إنه عدَني ثقة فأقامني لخدمته

الأمانة في الحياة المكرسة

0 768

ما هي أكبر مشكلات  التكريس؟ هل صعوبة النذور الثلاث: الفقر والعفة والطاعة؟

  • كثيرًا ما تكون الطاعة عبء ثقيل على كاهل المكرس لأنها تتطلب تسليم كامل لإرادة الله، كما فعل المسيح في حياته الأرضية. يُسلم المكرس حريته الشخصية لآخر ويعطي القرار لآخر بطواعية واحترام وتواضع ويضع كل حياته وإرادته ومواهبه تحت تصرف الآخرين. وكثيرًا ما يتعرض المكرس إلى ظلم من جانب الرؤساء، لكن الطاعة المحققة في هذه الظروف الظالمة والغير عادلة لأن الخير المحقق من قبول وتنفيذ قرارات الجماعة الرهبانية والرؤساء يتخطى العيب والخلل وعدم العدالة في ذات القرار. ففي طاعة المكرس، حتى في الأمور التي تحتمل الغبن والظلم، إعلاء لمحبة الله ولخير الجماعة.
  • وأحيانًا ما تكون العفة عبء أكثر ثقلا على نفس المكرس، فهناك شريعة أخرى يتطلبها الجسد، عليه أن يتغلب عليها بعيش نوع من الحميمية مختلف تمامًا عما يعيشه الإنسان الطبيعي. يعيش ملء الحياة مع الله ويمتلئ بحضوره ويعطي قلبه وجسده بالكامل لله. تكمن العفة الكاملة في الروح أكثر منها في الجسد، فيعيش المُكَرس مع رفيق دربه والذي يحيا معه كل شيء، وكافة مواقف الحياة. إذا حفظ المُكَرس عفة الجسد حفظًا طبيعيًا وسيطر على الحركات الجسدية وكبحها فإن يعيش عفته بطريقة سلبية، وتصبح العفة حِملاً ثقيلاً ينوء تحته فيلازمه التوتر.
  • كذلك الفقر يمكن أن يصبح مشكلة كبيرة للمكرس إذا اهتم بالأشياء المادية دون الاهتمام بخالق كل شيء ودون أن يتخلى داخليا ويتحرر من عبودية المال. إنّه اشتراك حقيقيّ وواقعيّ وحياتيّ بفقر يسوع المسيح الّذي أخلى ذاته من ذاته الأزليّة آخذًا صورة عبد وهو ابن الله الوحيد. على الرّاهب أن يفتقر عمليًّا ويكنز له كنزًا في السّماء ويعمل على الاتّكال على العناية الإلهيّة من دون الإفراط بالاهتمام بأمور الدّنيا.
  • والبعض يشعر بثقل الجماعة الرهبانية، فهو يعيش مع أشخاص لم يختارهم بل يقبل ما يقدمه الله من أخوة وأخوات ليرافقونه ويتقاسموا معه مسيرة الحياة. إلا أن الحياة الجماعية هي مكان رهيب فيه تتجلي محدوديتنا وأنانيتنا. فعندما نعيش مع آخرين بصورة مستمرة, أكتشف فقري وضعفي وعجزي عن التفاهم مع البعض من رفاقي. أكتشف انغلاقي واضطراب حياتي العاطفية والجنسية، ورغباتي التي لا ترتوي، احباطي وحسدي وبغضي ورغبتي في التدمير. طيلة بقائي وحدي كنت أتصور أنني أحب كل الناس. ولما وُجدت مع آخرين أدركت عجزي عن الحب، ورفضي للحياة مع الآخرين. الحياة الجماعية هي كشف مرير لما في كياني من ضعف ومحدودية ومناطق مظلمة.

والبعض يرى في الرسالة مشكلة خاصة كبيرة لا يستطيع احتمالها.. وهكذا كل عنصر من عناصر حياة المكرس هو مشكلة في حد ذاتها. فهل الحياة المكرسة هي حياة مستحيلة؟؟ هل لا يستطيع الإنسان أن يكون مكرسًا في هذه الأيام؟

هناك أساس واحد يمكن أن يساعد المكرس في عيش هذا النمط من الحياة “الغير طبيعي” وهو الأمانة!!

