. 67-71.