كيف يعيش الإنسان حياة غير مزيفة؟ حياة حقيقية؟

أحد الرهبان بلغ الرابعة الثمانون من العمر، وكان في حياته قاسيًا جدًا مع أخوته وفي جميع المسئوليات التي تولاها في حياته الرهبانية وصل أخيرًا إلى منزل خاص بالآباء المسنيين. كان حريص أن ينزوي في حديقة الدير ليصلي أمام تمثال للقديس تريزا للطفل يسوع التي توفت في سن الرابعة والعشرين من العمر. أعتاد أن يصلي بصوت عال، فسمعه يومًا أحد الرهبان الشباب القائمين على خدمة المسنيين وهو يقول: “يا قديسة تريزا، إذا كنت عشتِ حتى عمر الرابعة والثمانون مثلي الآن، لما أصبحت قديسة. لأنه من السهل أن يكون الإنسان قديس عندما يموت صغير في السن، لكن من الصعب أن يكون أمين لدعوته لوقت طويل، فيصل في النهاية لما عليه أنا الآن”.

بحث علم النفس كثيرًا في الدوافع الأساسية التي تحرك الإنسان وهناك ثلاث مدارس رئيسية. في البداية اعتقد فرويد أن الدافع الأساسي هو اللذة. ثم جاء ألفريد أدلر قال بأن دافع الإنسان الأساسي هو البحث المتواصل عن المكانة والقوة والسلطة. وأخيرًا فرانكل الذي كان سجينًا لدي النازيين، توصل أن الدافع الأساسي هو البحث عن المعنى لهذه الحياة. لكن أخيرًا هناك نظرية لعالم النفس دونالد وينكوت الذي أشار إلى أن الدافع الأساسي للإنسان هو البحث عن علاقة عاطفية مشبعة، فتظهر ذاته الحقيقية وتزدهر إذا تلقى الإنسان حبًا وقبولاً غير مشروطين من خلال احتضان جيد وتقدير جيد من الوالدين.

إذا لم يحصل الاحتواء يكون الإنسان الذات الدفاعية أو الذات المزيفة، وهي عبارة عن مجموعة من ميكانيكيات الدفاع النفسية غير الناضجة وغير الواعية مثل الإنكار والكبت والتبرير فيغرق في حياة كاذبة وغير حقيقية تساعده على التعايش مع بيئة فقيرة بالمحبة والقبول.

لا شيء غير أن يكون صادقًا. هي أن تكون كلمات الإنسان متوافقة مع كيانه الداخلي. هل يقول أشياء هو يعلم أنها كذب؟ هل يفعل أشياء هو يعلم أنه لا يجب أن يفعلها؟ يرغب الناس في الحقيقة ويريدون الحقيقة في حياتهم، لكن الحقيقة هي إننا نهرب من الحقيقة لأننا نخاف أن نَظهر على حقيقتنا. نخاف أن نكون ذواتنا، نخاف أن نَظهر ضعفنا.

أن العزم على عيش الحقيقية صعب جدًا يقتضى حياة منضبطة جدًا.. وفحص دائم ويومي لتحليل المشاعر السلبية ولحظات الضعف. فإذا ما رأينا أحد أفراد الجماعة في حالة نجاح في حياته، رسالته، محبة الآخرين له، نكتشف أن لدينا مشاعر ضغينة. علينا التوقف عند تلك المشاعر والتفكير لماذا أنا غير سعيد لأن أحوال الأخ جيدة؟ على ما يدل ذلك؟ أنه الاستعداد لرؤية المشاعر المتعبة والاستعداد بعدها للغوص في هذه المشاعر وفهمها. ولن نعفل ذلك ما لم نؤمن أن ايضاح هذه المشاعر أمرٌ مفيد. أن بذل الجهد المعنوي للأفصاح عن تلك المشاعر ضروري للغاية. لكن إذا لاحظنا حياتنا ورأينا أنها لا تسير كما ينبغي وأننا لسنا أقوياء كما ينبغي وأن الأمور تؤلمنا أكثر مما يمكننا أن نحتمل وأننا في قلق وغير سعداء، عندها يمكن أن نسأل أنفسنا ربما هناك أمورً هامة لا نعرفها. وعندها يمكن أن نبدأ في التنبه لانفعالاتنا العاطفية المتعبة على أمل أن نتعلم منها شيئًا ما.

إذا تنبهنا إلى مشاعرنا السلبية وقبلنا حقيقة أننا قد نكون على خطأ وبدأنا بالاستماع للشخص الآخر ليخبرنا أين أخطأنا، عندها قد لا نكرر الخطأ نفسه للأبد. إذا جزء من الحل هو أن نضع مخاوفنا في المكان المناسب. يجب علينا أن نخاف من تكرار أخطائنا أكثر من خوفنا من مواجهة نتائج تلك الأخطاء في الوقت الحاضر. هذه هي الحكمة، التي تدفعنا لعلاج المشكلة من الجذور.

الجميع يملكون القدرة على التوقف عن قول ما يعرفون أنه ليس الحقيقة وهذه بداية جيدة. لكن يجب أن نكون لدينا الرغبة في تصحيح الأمور. يجب علينا أن نوجه ذواتنا نحو التقدم الداخلي، كأن يكون موقفنا من الحياة هو السعي للأفضل، وأننا نريد أن نُحسن حياتنا، ومن ثم نأخذ على عاتقنا قرار عدم التورط في الخداع عالمين أن استخدام الخداع يجعل الأمور اسوأ.

الأمانة للتكريس

لنأخذ مثلا من داوود الذي بالرغم من أخطائه الكارثية، إلا أن الرب لم يتخلى عنه كشاول، لماذا؟

كان داوود صادقًا معترفًا بأخطائه ومشاعره السلبية ويسعى دومًا إلى تصحيحها. ذهبت أَبِيجايل لداوود، لتشد أزره وتذكره بأن لا يفقد ثقة الربّ فيه ويسفك دمًا: “28 واغفِرْ مَعصِيَةَ أَمَتِكَ، فإِنَّ الرَّبَّ سيُقيمُ لِسَيِّدي بَيتًا ثابِتًا، لأَنَّ سَيِّدي حارَبَ حُروبَ الرَّبّ، ولم يوجَدْ فيكَ سوءٌ كُلَّ أَيَّامِكَ. 29 وإِذا قامَ رَجُلٌ لِيُطارِدَكَ ويَطلُبَ نَفْسَكَ، كانَت نَفْسُ سَيِّدي مَحْزومة فِي حُزْمَةِ الْحَيَاةِ مَعَ الرَّبِّ إِلَهِكَ. وأَمَّا أَنفُسُ أَعْدائِكَ، فيَقذِفُ بِها في كِفَّةِ المِقْلاع” (1 صموئيل 25: 28- 29).

تصف أَبِيجايل داوود بالشخص الذي لم يحارب لنفسه أبدًا، فكيف يرغب في سفك دم لأجل هدف شخصي (بقتله نابال زوج أَبِيجايل الذي رفض أن يعطي معونة لداوود وجيشه). تقول أَبِيجايل لا يصح أن تجلس على العرش وتتذكر إنك قد حاربت يوما لهدف شخصي، لا ترتكب هذه الحماقة، عش لأجل قضية تستحق: حياتك محزومةٌ فِي حُزْمَةِ الْحَيَاةِ مَعَ الرَّبِّ إِلَهِكَ. لقد دعاك الرب مسيحًا له، فثق أنه معك سيُقيمك ملكًا كما وعدك.

التكريس أن تكون حياتك محزومةٌ في حُزمَة الحياة مع الرب إلهك، وتتصرف على هذا الأساس يوميًا. تسعى أن تكون صادق وأمين، معترف بالاخطاء والمشاعر السلبية وأن تسعى دوما للنمو الداخلي والعيش بأمانة. “فلْيَعُدَّنا النَّاسُ خَدَماً لِلمسيح ووُكَلاءَ أَسرارِ الله، وما يُطلَبُ آخِرَ الأَمرِ مِنَ الوُكَلاءِ أَن يَكونَ كُلٌّ مِنهُم أَمينًا” (1 كورنثوس 4: 1- 2). الله أمينٌ: “وإذا كُنا خائِنينَ بَقِيَ هوَ أمينًا لأنَّهُ لا يُمكنُ أنْ يُنكِرَ نَفسَهُ” (2 تيموثاوس 2: 13). المشكلة هي في قلب الإنسان المتقلب والغير ثابت. وعلى هذا يتم تقييم مكرسيه: “وأما عبدي موسى… هو أمين في كل بيتي” (عدد 7:12).

عيش النذور الرهبانية دون أمانة تخلق مكرسًا يعيش حياة مزيفة.. ليس المقصود بأن لا يكون مبذرًا للأموال، أو غير مطيع لرؤساه، أو غير طاهر القلب والجسد فقط.. أن يكون أمينًا تعني أن تكون حياته محزومةٌ في رباط واحد مع الرب إلهه. أن يحيا ويفكر ويعمل دائمًا  لاجل الرب إلهه.

قد يعجبك ايضا
اترك رد